هل يمكن للعراق أن يصبح… سعودياً؟!
د. وفيق إبراهيم
تتسارع المحاولات الأميركية السعودية لمنع العراق من الالتحاق الرسمي والنهائي بالمحور السوري الإيراني الروسي وحزب الله.
وهنا، تذهب السياسة الأميركية لتحقيق مأربها باتجاه وسيلتين الضغط الداخلي على بغداد طائفياً وعرقياً، وبواسطة العقود والمعاهدات التي تربطها بواشنطن، والثانية، تتجسّد بالسعودية الطامحة بدورها إلى إبعاد أراضي الرافدين عن حلفها مع إيران. فتتشابك المصالح وتتوحّد تحت رايات التهديد باستخدام الوجود العسكري الأميركي تارة، والفتنة السنّية الشيعية طوراً، وتأجيج الخلاف مع الكرد مرة ثالثة. والدليل أنّ معلومات موثوقة تربط بين أدوار المخابرات السعودية والأميركية، وبين مجموعات إرهابية تخترق المؤسسات الأمنية في بغداد، وتفجّر بين المدنيين والعسكريين في كلّ مكان، وفي أيّ وقت، فتتسبّب بالفوضى.
أمّا مناسبة هذه القراءة، فهما زيارتان منفصلتان لأغراض تبدو في الظاهر منفصلة، لكنّها في العمق شديدة الترابط.
وفيما استقبلت الرياض أول أمس وزير الخارجية الأميركي تيلرسون، الآتي لوساطة في الأزمة الخليجية، تودّع بعد يومين رئيس وزراء العراق حيدر العبادي الذي يزورها للتوقيع على عدد من الاتفاقيات الثنائية، واتفاقية مجلس التعاون السعودي العراقي.
لجهة تيلرسون، فقد أعلن عن هدفه من الزيارة، لكنّه اعترف بأنّ المصالحة لن تتحقّق في وقت قريب، الأمر الذي يشير إلى أنّ المعلن غير المضمر. فلماذا يأتي إلى الخليج إذن، طالما أنّ المصالحة صعبة؟
لأنّ إدارة ترامب تستشعر ضرورة الحدّ من الاندفاعة العراقية نحو إيران، فتحرّك الكرد طوراً، وتتخلّى عنهم في كركوك طوراً آخر.. وتشجّع الرياض مرة ثالثة على تهيئة العراق لتقبّل فكرة «عراق فدرالي» مستقلّ، أقرب سياسياً إلى السعودية منه إلى إيران، مقابل وقف العمليات الإرهابية وإقفال الحدود العراقية السوريّة إلا للتبادلات التجارية والانتقال. وهذا يتطلّب تأسيس أربعة أقاليم كردية ومسيحية إيزيدية وسنّية وشيعية في إطار الدولة الاتحادية.
بهذه الطريقة فقط تتأكّد واشنطن والرياض أنّ خطوط موسكو طهران نحو منطقة المشرق العربي أصبحت مقفلة بإحكام، وتتأكّد أيضاً من امتصاص فورة الدولة السوريّة مع تحجيم دورها إلى مجرّد كيان سياسي لا تربطه بجواره علاقات عميقة، ومقطوع الاتصال مع حلفائه.
وهكذا يتّضح أنّ تيلرسون في الرياض ومصر والخليج لأهداف إيرانية صرفة، تريد تمتين الطوق الأميركي حول طهران وإجهاض الأدوار الروسية المرتقبة والمتصاعدة برويّة وحكمة مع كثير من الاقتدار.
أمّا الرياض، فترى أنّ فرصتها تاريخية لإعادة نسج علاقات مع بغداد قد تفصلها عن إيران، رغم أنّها تعرف صعوبة القطع العدائي بين البلدين، لذلك فطموحها لا يتعدّى مسألة تحييد بغداد فقط عن الصراع الإيراني السعودي، وليس استعمالها وسيلة للاحتراب مع طهران. فهي تعرف أنّ معظم العراقيين يعترفون بالدور الإيراني الذي رفع عنهم غائلة إرهاب سافك للدماء، وكانت تدعمه السعودية وتركيا وقطر.
والملاحظ أنّ الرياض في اندفاعتها العراقية، إنّما تعترف بانتصار الفريق السوري الإيراني الروسي، وبنجاح العراقيين في القضاء على الإرهاب. لذلك تسارع إلى عقد صفقة مع العراقيين تقوم على نزع حالة الاحتراب التاريخية بين البلدين، وتوسيع قاعدة المستفيدين من العلاقات الاقتصادية والخدمية، بما يؤدّي إلى تخفيف الضغط الإيراني الذي يطوّق السعودية، كما يقول حكّامها، من جهتَيْ اليمن والعراق. ويهدّدها في البحرين، سارقاً منها قطر ومحيّداً عُمان.
وتعتبر مصادر أكاديمية أميركية أنّ تراجع الكرد حتى حدود إقليم كردستان نموذج 2003، إنّما هو نتاج تسوية مع فئات عراقية تريد تكريس أقاليم طائفية وعرقية نهائية في العراق، تحقق طموحات واشنطن والرياض في آن معاً.
بناءً عليه، فإنّ اللقاءات العراقية السعودية الأميركية، إنّما تندرج في هذا الإطار، وهدفها الوحيد هو منع تشكّل دولة عراقية قوية في الإقليم العربي والخليجي، تستطيع بتحالفها مع روسيا وإيران أن تحتلّ موقعاً متميّزاً على الخريطة السياسية لـ «الشرق الأوسط»، فتشلّ الدور التخريبي السعودي، وتخفّف الضغوط عن اليمن والبحرين.
أمّا إذا تمكّنت هذه الدولة «الافتراضية» من التنسيق مع الدولة السورية، فبوسعها ممارسة مقاومة ناجحة في وجه «إسرائيل»، والحدّ من النفوذ الأميركي وإعادة جذب مصر نحو المحور العربي، كما تسهّل الدور الروسي الساعي لتعبئة الفضاءات السوفياتية السابقة.
من هنا، يمكن تفسير هذا الشبق السعودي نحو بغداد، والإصرار الأميركي على عدم إطلاق سراحها. لكن دون تحقيق الأمنيات الأميركية السعودية في العراق أربع عقبات كبيرة، لن تتيح لواشنطن أن تحقّق مشاريعها وهي بحالة هزيمة، نتيجة لخسارة حلفائها في التنظيمات الإرهابية المدعومة من السعودية وتركيا وقطر و«إسرائيل».
يوجد أولاً العراق نفسه، المحكوم بتوازنات داخلية لها النفوذ الأوسع في العراق، وهي على التوالي:
حزب الدعوة المنتج لرئيس وزراء العراق بعد 2003، وهما المالكي والعبادي، ورأس المرجعية الدينية السيستاني، الذي دفع باتجاه تشكيل أقوى تنظيم عسكري شعبي الطابع في العراق، هو الحشد الشعبي، بالإضافة إلى الصدر والخفاجي والحكيم والنجباء وحزب الله العراق، وعشرات التنظيمات الشيعية الأخرى، إلى جانب مئات الشخصيات السنّية والمسيحية التي تؤيّد الدولة العراقية القوية. هؤلاء متحالفون مع إيران بشكل عميق، ومستعدّون لحرب داخلية طويلة، وموجودون على رأس الجيش والأمن والمخابرات والإدارة.
أمّا الطرف الثاني، فهو إيران نفسها الموجودة عند كلّ مفترق وزقاق من العراق، ولها فيه تحالفاتها وحدودها وعلاقاتها الاقتصادية والتاريخ ومراقد أهل البيت، التي يزورها ملايين الإيرانيين سنوياً. تكفي الإشارة إلى الدور الذي لعبه القائد الإيراني قاسم سليماني في استرجاع كركوك، كما أنّ طهران لا تستطيع السماح بوضع كرد العراق في خدمة السياسات الأميركية السعودية، خشية انتقال العدوى إلى كردها في الجانب الإيراني.
لذلك، فإيران أيضاً بلد يتضرّر من ارتباط عراقي سعودي يقوم على قاعدة الاحتراب معها، إلا أنّها لا تناوئ فكرة علاقات تعيد ترميم الوضع بين البلدين على أساس العداء لـ»إسرائيل» والنفوذ الأميركي.
هناك أيضاً روسيا التي نفّذت نحو مئة ألف غارة جويّة في سورية، وهدفها أن يتردّد صداها في الفضاء السوفياتي السابق، مع إصرار على تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية لموسكو في بغداد ودمشق وطهران، وكلّ مكان آخر يمكنها اختراقه. لذلك لن تقبل موسكو حلفاً يطوّقها في حركتها المشرقية، وتمتلك أوراقاً عراقيّة أخرى تستطيع عرقلة هذا الأمر.
ويجوز اعتبار تركيا طرفاً شديد التضرّر من الحلف السعودي العراقي، على قاعدة حرب الطرفين المفتوحة في وجه الإخوان المسلمين حلفاء تركيا. لذلك فإنّ علاقات عميقة بين الرياض وبغداد تحدّ ممّا تبقّى من الدور التركي في المنطقة العربية لمصلحة عودة السعودية إلى دورها الكبير عربياً وإسلامياً.
هناك إذن تباين بين الهدفين الأميركي والسعودي، فواشنطن تريد رأس إيران على أساس تحشيد سعودي عربي وإسلامي، والسعودية تقبل وتتمنّى قطع الدور الإيراني، لكنّها أصبحت تعرف موازين القوى، وتدرك أنّ المعوقات التي تعترضه كبيرة.
لذلك، فهي تقبل بمجرّد تخفيف حالة العداء مع طهران عبر العراق، لأنّها على علم أنّ الأميركي يريد استنزاف إيران بالأدوات العربية، ولا يعبأ بسلامتها. فهذا زمن تطيير الرؤوس، والخبير هو الذي يحمي رأسه من القطع.
وأخيراً، فإنّ هذه الاحتمالات ضعيفة ولا تستند إلى موازين قوى راجحة، والدليل هو التقدّم الهائل الذي يسجّله الحلف الروسي الإيراني السوري العراقي، الأمر الذي يشجّع على الاعتقاد بأنّ العراق بمعادلة القوة الداخلية المتحكّمة فيه، أقرب إلى محور المقاومة منه إلى المحور الآخر، على أساس أنّ هناك أدواراً إقليمية كبيرة تنتظر من العراق أن يؤدّيها إلى جانب حزب الله وتحالفاتها في بحر الظلمات العربي.