«المنتحر»… على خشبة مسرح «الحمراء»
دمشق ـ لورا محمود
إنّ متعة المسرح في عصر تكنولوجيا السينما والتلفزيون، تكمن في قدرته على مسّ القلوب ببساطة، وتحقيق أثر فكريّ ينحفرعميقاً في الوجدان. إضافة إلى ذلك، يعتبر المسرح خطّ المواجهة الفكرية والثقافية الأوّل ضدّ قوى الظلام الذين عملوا على تدمير المسارح السورية وإحراقها ونهبها في المناطق التي دخلوا إليها في سورية. لذا، عملت مديرية المسارح والموسيقى ـ المسرح القومي، على استقطاب عددٍ من العروض المسرحية التي شكّلت جذباً مسرحياً مهمّاً لجمهور مسرحٍ غابت عروضه في فترة الأزمة السورية.
وقد افتُتحت على خشبة مسرح «الحمراء» في دمشق عروض مسرحية «المنتحر»، من تأليف الكاتب الروسي نيكولاي إيردمان، وترجمة وإخراج الدكتور سمير عثمان الباش. وستُعرض المسرحية لغاية 26 تشرين الأول الحالي وعلى مدى ساعتين ونصف الساعة هي مدة العرض.
مخرج المسرحية الدكتور سمير عثمان الباش تحدّث إلى «البناء» عن العمل قائلاً: إن هذا النصّ للكاتب نيكولاي إيردمان، وهو لم يُترجم أبداً، وظلّ ممنوعاً من العرض لمدة خمسين سنة. توفّي الكاتب عام 1970 ولم يرَ عمله مُمسرحاً، وصولاً إلى الثمانينات حيث بدأوا بعرض هذا العمل.
وتابع الباش: هذا النصّ خاصّ جدّاً لأنه يعتبر كرنفالاً للأفكار، يحكي قصّة رجل ينتحر من أجل قطعة سجق بعدما تشاجر مع زوجته. لكن العمل أعمق من ذلك بكثير. فهو يطرح أسئلة لها علاقة بكل الأيديولوجيات التي انتشرت في بداية القرن العشرين في روسيا. وهذه الأفكار تنفجر نتيجة الضغوط والحياة الجديدة في ظلّ النظام الشيوعي.
كما نلاحظ في العمل أنّ الديكور محصور والأبطال محصورين بمكان ضيّق جدّاً. فالناس وقتذاك باتوا يخافون من مغادرة بيوتهم، مثلنا نحن السوريين، في زمن الحرب والأزمة، أصبحت أماكننا ضيّقة، وصرنا محصورين في بيوتنا والعمل. بشكل عام، ما يحصل اليوم في سورية يشبه النصّ تماماً.
وأكّد الباش أننا بحاجة إلى إعادة النظر بكل الأفكار، وأيضاً بما سيقود المجتمع. هل هو الحبّ أو الدين أو الفنّ؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش من دون حب أو دين أو فنّ؟
وأضاف: هذا العرض باختصار ضدّ المينولوجيا ومع الديالوجيا، فلا يمكننا أن نخترع للإنسان نظاماً مبستراً لأن شخصية الإنسان متنوّعة ويجب ألا نضعه في قالب واحد. فهناك تنوّع وتعدّد في المجتمع وهذا ما اكتشفه اليوم الشعب السوري بعد سنين من الحرب.
وعن الممثلين الرجال الذين لعبوا أدوار نساء في المسرحية قال الباش: داخل كل الشخصيات ثمة تناقض. فهناك شخصية تدّعي الرومنسية وهي في الحقيقة عكس ذلك تماماً. وحتى الراهب في المسرحية يكتشف أنه ليس مؤمناً بنفسه ولا بشيء آخر. ولا شخصية في المسرحية تؤمن بما تفعله.
ولفت الباش إلى أنّ الممثلين في المسرحية كانوا بمثابة تحدٍّ بالنسبة إليه. فهم تلقّوا دروساً لمدة سنتين في مدرسة الفنّ المسرحي ومرّوا ببرنامج أكاديمي طويل من التدريب والتجارب المختلفة. واليوم يدخلون الوسط الفني كممثّليين ببداية طريقهم. وقال: أنا سقفي عالٍ جدّاً، والمستقبل لهم ولنا.
وفي حوار أجرته «البناء» مع مساعد المخرج خوشناف ظاظا قال الأخير: إنّ مسرحية «المنتحر» هي عرض لدفعة الطلاب المتخرّجين من مدرسة الفن المسرحي، والتي هي تحت إشراف وتدريب الدكتور سمير الباش. وأنا كمساعد مخرج وظيفتي التنسيق بين الفنّيين والمخرج.
وأضاف: هذا النصّ جميل جداً والمسرحية تلامس ببعض خطوطها الدرامية الأزمة السورية وخاصة موضوع الفساد. فأيّ عرض مسرحي إن لم يكن يلامس الجمهور، الجمهور سيترك العرض ويخرج.
ونوّه ظاظا بأنّ الممثلين اليوم سخّروا أدواتهم كلّها ليخرجوا بعمل يكون بالفعل نتاج الجهد والدراسة التي تلقّوها في مدرسة الفن المسرحي. وأضاف: لقد تقاسمنا البروفات بين مسرح «الحمراء» ومسرح مدرسة الفنّ بمشاركة 13 ممثّلاً. وهناك مجموعة ممثّلين شباب يجسّدون أدواراً نسائية. إضافة إلى أنّ كلّ قطعة ديكور تم استخدامها في أكثر من حالة، وهذا مميّز في العمل.
والتقت «البناء» عدداً من الممثلين المشاركين في المسرحية ومنهم: تاتيانا أبو عسلي التي تحدّثت عن شخصيتها في المسرحية «ماريا لوكيانوفيا»، وهي زوجة المنتحر، السيدة البسيطة والعاملة والفقيرة التي تعاني من اكتئاب، وتضطرّ للعمل لأنّ زوجها عاطل من العمل. لكن، رغم المشاكل التي تحصل بينها وبين زوجها، إلا أنهما متحابان. لكنّ زوجها في النهاية ينتحر، معتبراً أنّ شخصيات المسرحية كلّهم مذنبون وضحايا في الوقت نفسه.
وأضافت أبو عسلي: المسرحية ليست مسرحية سهلة. هناك ممثلون يلعبون خمس شخصيات، وهذا يتطلّب جهداً كبيراً إضافة إلى الاهتمام بالديكور والمكياج. ونشكر الدكتور سمير على هذا العمل الصعب باللغة الفصحى، الأمر الذي يحتاج إلى جهد مضاعف من الممثلين ليظهر الأحساس بهذا الشكل. وقد فوجئنا بهذا الحضور الكبير.
بدوره، تحدّث الممثل شادي درويش عن دوره «آلكسندر بيتروفيتش»، وهو الجار الذي يتمتّع بشخصية متسلّقة وأنانية، ويستفيد من المشاكل التي قد تحصل، ولا يهمه إلا نفسه «فأنا ومن بعدي الطوفان». كما أنه زير نساء. ويقول: هي شخصية جميلة ونتمنّى أن تكون النتيجة جيدة والمسرحية ناجحة.
وأيضاً، التقينا الممثل يزن دخل الله، الذي يمثّل دور امرأة في المسرحية. وتحدّث عن دوره «سيرافيما»، وهي امرأة عمرها خمسون سنة، أرملة وبخيلة وتتدخّل في كل ما لا يعنيها، تخاف على ابنتها. أما في أعماقها، فهي شخصية طيّبة جداً.
ويقول دخل الله: لقد اخترت أن أكون أنثى في هذا الدور حتى أختبر شعور الأنثى وشعور «سيرافيما»، المرأة والأمّ. لذا، كان أداء هذا الدور صعباً جداً.
أما كارول مقدسي، وهي طالبة سنة ثالثة سينوغرافيا ومساعدة في مكياج ممثلي المسرحية فقالت: إنّ هذه التجربة غنية جداً وضمن اختصاصي الذي يضمّ الأزياء والمكياج والديكور. وهي تجربة صعبة بالنسبة إلينا لأنها المرّة الأولى لنا. لكننا استفدنا منها على الصعيد العملي. فنحن في المعهد نعمل على مكياج الأشخاص إنّما تختلف عندما يكون العمل جدّياً وعلى أرض الواقع.
وقد أدّى شخصيات المسرحية عدد من الممثلون منهم: عبد الله وفائي، تاتيانا أبو عسلي، يزن دخل الله، شادي درويش، لميس محمد، كرم حنون، غيث الأدهمي، ياسمين الجبلاوي، يزن مرتجى، ليث المغربي، باسل دعبول، ومنيار الحيناني. أما تصميم الأضاءة فكان من إعداد أدهم سفر، والإشراف الفني يارا عيسى، والمكياج منوّر العقاد.
يذكر أن نيكولاي إيردمان كتب مسرحية «المنتحر» عام 1928، وتعتبر من أهم النصوص المسرحية التي أُلّفت في روسيا خلال الحقبة السوفياتية، وتتناول حكاية شابّ عاطل من العمل يعيش مع زوجته وحماته. وبعد شجار مع زوجته على قطعة سجق يهدّد بالانتحار، فيسارع المجتمع المتصارع من حوله إلى استغلاله وتحويله إلى بطل إيديولوجي. فأحدهم يريده أن ينتحر من أجل الحقيقة، وآخر من أجل المثقّفين، ورجل الدين يطلب منه أن يفعل ذلك من أجل الكنيسة، والمرأة تريده أن ينتحر من أجل الحبّ والرومنسية. فالشخص الميت باعتقادهم يستطيع أن يقول كلّ ما يفكّر به الحيّ ولا يجرؤ أن يقوله.