«الانتخابات في موعدها»: خطاب للاستهلاك فقط
د. وفيق إبراهيم
الاتفاق على إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها بعد ستة أشهر تقريباً، لا يعني الاستسلام الآلي لمواعيد دستوريّة سبق ونُسّقت غير مرة بذرائع بسيطة، فما يعترضها الآن من معوّقات من الداخل والإقليم أعمق ممّا يسهّل تنفيذها.
وارتفاع مستوى الخلافات بين وزارة الداخلية، ووزراء وسياسيين من أحزاب أخرى ولجان نيابية معنيّة حول نقاط إجرائية، يكشف عن وجود نيات غير سليمة عند بعض الأحزاب لتطيير الانتخابات.
وكانت الخلافات اندلعت على شكل القانون الجديد للانتخابات بشكل متواصل، وبدلاً من قانون قديم طائفي للانتخابات على طريقة «الأكثري»، استنبط وزير الخارجية جبران باسيل مشروع قانون طائفي على الطريقة النسبية وبالصوت التفضيلي في دائرته، ما يعني إنتاج قانون لا ينجح فيه إلا مَن كان على المقاسات المذهبية والطائفية الدقيقة لمذهبه وملّته، والحائز على موافقة جزء من الكهنوتين الإسلامي والمسيحي، بالإضافة إلى الإمكانات المالية الضرورية… هذا ما جرى إقراره بعد جهد مضنٍ ونقاشات صاخبة.
وإذا كان هذا القانون الأكثر تخلّفاً من القانون الطائفي القديم حظيَ بموافقة القوى السياسية الأكثر تمكّناً في مذاهبها، فلماذا تختلف اليوم وكأنّها تتجه للتأجيل مرّة جديدة بذرائع تقنيّة و«لعدّة أشهر فقط» لاستيعاب استياء الشارع؟
فما علاقة «الناخب المواطن» بالبيومتري والممغنطة، ولجان الانتخابات والمهل… وخلافات الأمزجة بين وزيرَين يعكسان في الحقيقة مشاريع حزبَيْهما بالهيمنة والتسلّط، فيتناولان لأسباب تبدو في ظاهرها وطنيّة، لكنّها تخفي خلافات على صفقات الكهرباء والنفايات والتعيينات والرئاسة المقبلة!
أمّا إدخال المغتربين في لعبة الانتخابات، فهي أكبر مهزلة معاصرة يلوّح بها السياسيّون كالمحارم في رقصات الدبكة وجوقات الزّجل، ينتهي مفعولها ما أن تنتهي الرقصة ويتحوّل الزجل إلى هواء متطاير.
وهنا نسأل، أليس لدى الدول كلّها في العالم مغتربون يشاركون في انتخاباتها؟ فلنستشرهم ونرَ كيف يشاركون في استحقاقاتها النيابية! لأنّنا بدأنا نخشى أن يفرض وزير ما مشروع «صندوق انتخابي» لكلّ مغترب، أينما كان في أصقاع الأرض، ناشراً الجنسيّة اللبنانية على أحفاد من الجيل السادس للمهاجرين، انقطعوا ثقافياً وسياسياً واجتماعياً عن لبنان مكوّنين جزءاً من نسيجهم الاجتماعي الجديد في المهاجر.
أمّا أسباب هذه التباينات، فتعكس بشكلٍ جليّ جنوح الداخل السياسي إلى تأجيل الانتخابات، مجدّداً على قاعدة المحافظة على موازين القوى الحالية، وتتراوح الأسباب بين الخشية من بروز موازنات جديدة على مستوى لبنان، وموازنات أخرى داخل أحزاب تعتقد أنّ مناطقها لم تعُد حكراً لها، وتخشى من تشكّل قوى خرجت عنها وتحظى بتعاطف داخلي وإقليمي.
لذلك، فإنّ حكايات التسجيل المسبق في الدائرة أو غير الدائرة أو خارج القيد والموازنات «للممغنطة»، إنّما هي مبرّرات للوصول إلى مشارف هذا الاستحقاق من دون الاتفاق على آليّات إجرائه، فيجد الوزير المشنوق مبرّراً لطلب التأجيل، ويوافقه الوزراء الذين كانوا يعارضونه في أول «الفيلم».
وبالتفصيل، يخشى حزب المستقبل تشكّل حلف الضرورة بين الخارجين عليه والمعادين له، فيجمع بين ميقاتي وريفي وكرامي في طرابلس أكبر تجمّع سنّي في لبنان، وهؤلاء يستطيعون الإقلاع بلائحة نيابيّة كاملة أو بالقسم الأكبر منها، حتى أنّ هناك قوى في بيروت أصبح بوسعها نَشْل مقعد أو مقعدَيْن من حصّة المستقبل من دون نسيان مقاعد النوّاب المسيحيين المحسوبين عليه، والتي يرجّح أن يخسرها… فكيف يستطيع الرئيس الحريري المحافظة على وضعيّته في ضوء نتائج متوقّعة على هذا النحو؟
لذلك، فمصلحته في التأجيل أو توسيع تحالفاته مع التيّار الوطني الحرّ والقوات والحزب الاشتراكي وحركة أمل… وهذا مستحيل، لكنّ الوضع أقلّ سوءاً في المناطق المسيحية على الرغم من التجاذبات الحادّة بين العونيّين والقواتيين والكتائب والمردة، وبإمكان التيار الوطني حيازة عدد أكبر ممّا لديه من المقاعد، حسب إحصاءات المتبصّرين بالانتخابات، وذلك اعتماداً على وضعيّتهم في رئاسة الجمهورية، وتحالفهم مع البطريركية، وتعاونهم مع حزب الله، مع احتمال تعاون موضعي مع حزبَيْ المستقبل والاشتراكي، لذلك فإنّ العونيّين يريدون الانتخابات لأنّها منتجة لأرجحية طاغية لهم… والقوات بدورهم يطمحون لمقاعد أكثر، لكنّهم بدأوا يستشعرون بصعوبة طموحاتهم في ظلّ وجود «باسيلي» يعرف من أين تؤكل الانتخابات. وهذا سبب يشجّع «القوات» على التعاون مع المستقبل لإرجائها.
لجهة المردة والكتائب، فلديهما مصلحة في إجرائها اعتقاداً منهما بالقدرة على حصد مقاعد أكبر عبر التحالف مع الشخصيات المسيحية التي لا مكان لها على لوائح العوني القوات، أي المستاءة.
أمّا الفريق الشيعي، فليس مهجوساً بها، لأنّه فائز بمقاعدها كيفما تبدّلت الأوضاع. وما يخسره في مناطق قد يربحه في أخرى، ويبدو أنّ الفريق الشيعي يراقب حركة الإقليم، لأنّه مشارك فيها عسكرياً وسياسياً، ونتائجها تنعكس عليه بشكل كامل، لذلك يبدو إصرار الرئيس برّي على ضرورة إجرائها كالمتيقّن من معوّقات إقليمية مرتقبة تدفع في اتّجاه نسفها.
إنّما ما هي هذه المعوقات الإقليمية التي يستعدّ طرف لبناني لمجابهتها، ويتهيّأ طرف لبناني آخر للاستفادة منها؟
أوّلها حرب «إسرائيلية» على لبنان أو سورية. وهذا ليس احتمالاً بعيداً، لأنّه مرتبط بمصالح «إسرائيل» التي يسكنها هاجس انتصار إيران وسورية وحزب الله في لبنان وسورية، أيّ في بلدان الطوق… لكنّها تحتاج إلى موافقات أميركية وغربية وغضّ طرف روسي. وهناك مَن يروّج أنّ الولايات المتحدة الأميركية بصدد تركيب خطة جديدة تستند إلى جبهة من الكرد السوريين والعشائر و«جبهة النصرة» بلبوس جديد، مع نشر عشرين ألف جندي أميركي في تسع قواعد في شرق سورية للاستمرار في استهداف الدولة السوريّة، مع شنّ «إسرائيل» حرباً بين حدود الجولان المحتلّ وحتى أرياف دمشق لإعادة تعويم الإرهاب والاستمرار في مشروع تفتيت سورية.
وهذا يؤدّي تلقائياً إلى تعزيز حلف القوّات اللبنانية في المستقبل، وتعطيل إمكانات الدولة وتحييدها وإثارة الاضطرابات في وجه حزب الله، وبذلك تستقيم الجبهة السعودية «الإسرائيلية» المناوئة للمقاومة، ويجري تأجيل الانتخابات على أساس أنّ الحريري يصبح بالدّعم الأميركي السعودي رئيس وزراءٍ دائم يمتلك الصلاحيات كافة، بما فيها ولاية الأمر. فهل تكون الانتخابات ضحيّة العوامل التقنيّة، أم اضطرابات الإقليم؟!
يبدو أنّ هناك ضحية واحدة، وهو المواطن اللبناني الذي تتآمر عليه القوى السياسية الداخلية لجعله أداةً تصفّق للزعيم الذي لا يفعل إلا الاستعانة بالخرافات والتجهيل والأساطير لسجن المواطن في غياهب القرون الوسطى والجهل والخرافات.