تذكرة إلى الجنّة
أيمن عبيد
في الأخبار الواردة من القاهرة، أنّ الممثّلة منى زكي تتهيّأ عن قريب لإعلان اعتزالها وارتداء الحجاب، على غرار فنّانات سبقنها إلى هذا الطريق، بعدما حضر من يقودهن إلى اعتبار ممارسة الفنّ، رجساً بيّناً من عمل الشيطان، وأن السبيل إلى التوبة مشرّع أمامهن، شريطة خلع لباسهنّ الفنّي، وإيداعه طيّ النسيان!
والحقّ أنّ قطار الممثّلات المحجّبات، كانت انطلاقته قوية في بلاد الأهرامات، منذ نحو ربع قرن أو يزيد، عندما حجزت عربته الأولى آنذاك، شمس البارودي، عُرفت كواحدة من أشهر ممثّلات الإغراء في السينما المصرية في سبعينات القرن الماضي التي كرّست حياتها لاحقاً في الترويج لخياراتها الجديدة، بمباركة لفيف من رموز الدعوة السلفية في مصر، يتّخذون من التبشير الدعَوي داخل المجتمع الفنّي، على وجه الخصوص، ملفّاً أساسياً لتوسيع رقعة نفوذهم، وتنفيذاً لأجندة خارجية مرتبطة بدوائر سلفيّة متشدّدة، لم تبخل يوماً عن تمويل الناشطين منهم، بالشيء الكثير مادياً وإعلامياً. من أولئك، يبرز راهناً دور الداعية خالد الجندي تثارعلامات استفهام حول تزامن انغماسه، تحديداً في هذا الملف، وصعوده المفاجئ والسريع في دنيا المال والأعمال، حيث تمّ الكشف عن تأسيسه مباشرةً أو عبر واجهات قرابية، شركات تتعاطى في مجالات عدّة كالصرافة والاتصالات والدعاية والتصدير والاستيراد. إضافة إلى استحواذه مؤخراً على الحصة الأكبر من أسهم فضائية دينية معروفة! الذي تشهد أسهمه ارتفاعاً ملحوظاً، مع رواج أحاديثه في أوساط فريق عريض من الفنانات، يتجمّعن أسبوعياً في أحد مساجد القاهرة للاستماع إلى دروسه الدينية، في تأثيم التبرّج، وأبلسة الفنّ على اختلاف تنويعاته، ورفض عمل المرأة، إلى آخر مفردات هذا النوع من الخطاب المتسلّف!
وفي نظرة ولو سريعة إلى العوامل الكامنة وراء تنامي هذه الظاهرة، وتفاقم تأثيراتها على الساحة الفنية المصرية، يتقدّم إلى الواجهة غياب الوعي الثقافي، كعامل مشترك تجتمع عليه، أو يكاد، غالبية الفنانات اللاتي يقعن فريسة لمشايخ، أو بتعبير أدقّ، «مستشيخون» يستثمرون في سيل من البرامج والخطب والمواعظ، واحتلال الشاشات الفضائية، طريقاً للاتّجار بالإسلام الحنيف، وتنشيط حساباتهم المصرفية بملايين الدولارات، في ما بات يعرف إعلامياً بتيار «البزنس الإسلامي»، الذي، وإن تذاكى في تزيين خطابه، بحلى ومستحضرات عصرية، فإنه سرعان ما ينكشف في منطلقاته الأساسية، وليدة دهاليز ومغارات العصور الوسطى، بكل ما تصّدر من أنماط ومفاهيم معرفية متكلسة، ما برحت على مدى سنوات خلت، تتمدّد شيئاً فشيئاً في ثنايا المجتمع المصري فتوشك أن تحكم قبضتها، ضاربة إياه في أعزّ ما يملك: فكره، ثقافته، وإبداعه، وميراثه الليبرالي العريق في التنوّع والاختلاف والتسامح والتعايش وحرّية المعتقد والتعبير، وصولاً إلى إشهار سيف التكفير المسموم، في وجه من يعاقر فكراً أو رأياً أو اجتهاداً غايته محاججة الفكر الآسن، وإشاعة أضواء العقل والعلم والاستنارة، وتحرير جوهر الإسلام الناصع من جاهلية خاطفيه، دعاة الانغلاقية والتزمّت الذين لا يقرأون في شمولية منهاجه وقِيَمه العامرة، بحرّية الاجتهاد والتأويل والتفكير، كفريضة جد إسلامية، غير قشور وسفاسف وبرّانيات، تتماشى وما يطرحون من أفكار ورؤى ماضوية، تقف على قطيعة كاملة مع وقائع العصر ومعطياته!
ولئن كان الوعي الثقافي، شبه المعدوم، لدى بعض الفنانات يعود في جزء كبير منه، إلى اعتماد السينما المصرية تاريخياً على آلية تجارية صمّاء في إطلاق نجماتها، مغيّبة في الغالب الأعمّ، المقياس الثقافي، ولو في خطوطه البديهية، الواجب توافرها ضمن سلّة الشروط المؤهّلة إلى أضواء الفنّ السابع، لدرجة أن ثمّة نجمات تتخاطف أخبارهن وسائل الإعلام لا يفقهن شيئاً منظوراً من «أصول المعرفة الأبجدية»! فإن قطار «التحجيب» المنطلق، بما ينطوي عليه من أبعاد ومآلات، لا يمضي في تغوّله المتعاظم ذاك على الساحة الفنية، بمعزل عن عامل جوهري مستتر، يغذّيه من خلف ستارة، لعله، في أحد وجوهه بل هو كذلك بالفعل، من تصاريف الإفرازات المباشرة لفداحة غياب الوعي الثقافي والقيمي، متمثلاً في انجرار بعض الفنانات إلى تقديم تنازلات معيّنة، في غمرة تسابقهن المحموم على «فراش» النجومية، وحصد الدرجات العلى من بريق الشهرة، التي ما أن تأخذ بوادر انحسارها عنهن تلمع في الأفق، حتى تصدح في أعماقهن، فجأة، أناشيد الغفران، ويباغتن الجميع بطبعة تطهّرية، غالباً ما تفتقر، ويا للمفارقة، إلى أيّ من مقوّمات الحبكة الدرامية!
ليس غريباً إذن، تحت ظلال مناخ متصّدع كهذا، مشّرع الأبواب لاستقبال ما هبّ ودبّ من زواريب أفكار التحريم والتكفير لمختلف ألوان الفنون والإبداع، وعدّها تجديفاً وعبثاً وتناقضاً مع مسوّغات الإيمان الحق، أن تخترق ظاهرة خالد الجندي، وسواه ممّن يغزل على منواله، الجسمين الفنّي والإعلامي، ويروّج الاعتقاد الزائف بأن ثمّة «تذكرة سفر إلى الجنّة» تنتظر فقط السائرين على هَدْيِهم وما تتفتّق عنه قريحتهم، على مدار الساعة، من برامج ودروس وخُطب وندوات ومنشورات وفتاوى، لا يصبّ كثير حصادها بعيداً عن مجرى واحد، وغاية واحدة: نفي العقل، وازدراء المنهج العلمي، شيطنة الملكات الفنية والإبداعية، وتسييد الطرح الغيبي. لكن الأخطر من ذلك، في ظلّ انفراط عقد النخبة المصرية، وتشتّت أولوياتها، واستغراقها الكامل في صغائر القضايا الإلهائية، وحروب العناوين الصغيرة، وتآكل وزنها التنويري في المجال العام، أن ينجح تيار الفكر المتزمّت في إيجاد موطئ قدم له، بأريحية كبرى، داخل قطاعات ومؤسّسات ومنظومات كانت، حتى الأمس القريب، محسوبة على فضاءات النخبة المتنوّرة، وحصناً منيعاً من حصونها الراسخة، حتى بات من المألوف، مثلاً، أن يتحفنا نائب برلمانيّ يقف تحت قبّة البرلمان المصري كان ذات زمن ليبرالي راقٍ، بمثابة منتدى لنخبة من رجالات الفكر والقانون والعلم والثقافة الرفيعة ليرفع عقيرته، بالهجوم اللاذع ضدّ الأديب الراحل نجيب محفوظ، مطالباً، بمحاكمة صاحب «نوبل»، بجريرة رواياته وقصصه التي يتّهمها، دونما شعرة من ثقافة أو خجل، بإهدار فضيلة الآداب وخدش أخلاق المصريين!
وتتوالى التحف تباعاً، فتُساق الشاعرة والأديبة فاطمة ناعوت، مخفورة إلى ساحات القضاء لطالما ضمّ القضاء المصري بين صفوفه، في مراحل سابقة، مفكّرين ومتنوّرين بارزين، أغنوا بمؤلّفاتهم ودراساتهم النيّرة حقول الفكر والثقافة والتنوير، في مصر ودنيا العرب الذي استحال بعضه إلى ما يشبه محاكم تفتيش أوروبا في عصورها المظلمة لتُحكم بالحبس مدة ثلاث سنوات، لمجرّد أنها عبّرت، بِخَفَر، عن انتقادها القسوة المستعملة في ذبح الحيوانات لمناسبة عيد الأضحى!
ولكي تصبح الصورة أكثر تراجيدية أو عبثية، لا فرق، تأبى إدارة جامعة قناة السويس، أحد الصروح الأكاديمية في مصر، أو هكذا يفترض، إلّا أن تنضمّ إلى سرب اللاهثين طمعاً، ربما، في الحصول على تذكرة سفر إلى جنّة مزعومة، بقرارها الهمايوني، إيقاف الناقدة والأكاديمية منى برنس، عن تدريس مادة الأدب الإنكليزي لطلاب كلّية الآداب في الجامعة، بزعم تبنّيها مواقف سياسية مثيرة للبلبلة، وغير مسؤولة، بينما الحقيقة التي تجهد الإدارة عبثاً في تمويهها، بقنابل من دخان، تكمن في نشر برنس، على صفحتها في «فايسبوك»، سلسلة مقالات نقدية مطوّلة، تميط من خلالها اللثام، بالبرهان والأرقام، عن كيفية وآليات تغلغل السلفيّين، في مفاصل العدد الأكبر من الجامعات ومعاهد الدراسات العليا في مصر!
وهكذا تمضي قدماً قافلة الفاشية الفكرية في أرض المحروسة. وتلعلع في سمائها، من وقت إلى آخر، قرقعة أسلحة التكفير والتفتيش والعزل والتغييب وإنزال الحرم بكلّ صوت مغاير ينضح ثقافة حرّة، ونقداً جسوراً، وإشعاعاً عقلانياً خلّاقاً. وما لم تسارع النخبة المتنوّرة المصرية إلى جبر شتاتها، ونفض ما ران عليها من غبش، وحلّ بها من نكوص، والارتفاع إلى مصاف المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها، وتشكيل أوسع جبهة تنويرية لحماية قِيَم المدنية والحداثة والعلم والإبداع والحرّية من السقوط في براثن الغول الظلامي الزاحف، فإن أمّ الدنيا… في عين الخطر!
كاتب مصريّ