«يوتوبيا» متسامية نظريّاً لا تنزل إلى أرض الواقع 1
جورج كعدي
قد يكون في رأيين متماثلين لأناتول فرانس وأوسكار وايلد حول «اليوتوبيا» بعض الصحّة والصواب، إذ يعتقد الأول «أنّ اليوتوبيا هي مبدأ كلّ تقدّم ومحاولة بلوغ مستقبل أفضل»، ويقول الثاني بنبرة تنطوي على قدر من اليقين «إن التقدّم هو تحقيق اليوتوبيّات في الواقع». بيد أنّي أستمرّ في طرح السؤال: هل «اليوتوبيا» هي حقّاً حافز فعليّ للتقدّم الإنسانيّ؟ وهل يرتبط هذا التقدّم بتحقّق «اليوتوبيا» واقعاً؟ أم هي مجرّد تصوّرات نظريّة، مثاليّة، تنتمي إلى عالم الأفكار والخيال أكثر منهما إلى عالم الواقع والتطبيق والتحقّق؟ هذا ما سنناقشه، على حلقات، بدءاً بتحديد مفهوم «اليوتوبيا»، بلوغاً إلى ذروة تهافته في العصور الحديثة، مروراً بالتجارب «اليوتوبية» عبر التاريخ.
توماس مور 1478 ـ 1535 هو الصائغ الأول لكلمة «يوتوبيا» أو «أوتوبيا» في نطقها اليونانيّ، واشتقّها من الكلمتين اليونانيتين OU ومعناها «لا» وTopos ومعناها «مكان»، ومعناهما معاً «لا في مكان» أو «ليس في مكان»، غير أنّ مور أسقط حرف O فأضحت العبارة باللاتينيّة Utopia واستخدمت في جميع اللغات الأوروبيّة، وحتى في اللغة العربيّة لفظاً ، وتعني نموذجاً لمجتمع خياليّ مثاليّ يتحقّق فيه الكمال أو يدنو منه، فيتحرّر من الشرور التي تعانيها البشريّة. وأمست للعبارة لاحقاً معانٍ غير تلك التي رمى إليها توماس مور، فأطلقت على أيّ إصلاح سياسيّ أو تصوّر خياليّ مستقبليّ، أو احتمال علميّ أو فنيّ، إلخ. إنما تظلّ «اليوتوبيا» في الأساس تصوّراً فلسفيّاً ينشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين، فالفكر «اليوتوبيّ» يضع تصوّرات للانسجام الاجتماعيّ وينبع من الخيال الأدبيّ أو التأمّل الفلسفيّ.
للخيال الدور الأكبر في مختلف الأشكال والتصوّرات «اليوتوبيّة»، بدءاً من «جمهوريّة» أفلاطون، النموذج الأوّل لسائر «اليوتوبيّات»، بلوغاً إلى روايات الخيال العلميّ. بيد أنّ الأفكار والأحلام «اليوتوبيّة» لم تكن سوى إفرازات للمجتمعات التي نشأت فيها وتعبير عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه نحو مجتمع أفضل وأكثر عدالة. الفكر «اليوتوبيّ»، قديمه وحديثه، صرخة احتجاج على أوضاع اجتماعية يحكمها ظلم وفساد. لكنّ معظم «المشاريع اليوتوبيّة» لم تطبّق، والقليل النادر الذي طبّق منها كان مآله الإخفاق. ورغم ذلك، لم يكفّ الخيال البشريّ عن الحلم بواقع إنسانيّ أفضل والأرجح أنّه لن يكفّ عنه، علماً أن زمننا الراهن هو زمن التسويات والحلول الوسطى والسعي إلى جعل العالم أقلّ شرّاً، فالحالمون ذوو الرؤى باتوا في موضع السخرية أو حتى الاحتقار، والأشخاص «العلميّون» هم الذين يحكمون المجتمعات. لم يبق ثمة بحث في زمننا المعاصر عن حلول جذريّة لآفات المجتمع بل ثمّة مجرّد إصلاح له، ولا سعي إلى إلغاء الجريمة بل اكتفاء بتحديث القوانين الجنائيّة، ولا مكافحة للجوع والفقر بل تُنشأ مؤسّسات خيريّة عالميّة على نطاق واسع.
اتّجاهان رئيسيّان طبعاً الفكر «اليوتوبيّ» عبر العصور، اتّجاه يبحث عن سعادة البشر من خلال الرفاه الماديّ وإذابة فرديّة الإنسان في المجموع والمصلحة العليا للدولة، واتّجاه آخر يستلزم حدّاً معيّناً من المادّية غير أنّه يعتبر السعادة نتيجة تعبير حرّ عن شخصيّة الإنسان ويجب ألاّ يضحّي بها لأجل قانون أخلاقيّ استبداديّ أو لمصلحة الدولة، وفي هذا وجه حقّ، فبعض الدول أو الأمم أبدلت نظام العبوديّة الاقتصاديّة القديم بنظام آخر لم يبق الناس فيه عبيداً لأسيادهم أو لأصحاب العمل بل أصبحوا عبيداً للدولة أو للأمّة التي قامت على السلطة الأخلاقيّة والعصريّة، كما في «جمهوريّة» أفلاطون، أو على الدين كم هي كثيرة النماذج الراهنة ، أو على ملكيّة وسائل الإنتاج كما في معظم «يوتوبيّات» القرن التاسع عشر، وتعود التناقضات في أكثر «اليوتوبيّات» إلى الأسلوب التسلّطي، إذ زعم مؤسّسو «اليوتوبيّات» أنّهم منحوا الحريّة للشعب، لكنّها حرّية كفّت عن أن تكون حرّية، فالبشر «اليوتوبيّون» هم ذوو نمط واحد ويملكون رغبات متماثلة وردود فعل متشابهة، مجرّدون من العواطف والانفعالات لكونها تعبيراً عن الفرديّة!
من المفارقات المذهلة أيضاً أنّ الدولة «اليوتوبيّة» أشرس في قمع المثقفين والأدباء والشعراء والفنّانين، فالشاعر والرسّام والنحّات يُفترض أن يكونوا في خدمة الدولة وأن يتحوّلوا إلى أبواق دعاية لها، والتعبير الفرديّ ممنوع عليهم إن لأسباب جماليّة أو أخلاقيّة. طرد أفلاطون الشعراء من «جمهوريّته» التي كانت نموذجاً مضلّلاً للكمال.
كان أفلاطون في الثالثة والعشرين يوم انتصرت إسبرطة على مدينته أثينا التي أصابها الإنهاك السياسيّ والاقتصاديّ، لذا كان أمراً طبيعيّاً أن تهتمّ كتاباته كثيراً بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة، وأن يحاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار إسبرطة، فغالباً ما يكون عقل المنهزم مفتوناً بقوّة الغزاة الفاتحين، ولمّا شرع أفلاطون في بناء مدينته «اليوتوبيّة» المثاليّة اتخذ من إسبرطة نموذجاً. لم يقلّد هذا النموذج تقليداً أعمى، بيد أنّ «جمهوريّته» أشبه بالنظام التسلّطي لإسبرطة لا بالنظم الحرّة التي تمتّعت بها المدن اليونانيّة الأخرى في أزمنة سابقة، فمقابل روح الاستقلال والنزعة الفرديّة المتطرّفة التي تميّزت بها الحياة اليونانيّة، وضع أفلاطون تصوّره عن دولة قويّة متجانسة، قائمة على مبادئ تسلّطيّة!… يتبع .