ردود فعل بريطانيّة وأميركيّة مستهجنة على نوبل الآداب!
كيف تقع لجنة نوبل للآداب حقاً على الخيار الأصوب؟ لا ريب في أنها تصطفي من عدة بدائل، فالعالم فسيح والعمالقة كثر. والأرجح أن إجماعاً لا يتحقق، ويتم تتويج الفائز بأغلبية الأصوات. ولكن لم تتجاهل الأغلبية كاتباً عتيداً في فن الرواية مثل فيليب روث قد لا يظل على قيد الحياة العام المقبل؟
إنه تساؤل تطرحه مطبوعات بريطانية وأميركية لم تستطع كبح دهشتها من جراء فوز كاتب مجهول خارج حدود فرنسا على اعتبار أنها جائزة عالمية، لكن فكرة «العالمية» لا تنحصر بالضرورة في كتب مكدَّسة في متاجر نيويورك، إنما تشمل فكرة إنسانية تجمع العالم بأسره.
الواقع أن خسارة فيليب روث وتوماس بينشون أزعجت كثيرين، وبينهم الناقدة الأميركية ميشيل غونراد التي كتبت قائلة عن روث. «لقد ضجرنا من هذا الحوار. لن يفوز بها البتة، وينبغي أن نكف عن التوسل».
مؤامرة سرية
فيما تهكمت إيما بروكيس في صحيفة «ذا غارديان» قائلة: «الفضيحة الحقيقية لفوز موديانو بجائزة نوبل هي خسارة روث الأعظم مرة أخرى. ماذا لو كانت جائزة الأدب الأعظم مجرّد مؤامرة سرية يحوكها المحكمون كي تجعل عجوزاً سريع الغضب يتوق إلى المزيد من الجوائز؟ وماذا لو لم يكن وحده التواق إليها؟».
بالسخرية نفسها يشير دوايت غارنر، ناقد الكتب في «نيويورك تايمز»، إلى أن الحكام لا يتنقلون مثلما ينبغي، إذ عليهم التنقل بين الثقافات والحضارات، بيد أنه يطرح احتمالاً هازئاً يصفه بأنه «لم يخطر في بال أحد»، وهو أنهم «لما يتمتعون به من خفة دم ـ وإن على الطريقة السويدية ـ يتكلون في اختيارهم سنوياً عن عامل مستفز واحد: دفْع فيليب روث إلى التصريح بجملة أو جملتين حول فشله الأبدي سنويّاً!».
بيتر إنغلاند، سكرتير أكاديمية نوبل الدائم، قال كمن يدافع عن اختيار الأكاديمية مجهولاً: «باتريك موديانو مشهور في فرنسا دون سواها. تتمحور مواضيعه حول الذاكرة والهوية والوقت. ورغم أن رواياته لا تمتدّ عبر مئات الصفحات، فهي تغوص في مواضيع جادة».
يمكن تفسير ما ساد من تعجب عقب إعلان الفوز بجهل النقاد الأميركيين بالكاتب الفرنسي الذي لم يتقن قطّ فن الدعاية لنفسه، ولم يحظ بطابور من المترجمين الأميركيين ينقلون رواياته مثلما هي الحال مع هاروكي موراكامي الذي قد يخال المرء أن رواياته مكتوبة بالإنكليزية لا اليابانية. لكن رغم أن أقل من نصف روايات موديانو مترجمة إلى الإنكليزية، نقل المترجمون رواياته إلى ما يزيد على ست وثلاثين لغة أخرى. إنها الغفلة الثقافية البريطانية-الأميركية إذن، غفلة لا تنتبه إلاّ لما هو مكتوب بالإنكليزية أو مترجم إليها.
بين قلة من النقاد المشيدين بالاختيار كان روبرت توماس في صحيفة «ذا غارديان» نوَّه بتصوير موديانو «عالم الاحتلال المشبوه والمُلْتَبِس والمبهم». ولكنه في الوقت ذاته فطن إلى ما شاع من استنكار مرافق للاختيار، موضحاً: «عندما ذكرتُ حبي لأعمال موديانو لشاب فرنسي، لوى شفته على نحو ينمّ عن الازدراء قائلاً إنه تواق إلى الماضي». ويدافع توماس عن هذا التوق ذاته قائلاً إنه «يخدم مواضيع أعمق مثل النجاة والاغتراب».
لكن أعمال موديانو لم تَسلم من نقد الأميركي توماس فاريلا في صحيفة «ذا وول ستريت جورنال»، مذكّراً القراء بأن موديانو يكرر أعماله على نحو يبعث على الملل، فعوالمه تنحصر في الكفاح الأخلاقي لمواطني الحرب، لا أي حرب، بل حربٌ بعينها، الحرب العالمية الثانية وفي مكان بعينه، أحياء فرنسا، وإن حاولت شخوصه أحياناً الفرار إلى سويسرا هرباً من أخطار حقيقية أو متخيلة فإنّ منبع الخطر لا يمسه تغيير والتحدي يكاد يكون واحداً: تجاوز آلام الحرب. الشخوص مجهولة وتكافح للملمة الشتات، القومي حيناً والفردي حيناً آخر. وللتدليل على وجاهة الانتقاد استشهد الصحافيون البريطانيون بجملة موديانو نفسه حين أعلن ذات مرة «إنه بعد خمسة وأربعين عاماً من الكتابة يشعر بأنّه يكتب دوماً الكتاب نفسه».
الحق أن الأوروبيين المولودين عام 1945 يتقاسمون حالةً واقعةً على عتبة الشعور لا تفارقهم، مثل «أطفال منتصف الليل» لسلمان رشدي، إذ أفلتوا من الخطر المحدق المباشر، لكن أثر الحرب لا يزال ماثلاً فيهم. ولدوا أثناء الحرية، غير أن أمهاتهم حملن بهم في حالة من الضياع. شبوا وهم ينظرون قلقين فوق أكتافهن، فتكوَّن لديهم هذا الذعر الأبدي، مثل حالـة حرب دائمة وإن تكن طيّ الكتمان.
قد يرمي بعض النقاد هذه الحالة الأدبية بالإفراط في العاطفة، إذ أسهب النقاد في الإشارة إلى عبارات موديانو البسيطة القصيرة «الأشبه بعبارات التلغراف» وكرروا امتعاض الدارسين من تعالي المؤلف على «تفسير عمله»، كأن أي عمل أدبي في حاجة إلى مترجم يبرر دوافعه!
لا عجب، فالنقاد الأميركيون يرنون إلى فعل الحديث عن العمل باعتباره جزءاً لا يتجزأ من العمل ذاته، إذ استحدثت الثقافة الأميركية عالماً موازياً لفعل الإبداع، بدءاً من ورش الكتابة وحفلات التوقيع والجولات الأدبية، وانتهاء بالحوارات المسموعة والمرئية، مناسبات تخلق وسيلة طيبة للثرثرة، وكلها «تفسر» و»تشرح» فن الإبداع ذاته.
أين هذا من كاتب سئل إن كان سيلقي خطبة لدى تلقيه جائزة نوبل، فأجاب، وقد اعترف ماضياً بأنه يخاف من خشبة المسرح: «ما دام أن الأمر لن يتعدى قراءة نص معَدّ سلفاً، لن ينتابني الخوف».
في مجلة «ذا نيويوركر» صبّت ألكسندرا شوارتس غضباً يعصي الفهم على لغة اللجنة كمن لا يجد شيئاً آخر ذا قيمة للهجوم عليه، إذ كتبت: «يروق اللجنة المنوطة بمنح جائزة نوبل للآداب أن تتوّج الفائزين بتصريحات تتراءى متعذرة على الفهم، مثلما يتعذر علينا في الغالب فهم الاختيار ذاته. فاللجنة تتوخى الذروة الأدبية، كأنه تقدير لإنجاز الكاتب المكرَّم، ونحن، القارئ العادي، نستغرق في قراءة التصريحات مثل حجّاج ذهبوا لاستشارة وسيط الوحي في مدينة ديلفي ليعودوا بكعكة حظ مشوشة».
مجلة «ذا نيو يوركر» وصفت كتابات موديانو بأنها «رقيقة، مرهفة، مكبوحة» ووصمت المؤلف نفسه بأنه منفصل عن جمهور الأدب، وذكَّرتنا بأن موديانو هام على وجهه في باريس بعد أن ابتعد عن أسرته واقتات من بيع كتب زوَّر في صفحاتها الأولى توقيع كبار الكُتاب مثل بول فاليري! في فترة قال موديانو إنه وجدها «غريبة لا تَسلم من الفوضى». بل إن بعض العارفين بالكاتب وجدوا الاختيار غريباً، فأسلوبه القصصي «فرنسي محض»، ففي «إيميل» أرسلته جوسيان سافينو من صحيفة «لوموند» إلى إحدى محررات مجلة «ذا نيويوركر» وصفت كتاباته بأنها «رقيقة، مرهفة، مكبوحة» ووصمت المؤلف نفسه بأنه منفصل عن جمهور الأدب. لكنها أردفت، «إنه لا يخط السّيمفونيا ولا الأوبرا، إنّما هو عازف بيانو رائع».
يبدو أن المراهنين غلبوا النقاد البريطانيين والأميركيين عندما احتل اسم موديانو في مكاتب الرهان البريطانية الموقع الخامس في قائمة المرشحين ليتلو اسم الكيني نجوجي واثيونجو. الواقع أن فرنسا ليست غريبة عن جائزة نوبل، فموديانو هو الفرنسي الخامس عشر الفائز بها، لكن بعد فوز جان ماري غوستاف لوكليزو عام 2008، بدا احتمال فوز فرنسي آخر بعيد المنال. وفي فرنسا تجسد الفخر القومي تماماً حين أشاد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بموديانو لتعامله مع قضية الاحتلال العسيرة، مضيفاً أنه «يحاول أن يستوعب كيف تقود الحوادث الأفراد إلى خسارة أنفسهم أو العثور عليها».
ثمة إذن ردود أفعال محض شوفينية حيالفوز موديانو الذي استهجنه نقاد بريطانيون أو أميركيّون، إما عن جهل تام بالفائز أو عن تعالٍ على «الكاتب المحلي» مثلما أسماه الصحافي الأميركي رون تشارلز ولسان حاله يقول: « كنا على الأقل نعرف ألبير كامو!».