أسرار خطيرة حول «وعد بلفور» بعد مئة عام على صدوره
صالح زهر الدين
في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 2017، مرّت الذكرى المئويّة الأولى على صدور «وعد بلفور» البريطاني، القاضي بمنح فلسطين وطناً قومياً لليهود فيها…
أمام هذا الحدث التاريخي البالغ الخطورة على مختلف الأصعدة في منطقتنا العربية، حيث لا نزال نعيش آثاره السلبيّة إلى يومنا هذا، ويهدّد المستقبل أيضاً في ظلّ المخاطر التقسيميّة والتفتيتيّة والتجزيئيّة والتشظّي القاتل على صعيد الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد وتفرّعاتها… أمام كلّ ذلك، نجد أنفسنا إزاء ضرورة ماسّة لتقييم هذه المخاطر من جهة، وتسليط الضوء على الخفايا الكامنة في إصدار هذا الوعد من جهة ثانية، ولماذا كانت فلسطين هي الهدف المركزي من جهة ثالثة، رغم كلّ المشاريع البديلة التي طرحت سابقاً، وصولاً إلى «الوطن القومي اليهودي» الممثّل ب«دولة الاحتلال الصهيوني» إسرائيل من جهة رابعة؟
فماذا عن الأسرار الكامنة في ذلك؟ وماذا عن رموزها الفاعلة والمؤثّرة في الحكومات والدول؟
مما لا شك فيه، أنّ صدور «وعد بلفور» في 2/11/1917، لم يكن ابن ساعته أبداً، ولم ينزل بسلّة من السماء في ذلك التاريخ… بمعنى أنه لم يكن صدوره «عفوياً ومرتجلاً»، بل كانت له جذوره العميقة وأهدافه البعيدة على الصعيد الدولي والعربي والإسلامي على حدّ سواء، ويتمثّل ذلك بما يلي:
أولاً: إدراك القوى الغربيّة ذات الطابع الإستعماري العنصري لأهميّة الموقع الجغرافي الجيو- سياسي والإستراتيجي للمنطقة العربية بين القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا، فضلاً عمّا تزخر به من طاقات بشريّة وطبيعيّة دفينة تشكّل خطراً داهماً في وجه القوى الدوليّة إذا امتلكها شعب هذه المنطقة وتحكّم بها، إضافة إلى ما تتميّز به على صعيد الممرات المائيّة والبحار والمضائق كعصب مهمّ جداً مستقبلاً…
أخطر وأقدم وصيّة
ثانياً: شكّلت «حروب الفرنجة» المعروفة بالحروب الصليبيّة رأس الحربة للغرب ضدّ هذه المنطقة تحت حجج وذرائع شتّى. وهذه الحروب هي ذاتها التي أفرزت أخطر وأقدم وصيّة لضرب العرب والمسلمين منذ حوالي ثمانية قرون، ولا تزال تُدَرَّس في الغرب، وهي المتمثّلة بوصيّة الملك الفرنسي لويس التاسع قائد الحملة الصليبيّة إلى مصر اعتقل على أثرها وسجن بين جدران دار إبن لقمان لمدّة شهر كامل في جزيرة الورد عام 1250 ، حيث قال فيها بعد تأمّل وتفكير عميقين موجهاً كلامه إلى الغربيين: «إذا أردتم أن تهزموا العرب والمسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده. فقد هُزمتم أمامهم في معركة السلاح. ولكن حاربوهم في عقيدتهم ووحدتهم. فهي مكمن القوة فيهم»…
هذا، وقد شكّلت هذه الوصيّة أخطر وثيقة في هذا الإتجاه وهي محفوظة في دار الوثائق القوميّة في باريس ، وهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عمليّة التبشير والإستشراق.
كما أوصى في نهايتها بضرورة «العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتدّ ما بين غزّة جنوباً، وأنطاكيا شمالاً، ثم تتّجه شرقاً وتمتدّ حتى تصل إلى الغرب»…
ثالثاً: على أساس وصيّة الملك لويس التاسع وأهميّة المنطقة العربيّة في مشروع الشرق الأوسط، كان مؤتمر «كامبل بنرمان» رئيس الوزراء البريطاني عام 1905، الذي دعا إليه كبار المفكّرين والاستراتيجيين الغربيين، طارحاً عليهم السؤال الوحيد وهو: «ما هي الوسائل الكفيلة بتأخير سقوط الإمبراطوريّات الاستعماريّة، كي لا تنهار مثلما انهارت إمبراطوريّتا الإغريق والرومان؟». وبعد عامين على هذا المؤتمر صدر التقرير الذي عرف فيما بعد ب«تقرير كامبل بنرمان»، عام 1907 حيث جاء فيه: أنّ من يسيطر على منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط، يستطيع التحكّم بالعالم. حيث في هذه المنطقة يتواجد شعب واحد، تتوفّر عنده كلّ مقوّمات الأمّة والقوميّة. وفي أرضه ثروات هائلة تشكّل عصب حياة الغرب والغربيين، وهي بالنسبة لهذا الشعب بمثابة «روحه»، ويجب على الغرب التحكّم بهذه الروح والسيطرة عليها. كما يجب العمل على إبقاء هذا الشعب بحالة من التمزّق والتفرقة والتقسيم والقتال الداخلي.. وكانت التوصية الأخيرة في تقرير بنرمان هذا شبيهة تماماً لوصية الملك لويس التاسع ، حيث تقول: «يجب العمل بكلّ الإمكانات لخلق حاجز بشري قويّ وغريب، يفصل الجزء الآسيوي عن الجزء الأفريقي في المنطقة العربية، عدو لسكان المنطقة، وحليف للغرب»… وبعد أربعين عاماً كانت ولادة «إسرائيل» في هذه المنطقة المحدّدة بالضبط… وحقيقة الأمر، أنّه على أساس ذلك، كانت إتفاقيّة سايكس – بيكو 1916 ، ووعد بلفور 1917 ، ومؤتمر فرساي 1919 ، ومؤتمر سان ريمو في إيطاليا 1920 الذي وزّع الانتدابات على الدول العربيّة، وكانت فلسطين من حصّة بريطانيا تمهيداً لقيام «الوطن القومي اليهودي» فيها. والغرابة، أنّ قلّة بسيطة في الوطن العربي تعرف بأنّ إتفاقيّة سايكس – بيكو كانت «صهيونيّة مئة بالمئة» ولو كانت الواجهة لها بريطانية فرنسيّة.. وكذلك الحال بالنسبة لوعد بلفور البريطاني عام 1917، حيث يجهل الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين، أنّ وعداً فرنسياً أعطي لليهود الصهيونيين في باريس هو وعد جولز كامبو قبل خمسة أشهر من وعد بلفور البريطاني وتحديداً في حزيران 1917 رفعه كامبو إلى سوكولوف بعد اجتماعات عدّة حضرها رئيس الوزراء الفرنسي يومها ريبو … حيث كان كامبو يومها السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسيّة، في الوقت الذي كان فيه ناحوم سوكولوف، ممثل الحركة الصهيونيّة في فرنسا…
فما هي التفاصيل الدقيقة لهذه المسألة؟ وكيف سارت الأمور وفق اتفاقيّة سايكس – بيكو ووعد بلفور، ومن ثم الانتداب البريطاني على فلسطين بشخص أول مندوب سامٍ لها هناك، وهو هربرت صموئيل؟ وماذا عن «صهيونيّة» إتفاقيّة سايكس – بيكو، ووعد بلفور، وهربرت صموئيل؟
وهكذا أثارت المنطقة العربية منذ وقت طويل شهية الدول الاستعمارية الطامعة ببسط السيطرة والنفوذ والتوسع، كم أسالت ثرواتها وخيراتها لعاب المتنافسين عليها باعتبارها عصب الحياة وشريان الوجود.
العمل في اتجاه التجزئة والتقسيم
فبعد التركيز الصهيوني والإستعماري على المنطقة العربية وأهمية وحدتها بصورة خاصة، كان لا بدّ من العمل في اتجاه التجزئة والتقسيم، وتقطيع أوصال المنطقة وإبقائها مجزأة، ليسهل التحكم بها، وتجيير كلّ خيراتها وثرواتها لمصلحة هذين الإستعمارين، دون إفساح المجال أمام شعبها للتقدّم والتطوّر والاستقلال. ومن هذا المنطلق كان تقسيم المنطقة العربية وتجزئتها عام 1916 بموجب معاهدة سايكس بيكو على أساس صهيوني بحت كمقدّمة لتبرير قيام «إسرائيل» العنصرية في ما بعد. وقد كان هذا الإتفاق لصالح الصهيونية تماماً وجاء ليخدم هدف الاستعماريين القدامى والجدد.
وقليلون جداً في الوطن العربي هم الذين أدركوا صهيونية مارك سايكس وجورج بيكو، كما يعترف كريستوفر ابن مارك سايكس ، بصراحة في كتابه الذي صدر عام 1953، ويتناول فيه ريتشارد سبثورب أحد رجال الكنيسة في القرن الماضي، كما تتناول دراسته الأخرى حياة والده مارك وعنوان كتابه هذا: دراسة مأثرتين حيث يقول عن والده في جهوده نحو الصهيونية «كان قد اعتنق الصهيونية سنة 1915 أيّ قبل توقيع المعاهدة بسنة واحدة اعتناقاً لم يَدْرِ به العرب، وكانت مساعيه من أقوى العوامل في حصول اليهود على وعد بلفور. وترك مارك سايكس وثائق وأوراقاً مختلفة مما يُعَدّ كله مصدراً مهماً في أخبار النشاط الصهيوني في لندن بعد 1914 حتى نهاية الحرب. وحسب قول مارك سايكس نفسه فإنّ الدكتور موسى غاستر وهو صهيوني بريطاني هو الذي أدخله في الصهيونية بُعيد تعيينه وزيراً مساعداً لوزارة الحرب في خريف 1915. أما في ما يتعلق بجورج بيكو ممثل فرنسا فإنّ بعض المراجع تشير إلى سوكولوف بشأن إدخاله وتحوّله إلى القضية الصهيونية، بيد أنّ المؤرخ الكبير عجاج نويهض يقول إنّ لويد جورج لم يدخله أحد وإنّما أعطى وجارى. ولا شك أنّ مارك سايكس يعتبر من الأوائل الذين خدموا الصهيونية خدمات ثمينة، دفعت بوايزمن إلى الاعتراف بفضله على الحركة قائلاً: «لا استطيع أن أفي خدمات سايكس حقها من القول، فهو الذي أرشدنا في عملنا إلى مداخل ومخارج أبعد مدى في صبغتها الرسمية، ولولا المشورة التي كان يقدّمها لنا رجال من أمثال سايكس واللورد روبرت سيسل في وقت لم تكن لنا فيه خبرة في المفاوضات الدبلوماسية الدقيقة لارتكبنا أخطاء كثيرة ولا شك».
وقد برهنت هذه المعاهدة عن النوايا الاستعمارية وأسلوب الخداع لتحقيقها حيث كانت بريطانيا تفاوض العرب واعدة إياهم بالاستقلال والتخلص من الحكم العثماني وكانت مراسلات «حسين- مكماهون» تدخلاً جوهرياً في هذا الإطار. وكان للثورة البلشفية في روسيا بقيادة لينين الفضل الأول في الكشف عن هذه المعاهدة وأسرارها.
وانطلاقاً من إدراك بريطانيا لأهمية المنطقة العربية وموقعها المتحكّم في العالم، توّجت تحالفها وعلاقتها العضوية بالحركة الصهيونية بإصدار وعد بلفور، بعد أن شعرت بتعرّض مصالحها الشرق أوسطية للخطر، وبعد أن لاحت في الأفق جهود الصهاينة الألمان للحصول على وعد ألماني بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين عام 1917، حتى أنّ هذا العامل كان من جملة العوامل الضاغطة على الحكومة البريطانية للتعجيل بإعلان وعد بلفور. كما أنّ أميركا لعبت دورها في هذا المجال عن طريق سفيرها في اسطنبول مورغنتو عندما ألقى خطابه في مدينة سين سيناتي الأميركية في أيار عام 1916 وجاء فيه أنه بالإمكان وضع ترتيبات شراء فلسطين من الأتراك لصالح اليهود، بعد انتهاء الحرب. ثم كان دخولها الحرب رسمياً في نيسان 1917 ضدّ ألمانيا وحليفتها تركيا.
وهناك عامل مهمّ لعب دوره في الإسراع في إعلان وعد بلفور كان انخراط الشبان اليهود في روسيا في صفوف الحزب البلشفي بقيادة لينين الذي وقف ضدّ استمرار روسيا في الحرب، حيث كان في نتيجتها توقيع معاهدة بريست – ليتوفسك بين ألمانيا والإتحاد السوفياتي بعد انتصار ثورة تشرين الأوّل/ أكتوبر 1917. وهذا ما دفع الجنرال ماكدونف قائد المخابرات البريطانية إلى طلب الإسراع في إعلان فلسطين وطناً قومياً يهودياً لكي يتجه الشباب اليهودي نحو العقيدة الصهيونية الرجعية، الموالية للاستعمار، عوضاً عن الانخراط في صفوف الأحزاب الثورية المعادية لبريطانيا .
«وعد كامبو» الفرنسي؟
ولكن قبل «وعد بلفور» البريطاني، كان «وعد كامبو» الفرنسي، الذي يعتبر بمثابة «وعد بلفور سابق»، فماذا عن «وعد جولز كامبو» الفرنسي؟
هذا، ويتفق معظم المسؤولين الفرنسيين خصوصاً أولئك الذين تقلّدوا المناصب الحسّاسة الأولى في فرنسا، على أنّ، لهذه الدولة العريقة في القارة الأوروبيّة، «رسالة خاصة» في الشرق، وبالتحديد في المنطقة العربية. وقلّما وجد رئيس جمهورية فرنسي لم يُصْغِ لنداء الشرق؟ وكلّ رئيس حسب أسلوبه الخاص يترجم رسالة فرنسا في المنطقة على حدّ قول البروفسور أدموند جوف.
ومهما اختلفت النظرة الفرنسية إلى الشرق، فإنّ من الواضح أنّ هذه النظرة كانت تنطلق من «العين» الفرنسية و«العقل» الفرنسي، و«القلب» الفرنسي أيضاً، لتصبّ في خانة «المصلحة» الفرنسية ذاتها.
هذا، وإذا لم تكن هناك اتصالات على المستوى الرسمي – كما يُقال بين فرنسا وقادة الحركة الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أنّ تغلغل الصهيونية في نفوس بعض المسؤولين الفرنسيين والمؤسّسات الفرنسية، كان موجوداً كما كانت له آثاره السلبية على الشرق، والعرب منه تحديداً.
ف «جورج بيكو»، المسؤول الرفيع في وزارة الخارجية الفرنسية وشريك مارك سايكس البريطاني في الاتفاقية المشهورة باسمهما، كان صهيونياً كشريكه سايكس . وعلى هذا الأساس جاءت اتفاقية سايكس – بيكو سنة 1916 خدمة للصهيونية، أكثر منها لبريطانيا وفرنسا، على المدى الطويل، ولو كان التحالف الغربي الصهيوني، يشكل حلقة مركزية في الاستراتيجية الاستعمارية. من هنا يشير بعض المؤرّخين إلى صهيونية جورج بيكو بالقول: «.. أما في ما يتعلق بجورج بيكو، ممثل فرنسا، فإنّ بعض المراجع تشير إلى سوكولوف Sokolow ، أحد آباء الصهيونية اليهودية. حول إدخاله وتحوّله إلى القضية الصهيونية. وقد نجح كذلك مع لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا»…
إنّ هذه العيّنة، في الواقع، ليست وحيدة على صعيد نجاح الحركة الصهيونية في استمالة الشخصيات الفرنسية ذات المواقع الهامة والمناصب الحساسة في فرنسا، بدليل أنّ الزعماء الصهاينة كثّفوا من نشاطهم هناك خلال الحرب العالمية الأولى، إلى الحدّ الذي استطاعوا فيه إقناع الحكومة الفرنسية إصدار تصريح، يعتبر اعترافاً رسمياً من قبل فرنسا بالحركة الصهيونية ومشروعها، وقد تمّ ذلك فعلاً وصدر «تصريح كامبو» في الرابع من شهر حزيران/ يونيو سنة 1917. وكان هذا التصريح عبارة عن رسالة من الحكومة الفرنسية. موقعة باسم السكرتير العام لوزارة الخارجية كامبو ، مرسلة إلى الزعيم الصهيوني سوكولوف، ممثل الحركة الصهيونية في فرنسا.
وهذا يعني أنّ فرنسا كانت سبّاقة على بريطانيا في إصدار «وعد بلفور فرنسي» قبل «وعد بلفور» الإنكليزي بخمسة أشهر. والفرق الوحيد بين هذين الوعدين يتمثل بأنّ «الوعد الفرنسي» صدر باسم السكرتير العام لوزارة الخارجية إلى ناحوم سوكولوف. أما «الوعد البريطاني» فكان من وزير الخارجية شخصياً وباسم الحكومة الإنكليزية إلى البارون روتشيلد. وبما أنّ بلفور، وزير الخارجية أعلى منصباً وأكثر شهرة من كامبو، السكرتير العام لوزارة الخارجية، وبما أنّ روتشيلد أكثر شهرة وغنى من سوكولوف، فقد اشتهر «وعد بلفور» الانكليزي أكثر من سابقه الفرنسي دون إغفال وزن القوة البريطانية في هذا الإطار ، وعلى أساس ذلك، فقليلون جداً في الوطن العربي هم الذين سمعوا بتصريح كامبو أو وعده .
ويبقى السؤال الكبير: ما هو تصريح كامبو؟ وما هي حيثيات إصداره؟
إثر النشاط الذي قام به قادة الحركة الصهيونية في فرنسا، تمّ اللقاء الأول بين ناحوم سوكولوف N. Sokolov ، ممثل الحركة في فرنسا، وبين رئيس الوزراء الفرنسي ألكسندر ريبو A. Ribot وسكرتير عام وزارة الخارجية جولز كامبو، في 25 أيار/ مايو 1917. وتعدّدت المقابلات في ما بعد بين المسؤول الصهيوني والمسؤول الفرنسي كامبو، الذي شرح فيها مطالب الحركة الصهيونية من فرنسا، حيث طالب سوكولوف أن تصدر الحكومة الفرنسية بياناً كتابياً تُعرب فيه عن عطفها على أهداف الحركة الصهيونية فيما يختص بقيام دولة يهودية في فلسطين.
استجابت الحكومة الفرنسية لهذا الطلب، لأسباب متعدّدة منها:
أولاً: الوضع الدولي غير المستقرّ خلال الحرب العالمية.
ثانياً: الموقف الحربي الصعب لفرنسا.
ثالثاً: عدم رغبة فرنسا بالابتعاد عن لعب دور مؤثر في منطقة الشرق، حتى لا تصبح الأمور كلها في يد بريطانيا.
رابعاً: الضغوطات التي مارسها اليهود الفرنسيون عليها.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب، نرى من الضروري الإشارة إلى أسباب أخرى، لا تقلّ شأناً عما سبقها، ومنها:
أ أهمية المنطقة العربية من مختلف النواحي، بالنسبة للاستراتيجية الفرنسية التي أدركت قيمتها قبل غيرها.
ب حقد فرنسا وكراهيتها للعرب ورغبتها الدائمة في «الثأر التاريخي».
ج الوفاء لنابوليون كأول زعيم دولة عمل على إقامة «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين.
نصّ الوعد الفرنسي…
وهكذا، في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 1917، نشرت الحكومة الفرنسية الرسالة الوعد التي أرسلتها إلى ممثل الحركة الصهيونية في فرنسا، وفيها إعلان صريح من جانب الحكومة الفرنسية، عن عطفها على المخطط الصهيوني. والرسالة موقّعة من قبل السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسية كامبو، جاء فيها:
«لقد تفضلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم له، والذي يهدف إلى تنمية الاستعمار اليهودي في فلسطين. إنكم ترون أنه إذا سمحت الظروف من ناحية، وإذا توافر ضمان استقلال الأماكن المقدسة من ناحية أخرى، فإنّ المساعدة التي تقدّمها الدول المتحالفة من أجل بعث القومية اليهودية في تلك البلاد، التي نفي منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة، ستكون عملاً ينطوي على العدالة والتعويض».
وتضيف الرسالة: «أنّ الحكومة الفرنسية التي دخلت هذه الحرب الحالية، للدفاع عن شعب هوجم ظلماً والتي لا تزال تواصل النضال لضمان انتصار الحق على القوة، لا يسعها إلا أن تشعر بالعطف على قضيتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء، إنني سعيد لإعطائك مثل هذا التأكيد».
على ضوء ذلك، وبعد أن انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، جاءت مقرّرات مؤتمر فرساي في فرنسا عام 1919، ومن ثم مؤتمر سان ريمو في إيطاليا في نيسان/ إبريل 1920، لمصلحة الصهيونية العالمية، وفي ما يتعلق بالمنطقة العربية على وجه الخصوص، وفلسطين فيها على الأخصّ.
ويعتبر وعد بلفور من أغرب الوثائق الدولية في التاريخ، إذ منحت بموجبه دولة استعمارية أرضاً لا تملكها هي فلسطين ، إلى جماعة لا تستحقها الصهاينة على حساب من يملكها ويستحقها وهو الشعب الفلسطيني، مما أدّى إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحو لا سابقة له في التاريخ، ولم يكن ذلك ليتحقق بهذه السرعة، لو لم يحلّ لويد جورج محل اسكويث كرئيس للوزراء، ولو لم يُعيَّن بلفور وزيراً للخارجية، ولتصبح المراكز الحساسة في الحكومة الانكليزية في أيدي صهيونيين متسلّحين بالهوية البريطانية.
كما يعتبر هذا الوعد المشؤوم بمثابة «جواز السفر» و«تذكرة المرور» لمشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين إلى حيّز الواقع العملي بإضفاء الصفة الرسمية الدولية عليه، وهذا ما سعى الصهيونيون طويلاً لتحقيقه، حتى أنه أقرّ كهدف صهيوني أعلى في مؤتمر بال عام 1897 مع التأكيد على أنّ هدف الصهيونية هو خلق وطن في فلسطين للشعب اليهودي، يضمنه القانون العام. ومن المؤكد أنّ هذا القانون العام كان حكراً على الزعامة الدولية التي كانت تمثلها بريطانيا وفرنسا في تلك الفترة.
وكما كانت وثيقتا سايكس بيكو ووعد بلفور صهيونيتي التوقيع والهدف فقد كان لمؤتمر الصلح والسلام الذي عُقد في باريس عام 1919 دوره الأكبر في تحقيق المزيد من أهداف الحركة الصهيونية عن طريق الأربعة الكبار: الرئيس ويلسون عن أميركا، ولويد جورج عن بريطانيا، وكليمنصو عن فرنسا، وأورلندو عن إيطاليا. لكن انسحاب ويلسون من المؤتمر في ما بعد وهامشية الدور الإيطالي جعل من العالم رهينة تحكم المنتصرين بريطانيا وفرنسا ومن ورائهما الصهيونية العالمية، خصوصاً لأنّ للمستشارين والمساعدين دورهم الأساسي في أية قضية مصيرية يتوقف عليها مصير العالم، فكيف بمؤتمر كمؤتمر باريس 1919؟ وقد لعب هؤلاء دورهم المهمّ إلى جانب الصهيونية حيث كان إلى جانب لويد جورج الصهيوني سكرتير يهودي إسمه ساسون. حتى أنّ لويد جورج نفسه كان رئيس الحكومة البريطانية التي أصدرت وعدها بإعطاء فلسطين وطناً قومياً يهودياً عن طريق بلفور. كما كان لكليمنصو سكرتير اسمه مندل روتشيلد له أهميته أيضاً على هذا الصعيد.
ويلسون يبصم…!
أما الرئيس ويلسون الأميركي صاحب المبادئ الأربعة عشر المتضمّنة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها فإنه لعب دوره الخطير إلى جانب الوطن القومي اليهودي من خلال وعد بلفور، وهو الذي قال عن اتفاق سايكس بيكو إنه ظاهرة من ظواهر الاستعمار وعمل مناقض لحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. وعن طريق المفاوضات التي جرت بين بريطانيا وأميركا بصدد وعد بلفور والنص الذي يجب أن يصدر به كان للرئيس ويلسون دوره الأول في اختيار الكلمات التي تضمّنها هذا التصريح حيث انتقاها كلمة كلمة، فأتت بما هو معروف اليوم بوعد بلفور، وبشكل كتاب رسمي موجه من بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد الصهيوني. وقد تلقى ويلسون رئيس الولايات المتحدة من لويد جورج ومن وايزمن نص ما اتفق عليه من عبارات وعد بلفور فوافق على ذلك وباركه قبل أن يصدر الوعد رسمياً في 2 تشرين الثاني سنة 1917.
ومن المؤكد أنّ الرئيس الأميركي لم يوافق على ذلك دون استشارة كبير أخصائييه ومساعديه، والذي كان يعتبر الابرة المغناطيسية في دماغ ويلسون، وهذا المستشار الأول هو القاضي الأميركي اليهودي «برانديز» المشهور بقوله عام 1916 «إنّ القصد من طلب اليهود تسهيل الهجرة إلى فلسطين، هو أن يصبح اليهود أكثرية السكان فيها وأن يرحل العرب عنها إلى الصحراء». كما كان إلى جانبه أيضاً بالإضافة إلى «برانديز» إثنان من مستشاريه الأقوياء وكانا من اليهود أيضاً وهما مترجم لم يعرف إلا باسم منتو وآخر إسمه كيش، وجميع هؤلاء يرمون عن قوس واحدة بسهام مختلفة إلى هدف واحد.
ولعبت أميركا أيضاً دوراً مهماً في مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس عام 1919 إلى جانب الصهيونية، وكان ممثلها لنسننغ متفهّماً وداعماً لما كان يطرحه وايزمن حول الوطن القومي اليهودي حيث بعد أن فُضّت جلسة مؤتمر الصلح وخرج الناس، سأل الممثل الأميركي لنسننع وايزمن «انك قد طلبت وطناً قومياً يهودياً في فلسطين فماذا تعني بالوطن القومي؟» فأجاب وايزمن: «إني أعني خلق إدارة نابعة من أحوال البلاد الطبيعية – ودائماً مع المحافظة على مصالح غير اليهود – حتى مع اضطراد الهجرة تصبح فلسطين يهودية كما هي انكلترا إنكليزية»، ثم سأله وايزمن: «هذا واضح؟» فقال لنسسننغ «بالتأكيد». وبقيت علاقة الصهيونيين بالرؤساء الأميركيين على أحسن ما يرام، حتى ولو حافظ بعضهم على العلاقة بين أميركا والمنطقة العربية. ومن الواضح أنّ الرئيس الأميركي ترومان أعلن جهاراً تأييده للحركة الصهيونية بعد تحفظ الرئيس روزفلت حيث «انتقلت قيادة الحركة الصهيونية إلى أميركا واتخذت منها مركزاً فعّالاً لنشاطها بفضل نفوذ اليهود الدعوي والمالي والسياسي». وبدأت الولايات المتحدة بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين لاستعمارها واستيطانها وإقامة الوطن القومي اليهودي فيها مع التركيز على تهويد الأرض الفلسطينية وإقامة المستوطنات وتشجيع أعمال العنف والإجرام ضدّ العرب، وأصبحت العلاقة وثيقة جداً بينهما حيث عند انسحاب بريطانيا في 15 أيار 1948 أعلن اليهود استقلالهم، واعترف الرئيس ترومان بذلك الاستقلال، بعد دقيقة واحدة من إعلانه، وقبل أن تتقدّم «إسرائيل» رسمياً بذلك إلى الحكومة الأميركية. وبذلك كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بـ«إسرائيل» ثم قُبلت «إسرائيل» عضواً في الأمم المتحدة في أيار 1949، ويبدو أنّ اتفاقاً مسبقاً كان قد جرى بين «إسرائيل» وأميركا برسالة أرسلها وايزمن إلى ترومان في 13 أيار يخبره فيها أنه في منتصف ليلة 15 أيار ستظهر دولة «إسرائيل»، ويقترح عليه أن تأخذ أميركا البادرة بالاعتراف بها. وهكذا تحوّلت هذه الدولة الجديدة إلى ولاية أميركية خارج حدود الولايات المتحدة وكقاعدة مهمّة لها وضرورية.
والجدير بالذكر أنه مع إطلالة العام 1920 بدأ التحوّل الكبير في تاريخ المنطقة العربية. بموجب انتقال الصهيونية إلى مرحلة متقدّمة أكثر من ذي قبل، تلك المرحلة التي حلّت في أحشائها روح العقيدة الصهيونية، المتمثلة بالتجمع والاقتحام. تلك العقيدة التي تعني في ما تعنيه سفك الدماء واستخدام السيف والدمار وتشكيل الهيئات السرية التي تمثلت بالهاغانا أو الدفاع القومي «يوم النبي موسى» وحزب جابوتنسكي، ومناحيم بيغن وابراهام شترن. وهو العام الذي يطلق عليه إسم «عام الدماء الأولى» حيث قتل في هذا التاريخ يوسف ترمبلدور رفيق جابوتنسكي والذي يعتبر من اليهود المغامرين بعد اشتباكات مع العرب قرب الحدود الشمالية، وحزن عليه اليهود حزناً كبيراً كما تعاهدوا على الأخذ بثأره. وهذا ما دفع جابوتنسكي لاقتراف مذبحة «يوم النبي موسى» في 4 نيسان حيث كان ترمبلدور من المدرّبين الأساسيين للعصابات الصهيونية ومن المؤسّسين لتنظيماتهم المسلّحة، وأشهرها الهاغانا، حتى أنّ الحركة الصهيونية كانت تعتبره أحد كبار رؤوسها المدبّرة. بعد هذه المذبحة، مذبحة يوم النبي موسى، اعتقل جابوتنسكي وحوكم من قبل البريطانيين لتسلله وتهريبه السلاح، ثم أفرج عنه أول مندوب سام بريطاني في فلسطين، وهو الصهيوني هربرت صموئيل الذي وصل من لندن إلى يافا في الأول من تموز 1920، وقد تلقاه اليهود بالهتافات: «أهلاً بأمير إسرائيل الأول. أهلاً بعزرا الثاني». هذا وقد أورد صموئيل في مذكراته التي كتبها عام 1945 ما يلي: لما وصلت إلى دار الحكومة في جبل الطور وكانت قبلاً مقرّ الحكومة العسكرية. واعتباراً من هذا اليوم أمست دار الحكومة المدنية استقبلني مضيفي الجنرال لويس بولز، الذي كنت ضيفاً عليه من قبل، وهو متهيّئ للترحيب بي وتسليمي مقاليد الحكومة. وكان فيه طبع المرح والنكتة مما سبّب حادثة فكاهية نشرتها الصحف في ما بعد، لكن نشرها في الصحف لم يكن بغاية الدقة فأحببت إيرادها هنا. فلمّا انتهى دور التسليم وقبل أن يخرج الجنرال بولز من المكتب قال لي: والآن أريد منك أن توقّع لي وصلاً بالاستلام فسألته: «وصلاً باستلام ماذا؟» قال: فلسطين. فقلت لا أستطيع ذلك ولعلك لا تعني هذا من قبيل الجدّ، فأجاب: أعني هذا بكلّ تأكيد. وهذا هو مهيّأ ومطبوع . وناولني قصاصة ورق صغيرة. هذا ما فيها: استلمت من المايجور جنرال سير لويس بولز فلسطيناً واحدة بالتمام والكمال. وبعد هذا التاريخ فسحة للتوقيع. فعدت أتردّد فأصرّ فوقعت وأضفت عبارة: ما عدا السهو والغلط جرياً على عادة لغة الوصولات التجارية.
والواقع أنّ هربرت صموئيل يُعَدّ من رؤوس الصهيونية العنيفة. وكما ألمح في مذكراته فإنه عيّن في المنصب المذكور مع معرفة حكومة صاحب الجلالة التامة بعواطفه الصهيونية. بل دون شك بسبب هذه العواطف إلى حدّ كبير. ويعترف حاييم وايزمن بنفسه بمسؤوليته المباشرة والشخصية عن تعيين صموئيل في هذا المنصب. ويقول في معرض تعليقه على ذلك: «كنت مسؤولاً بشكل رئيسي عن تعيين السير هربرت صموئيل حاكماً لفلسطين. فالسير هربرت صموئيل صديقنا وقد قبل ذلك المنصب الصعب نزولاً عند طلبنا. نحن عيّناه في ذلك المنصب. أنه صموئيلنا».
التاريخ يمهل ولا يهمل
ونحن بدورنا نقول ونؤكد على أنّ فلسطين وشعبها اعتبرا سلعة في السوق البريطاني والدولي وتمّ التعامل معهما على هذا الأساس. وكأنّ مصير الشعوب والأوطان صك تجاري لا يحتاج إلا توقيع البائع أو السارق لا فرق والشاري فقط. ومع ذلك يعودون بعدها للتوقيع على شرعة حقوق الإنسان.
ومن يعمل على تقطيع الأوطان وتمزيق الشعوب فإنه معرّض لأن يُمزَّق ويُقطَّع في كل لحظة والتاريخ يمهل ولا يهمل. والشعب لا يرحم. والظلم إلى زوال. وألف تحيّة إلى أبناء فلسطين الذين أرسلوا إلى بريطانيا اليوم مائة ألف رسالة يطالبونها بعدم الإحتفال بوعد بلفور..