سهلٌ ممتلئٌ بـ«حروف آيلة للسموّ» متخفّفة من أناها!
فيينا ـ طلال مرتضى
بدءاً من ماهية السؤال، كم نمتلك من الجرأة لنفرّ بعيداً من ذواتنا الأنا ؟ لا بدّ حينئذٍ من وقفة طويلة نقتنصها في لحظة تَخلٍّ، كي نكون أولاً وأخيراً صادقين متخفّفين من إثم المعنى:
«عند قافلةِ السكون
هناك
وراءَ صفحاتِ الغياب
مواكبُ سرابٍ كتبتُها
نثراً…
كي أحتالَ عليَّ».
كان الصوت صادقاً وهو يحاول القبض على أناه، لكنه بدا كسيراً حين واربها المقال والفعل، وما تلك المواربة الحاضرة في فِخاخ الكلام إلّا حامل أبيض النوايا، يكنه التبتّل.
ثمة تفاصيل عالقة ما بين دوال العتبة الأعلى العنوان التي اجترعتها الشاعرة اللبنانية آنديرا سلوم لمجموعتها النثيرة «حروف آيلة للسموّ»، والتي صدرت مؤخراً عن منشورات جمعية «حواس» الثقافية، وإشارات ظاهرة في لوحة الغلاف الذي وُقّع بريشة التشكيليّ عبد الحليم حمود، حيث انطلق المعنون أعلاه من كسر نمطية المقولة …آيلة للسقوط ، لتبدأ الحكاية تصاعدياً، فيما تُبيّن إرهاصات اللوحة لحالات عصف لربما في جغرافيا لم نطأها إلّا في أوراق الكتب. لكنّني أتوقف عند التقاطعات المتقابلة ما بين اللوحة والمضامين من حيث الترميزات الظاهرة كتمثال الحرّية والذي يلتقي مع أصوات داخل النصوص دأبها الأوّل فتح نافذة هواء نقيّ ظلّ العادات والتقاليد التي يغفو على أطلالها مجتمعنا، والتي تقيّد حرّية المرآة تحت مظلّة الدين والقبلية:
«حبيبي…
اليوم سأبكي
كما لم تبكِ امرأةٌ
من قبل…
أفرد راحتيك
لملم شجوني…
علِّمني كيف أنزحُ
من ذاتي».
وبما أن سمة الخيل الجموح، فقد التقى اللون مرّة تالية والشعر، لتنطلق رحلة الروح نحو سدرة منتهاها، عندما أرسلت نداها إلى البعيد القصي، قائلة:
«يا سيِّدَ غيابي…
أريدُ سفراً إلى حدودِ
اللّانهايات
كي أَتخطَّى بُعاداً أَضنى الروح…
يعيدُني طفلةً
بقدمينِ ناعمتينِ
أتسلَّقُ عبرَ رقصةٍ
أدراجَ الضَّوءِ والغيمِ معاً
أرتقي لعالمٍ آخر
بحلمٍ جديدٍ
فارِسَتُه شهرزاد».
لن أخاتل هذه المرّة قارئي حين أقول له إنّ «حروف آيلة للسموّ» لها نغمتها الخاصة عندما تعبر الحواس، فهي تدور في فلك ذي قدسية متفرّدة من حيث دوالّ الحروف وإسقاطاتها المتمنّعة وقت ذهابها نحو التنسّك في مدارك الصوفية:
«لا تخفِ الاقتراب…
أزهارٌ مقدسةٌ تسكنني
وداخلي محرابُ التائبين…
قِبلتي أنت…
أقرؤك فاتحةَ الكتاب…
أرتِّلكَ آياتِ الفتح
تغمرُني نشوةُ الروح!
أمجِّد اللَّهَ في عُلاه…
أقيم صلاةَ التلاقي
وحول مداركِ شمسِك أطوف…
أفرش لك القلبَ مداساً
وفي كلّ سجدة
تحتويك يداي».
وتقول في موضع آخر كلاماً مختلفاً وذلك عندما وازنت من دون مخاتلة بين الروح الهائمة وبين العنوان الذي لا يمكنها كسر صدى ترنيمته، بقولها التالي:
«أنا الموسومةُ في مُعتقلِ
الرهبنة!
محالٌ…
مُحالٌ…
أنزفُ طُهرَ قداستي…
عذرك سيدي:
قصائدي أكتبها على
جدران الكبرياء».
وفي بعض المطارح الأخرى ذهبت نحو التناصّ لتكمل خطّ سيرها المضني، إذ إنّها لم توفّر ما استطاعت إليه سبيلاً في ما يرفع من سويّة مقولتها من متون القرآن مروراً بالأسطورة أو الحكاية:
«جمالُ يوسف…
عِشق يعقوب…
الشمسُ والقمرُ
واثنا عشرَ
كوكباً
وكلُّ
حروفِ الكَلِم…
في فلكٍ مقدّس
يمخرون…
كيقظةِ إلهٍ
ذات فجرٍ».
لكنّ نداء الشعر الأكثر صدقاً وقت لجوء الروح إلى صومعتها، ملاذها الآمن، هناك حيث يكون الطقس شفيفاً كما الحبر الزلال، فلِمَ لا و«منارة بيروت» مفتاح السرّ، مؤكداً أنّ المقال هناك سيكون أصدق أنباء من الكتب:
«تعال نطوي
أرصفةَ المنفى…
نلملمها…
حروفَ العطف
نستجدي…
نثارات الضوء
نجمعها
مطراً
ورداً
تحت منارة بيروت…
تعالَ
نغزلِ الملقى سجادةً
حمراءَ
نشقي العاشقين ببلاغة
نونِ النسوة!
ثمةَ فرحٍ يلوِّحُ
بمنديله».
لكنّه قلب الأنثى الرهيف سرعان ما يعود إلى عالمه الأوّل، الذهاب إلى أقصى الحلم:
«تقولُ نسَّاجةُ الكلام:
حرِّرني منِّي
الغاضبة…
فُكَّني من إثمِ قيودي…
موسيقى
من وحيِ الخيال
هب روحِيَ العطشى
لترتقي».
قارئ آنديرا سلّوم سيتوقف عند مفاصل النصوص المسفوحة كـ«حروف آيلة للسموّ»، ليستعيد شيئاً ضائعاً من أناه، تركته الشاعرة طيّ مضمرات الحكي على شكل أكواد تركت له حرّية محاولة فكّها، عدا عن أنّها جعلت من بطانة النصوص سهلة ممتنعة، ليس ذلك بدعاً جديدةً يلتقطها القارئ، بل لأنه سيتلمّس من دون عناء وتفكّر، عفوية ما تركته من رسائل هنا.
شاعر وناقد سوريّ