لماذا تحقق وعد بلفور وتبدّدت وعود بريطانيا للعرب؟
د. سامي الأسطل
ذاع سيط وعد بلفور حتى بلغ الآفاق فلقد نجح الصهاينة في اقتناصه، وحققوا ما هو أكثر مما ورد في نص الوعد فلقد عرفوا كيف يحوّلون الوعد إلى دستور، وعرفوا كيف يحوّلوه إلى أرض ووطن وشعب جديد، وعرفوا كيف يشرّدون مئات الآلاف من أصحاب الأرض الحقيقيين الآمنين عبر السنين من مدنهم وقراهم، عرفوا كيف يحولون هذا النص إلى مؤسسات اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية واجتماعية، لقد عرفوا كيف يحولون الوعد إلى أقوى دولة في «الشرق الأوسط»، دولة لم تكتف بحدود فلسطين بل قامت باحتلال أراض من سورية ومصر والأردن عقب حرب عام 1967.
في هذا السياق كانت الوعود التي أطلقتها بريطانيا عبارة عن سوق كبيرة من الوعود للروس والفرنسيين والعرب بهدف الحشد العالمي لكسب الحرب وفي هذا السياق يهمّنا بالدرجة الأولى وعود بريطانيا للعرب، ومن أشهر تلك الوعود: مراسلات الشريف حسين مكماهون، حيث فهم الشريف حسين والعرب في ذلك الوقت أنّ الدولة العربية ستقام ويتحرّر فيها العرب، وأنّ فلسطين ضمن الدولة العربية، لا سيما أنّ المراسلات حدّدت المناطق المستثناة، كما أصدرت بريطانيا التصريح البريطاني للسوريين السبعة المقيمين في القاهرة في يونيو/ حزيران من عام 1918 تضمّن نية الحلفاء منح البلاد الحرية وضمان مستقبل العرب، ثم صدر التصريح الفرنسي البريطاني في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1918، حيث التزمت فيه بريطانيا وفرنسا بالحقوق السياسية والاقتصادية للفلسطينيين والعرب، وتعهّدت بعدم المساس بمصالحهم، ثم خرجت توصيات لجان التحقيق التي تصبّ في مصلحة العرب، مثل لجنة بالن عام 1920، ولجنة هايكرفت 1921، ولجنة عصبة الأمم عام 1930، والكتاب الأبيض الأول عام 1922، والثاني عام 1930، والثالث عام 1939، هذا الكتاب الذي نص على إنشاء دولة فلسطينية خلال فترة زمنية قصيرة، ومجلس تشريعي.
أمام ما سبق يتبادر إلى الذهن فكرة لماذا بريطانيا قامت بإطلاق هذه الوعود المتناقضة؟ بالطبع كانت هذه العهود والوعود من أجل مصالح بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط وكذلك حماية قناة السويس وتحقيق شروط كسب الحرب فقد حاولت إرضاء اليهود الروس المتنفذين في الثورة البلشفية لكسب مواقفهم، وحاولت إرضاء اليهود الأميركان المتنفذين من أجل استمالتهم لبريطانيا، وكذلك الأمر قطعت الوعود للعرب من أجل الثورة على الدولة العثمانية وتحقيق الفوز في الحرب.
لقد كان وعد بلفور صفقة تجارية مالية، هذه الصفقة نفسها التي رفضتها الدولة العثمانية وأبرمتها بريطانيا مع الصهاينة تمّ فيها بيع فلسطين كلها الشعب، الأرض، التراث، الحاضر، الماضي، المستقبل… كلّ شيء. كان ذلك في صك من خمسة سطور و67 كلمة خلفت مائة عام من المعاناة، الجرائم، المذابح، الطرد، اللجوء، التهجير، الجراح، الشتات…
ما إن أتمّت بريطانيا تنفيذ هذا الوعد وتطبيقه من خلال إقراره في دستور فلسطين الذي تمّ إقراره عام 1922، ومن خلال إدراج هذا النص في صك الانتداب عام 1922، فقد التزمت مقدّمة الصك الأممي بتنفيذ الوعد، وجاء في المادة الثانية ما ينص على تكليف بريطانيا أن تكون مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي ما إن أتمّت بريطانيا هذه الأهداف الدستورية خلال 31 سنة التي تمثل فترة الانتداب حتى تغيّرت الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا: فقد تحوّل 78 من فلسطين إلى «إسرائيل» وتمّ ضمّ الضفة الغربية 21 من فلسطين إلى الأردن وبقي قطاع غزة 1 منها تحت الإدارة المصرية.
أمام ما سبق من ضرر بالغ وتطهير عرقي أين الشق الثاني من وعد بلفور؟ القاضي بعدم إلحاق الضرر بغير اليهود، أين الحقوق المدنية والدينية؟ في أفضل تفسير يمكن فهم الشق الثاني من وعد بلفور أنه حكم ذاتي وهو ما لم نجتز عتبته حتى الآن.
لا شك أنّ بريطانيا تتحمّل جريمة هذا الوعد ومآله، وتتحمّل مسؤولية تيه وتناقض تلك الوعود والتصريحات الكثيرة في المقابل لماذا كانت القيادات الفلسطينية مجرد متلقين دون أدنى درجات الفعل الحقيقي المتمثل في إنجاز مهمة تمكين المجالس التمثيلية في مؤسساتنا الوطنية والحزبية والنقابية وحتى الاجتماعية، وأعلينا من جدار وحصون القيادات التي لا تخضع للمحاسبة والمساءلة والسؤال والمراقبة.
لذلك، وللخروج من هذه الحالة العالقة، لا بدّ من أن يمكن الشعب الفلسطيني بصورة حقيقية في ظلّ نظام سياسي بمرجعية محدّدة صاغتها من قبل وثيقة الاستقلال في الجزائر عام 1988 وأقرّها المجلس الوطني الفلسطيني.
لم تعرف الحركة الوطنية منذ البواكير والبدايات مبدأ التداول السلمي للسلطة، اللهمّ إلا ما خلا بعض حالات الالتفاف على القانون ولكننا أرّخنا لجذور الانقسام الذي أطلّ برأسه البغيض منذ اللحظات الأولى، على عكس الحركة الصهيونية التي كانت تلتزم بالمؤتمرات الصهيونية التي تستلهم منها خططها وأخذ الدروس والعبر…