نفوذ قطر في فرنسا يتجاوز دعم الإرهاب الذي تتخذه كسمعة لها في الشرق الأوسط
لم يبقَ إلّا الصهيوني في هذه المستديرة الأرضية، لم يتناول قطر ودعمها الإرهاب في الشرق الأوسط. هذا ما كان ينقص الدوحة، لعمري أنّ حجارة المكتب الاقتصادي العبري القائم فيها، تهتزّ اليوم سخريةً من مواقف قطر التي تمادت بها خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
أما مناسبة هذا الكلام، فمقال نُشر أمس في صحيفة «معاريف» العبرية، لكاتبه جدعون كوتس، الذي تحدّث عن قطر، ونفوذها في فرنسا الذي يتخطّى «دوزه» دعمها الإرهاب في الشرق الأوسط.
يقول كوتس: يتذمر اليوم الجميع من قطر. بدءاً بدور الامارة الصغيرة والغنية في الخليج الفارسي في تشجيع الارهاب الاسلامي في سورية، في العراق وفي غزّة، وحتّى الاتهامات بشراء المونديال الذي يفترض أن تستضيفه إذا لم تطرأ انعطافة دراماتيكية ما، في 2022. لكن في الغرب، يفضلون تجاهل الحضور الكثيف لقطر في اقتصاد الدول الرائدة في العالم، المليارات التي استثمرتها كي تسيطر على صناعات أساسية، مبان عامة، فنادق فاخرة، فرق كرة قدم أسطورية، ووسائل إعلام مركزية.
العمّ من قطر ـ الفأر الصغير الذي زأر إلى جانب المنافس السنّي الوهابي، الجار شديد القوة السعودية كان دوماً هناك مع محفظة مفتوحة عند الحاجة. ولما كان لا يدور الحديث عن هيأة خيرية، فمع المساعدة تأتي القوة. صحافيان، هما المحققان الفرنسيان فانيسا ريتينيه وبيار بان، اللذان أصدرا هذه الايام كتاباً سميكاً بعنوان «فرنسا تحت التأثير»، ويعنى بعلاقات قطر مع فرنسا، لا يتردّدان في القول إنه منذ 2007 أصبحت الجمهورية الفرنسية المفتخرة، مستعبدة للإمارة الصغيرة وزعمائها، اقتصادياً ولكن أيضاً استراتيجيا، في مجال السياسة الداخلية، العلاقات الخارجية والامن القومي. لقد أثرت قطر على اتخاذ القرارات لدى الرئيس نيكولا ساركوزي وخليفته فرانسوا هولاند الذي حلّ محله قبل أكثر من سنتين، يجد صعوبة في محاولاته التحرر من الارث الثقيل. ولم تتردّد النخب الفرنسية في العمل ضد المصلحة القومية بسبب تعلقها بالمال القطري، كما يدّعي الكاتبان ومن أجل السماح لقطر ولها نفسها الكسب ـ لم تخش الفساد.
فرنسا هي، مع ذلك، مجرد الهدف الثاني في العالم من حيث حجم الاستثمارات القطرية، بعد بريطانيا. فالاستثمار الرسمي لقطر في فرنسا يقدر بـ25 مليار دولار، و5 مليار دولار آخر من الاستثمارات الخاصة. ولكن العلاقة الوثيقة بين المال والسلطة في فرنسا، وأكثر من ذلك الطابع الحميم الذي ارتدته علاقات القيادة الفرنسية مع حكام قطر، في إطار التقاليد «الرومانسية» لعلاقات السياسة الفرنسية مع الشرق، أدّت بنفوذ «الشراكة» على فرنسا أن يكون اكبر بأضعاف. وقد وجدت هذه الحميمية تعابيرها مثلاً في الكشف الذي يقتبسه الكتاب عن مصدرين كبيرين، جزائري ولبناني، على لسان الرجل الذي كان الحاكم كلّيَّ القدرة لقطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. ففي عام 2008، طلّق الرئيس ساركوزي زوجته سيسيليا وتزوّج بعد وقت قصير بالمغنية والعارضة السابقة كارلا باروني. وقد طلبت سيسيليا من ساركوزي 3 مليون يورو. «الطلاق كلّفه ثمناً باهظاً»، لاحظ المتحدث مع الشيخ. فأجاب حاكم قطر: «كلّفه ثمناً باهظاً. أنا الذي دفعت المال». وهكذا بدأ «شهر عسل» فرنسا وقطر بتمويل طلاق الرئيس الفرنسي من أجل السماح له بشهر عسل خاص جديد.
العلاقات بين فرنسا وبين حمد بن خليفة، الذي استولى على الحكم بعد أن اطاح بأبيه، توثقت في عهد حرب الخليج الثانية حين كان موقف فرنسا ضد العملية بقيادة الولايات المتحدة منح قطر إمكانية أن تنفض عن نفسها صورتها كجزيرة للولايات المتحدة. وفي إطار المنافسة مع الجار السعودي، بدأت قطر تراهن على فرنسا. وسرّ الرئيس جاك شيراك بالفرصة لإصلاح «أخطاء الماضي» وصداقته مع الوالد المنحّي الحاكم. فاشترت قطر دبابات فرنسية، ولكنها أبدت اهتماماً أكبر بـ«التعاون» على الارض الفرنسية. أما فرنسا من جهتها فكانت مستعدة لأن تغضّ النظر عن عدّة ظواهر عرّضتها للخطر في نهاية المطاف وأحدها يسمى «الجزيرة». شبكة التلفزيون العالمية أظهرت حداثةً وانفتاحاً، وفتحت بثها مثلاً لرجالات «إسرائيليين»، ولكن محافل أمن رفيعة المستوى تشير اليوم إلى استخدامها كقناة اتصال بين محافل الارهاب الاسلامي أولهم بن لادن والعالم الواسع، وفي أثناء «الربيع العربي» قامت بعلاقات عامة للجهات الاسلامية التي «سيطرت على الثورات».
أما الظاهرة الثانية فتسمّى يوسف القرضاوي. الداعية الاسلامي المتطرّف الكبير، من مواليد مصر والمقرّب من العائلة المالكة والمرجعية الروحية العليا للاخوان المسلمين، كان دوماً الرجل الذي سمح له بأن يمثل بالضبط النقيض ممّا بثته في العالم العائلة المالكة. فهو الاداة السياسية والعامل الموازي الذي يتوجه إلى الدوائر المتطرّفة وإلى الايديولوجيا الظلماء. في بثّه في «الجزيرة» يفسر الاسلام بطريقته، يشجع قمع النساء ويسمح بقتل اللوطيين. لاساميته هي من اللاساميات الشهيرة. وهو يرفض إدارة حوار مع اليهود، خلافاً للأديان الاخيرة، «إلا بالسيف والبندقية». وبمنصبه كرئيس المجلس الاوروبي للبحوث الاسلامية والفتاوى، فإنه يسمح بالعمليات الانتحارية بصفتها أعمال شهادة مسموح بها في القرآن. اما القاصرون والقاصرات ممن يهربون اليوم من عائلاتهم كي يتطوّعوا في صفوف منظمات الارهاب في سورية، فإنهم يفعلون ذلك استناداً إلى فتاوى القرضاوي الذي يرفع مسؤولية الآباء والأمهات عن أبنائهم. وفوق كل شيء، فإنه يقف على رأس شبكة «التقوى» للمساعدات «الانسانية»، التي شكلت عملياً غطاءً لتحويل الاموال لتمويل منظمات الارهاب في أفغانستان، العراق، سورية وكذا حماس في غزّة.
لم تتردّد فرنسا في السماح للقرضاوي والدعاة والمثقفين المتطرّفين الآخرين في الظهور أمام مسلمي فرنسا، مثلاً في الحدث السنوي الكبير لانعاقد مجلس الجاليات الاسلامية. وقد ألغي هذا الاذن الرئيس ساركوزي في 2012 فقط، بعد المذبحة التي ارتكبها محمد مراح بحق أطفال المدرسة اليهودية في تولوز. وشارك زعماء مسلمون فرنسيون في «شبكة التقوى» وتمتعوا بأموال الصندوق أيضاً.
لم تخفِ قطر رغبتها في الحلول محل السعودية كممولة الاسلام في فرنسا. حتّى التسعينات كان السعوديون هم المستثمرون الاساسيون في بناء المساجد، بما في ذلك المسجد الكبير في باريس، وتمويل المؤسسات الجماهيرية. وكانت فرنسا ومعها ساركوزي مستعديَنْ لمنح قطر المكانة التي ارادتها، لدرجة تسليم الامتياز لقطر لبناء مصانع وأعمال تجارية في الضواحي المتوترة قرب باريس، حيث خاض المسلمون انتفاضة وإقامة حكم ذاتي اقتصادي إسلامي هناك.
ولكن ليست فرنسا وحدها هي التي أسرها سحر قطر. «إسرائيل» هي الأخرى اجتازت شهر عسل طويلاً مع الامارة الساحرة. وعلى حدّ قول ريتينيه وبان، حتّى على حساب حلفاء تقليديين في العالم العربي. وهما يقتبسان على لسان الامير حمد بن خليفة، ومرّة أخرى على مسمع المحادث اللبناني، بأنّ «ذات يوم جاء الإسرائيليون إلى هنا وأسمعوني شريطاً سُجّل في فندق في جنيف. سمعنا فيه قادة الاجهزة المصرية والسعودية يتآمرون ضدي. وأنا يحميني اللوبي الأميركي ـ الإسرائيلي».
اليوم، وبحسب كل المؤشرات، تحسّنت العلاقات مع السعودية مرّة أخرى. فقد رفضت «إسرائيل» رفضاً باتاً اقتراح الوساطة القطرية لوقف النار في غزّة، والتي نقلت، بالمناسبة، من خلال فرنسا، وفضلت المبادرة المصرية، ووجدت قطر بالمناسبة صعوبة بشكل عام في توفير البضاعة لدى حماس. هكذا كان في محاولات تحرير جلعاد شاليط، على رغم وعودها للرئيس ساركوزي. أما الوساطتان اللتان نجحتا، فكانتا في نهاية المطاف الالمانية والمصرية. ومع ذلك، أكثرت قطر من اللعب بورقة وجود علاقات طيّبة مع كل اللاعبين وعرضت نفسها بأنها «صاحبة المفتاح» لحلّ المشاكل.
اكتشفت الأجهزة الأمنية الأميركية أنّ رجال «القاعدة» الكبار أقاموا في قطر، ولكن ساركوزي وأجهزته فضلوا جعل قطر محوراً مركزياً في العلاقات مع العالم العربي. هكذا استأنف وفقاً لمشورة قطر بشكل دراماتيكي العلاقات مع سورية، التي قطعها عملياً سلفه شيراك بعد قتل صديقه، رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. فقد غضب شيراك، ولكن الرئيس السوري بشار الاسد دعا إلى قمة «اتحاد البحر المتوسط»، التي عقدها ساركوزي في باريس في تموز 2008، إلى جانب رئيس الوزراء في حينه أيهود أولمرت. أما اليوم، فإن ساركوزي هو مؤيد كبير للتدخل العسكري في سورية ضدّ الأسد.
في فرنسا نفسها، تبدي قطر شهية بلا جماح في مجال العقارات. فقد سنّ الحكم الفرنسي تشريعاً خاصاً ضدّ الضريبة المزدوجة. ويمكن للقطريين أن يدفعوا الضريبة في بلادهم حيث لا توجد ضريبة قيمة مضافة. وتسقط الفنادق الكبرى في باريس وفي كان وفي الريفييرا الفرنسية، ومبان تاريخية بقيمة نحو 5 مليار يورو الواحد تلو الاخر في يد المال القطري. أحد المباني الأكثر رمزية في باريس ـ «فندق لامبرت» التاريخي في إيل سان لوي ـ بيع مقابل 80 مليون يورو لعبد الله آل ثاني، أحد أشقاء الامير، من أحد الأشخاص ليس سوى البارون غي دي روتشيلد. ويدور الحديث عن موقع تاريخي محميّ، ولكن الرئيس القطري أضاف له بحرّية مصاعد وموقف سيارات. صفقة رمزية اكثر بكثير هي مركز المؤتمرات السابق لوزارة الخارجية الفرنسية، على مسافة غير بعيدة من بوابة النصر، والذي تحوّل إلى الفندق الأغلى في باريس بملكية قطرية، بالطبع.
بعد العقارات يأتي دور الصناعة. فقذ اشترت قطر نسباً كبيرة من شركات تمثيلية واستراتيجية فرنسية مثل «فولييه» و«توتال» و«فيوندي» في مجال الطاقة. وبحسب الامثلة في الكتاب، لقطر تأثير حاسم على أعمال هذه الشركات التي تشكل ذراعاً مركزيةً للاستراتيجية والأمن القومي.
كما افتتحت قطر قناة رياضية تلفزيونية «بي إن سبورت» التي تصفّي ببطء ولكن بثبات المنافسة المحلية «كانال بلاس». وأخيراً تسلّلت قطر أيضاً إلى الرياضة نفسها، مع شراء فريق «باريس سان جيرمان» في 2011 مقابل 70 مليون يورو.
محادث خليفة ساركوزي، فرانسوا هولاند، هو الامير الجديد تميم بن حمد آل ثاني الذي يوجد بقدر كبير في فترة ترويج في الساحة الدولية انجازه الاساس قبل أن يرث العرش كان شراء باريس سان جيرمان . كما اضطر أيضاً إلى مواجهة الاتهامات بالعلاقات الوثيقة جداً مع الارهاب الاسلامي التي كانت جزءاً من استراتيجية أبيه.
هولاند نفسه حذّر قطر من أن يسقط «النشاط الانساني» في سورية وفي مالي «في أيدي الاسلاميين». ولكنه يجد صعوبة، ولا يجتهد دوماً، للنجاة من التأثير القطري. إحدى المشاكل العاجلة كانت خطة السيطرة من قطر على الضواحي الحساسة في باريس. واتفق بداية على استثمار قطري في صندوق بمبلغ 500 مليون يورو. ولكن بعد الاحتجاج اتفق على شراكة بمبلغ 200 مليون يورو من كل جانب. وفي هذه الاثناء لم يتحرك شيء، ولكن الضواحي الاسلامية لباريس لا تزال في فرنسا. وفي الطرفين هناك من يأسف على ذلك.