السوسيولوجي في المدوّنات الأدبية… نضال الصالح وغارسيا ماركيز وكازانتزاكيس

محمود موالدي

صدر كتاب «قدّك الميّاس» منذ فترة قريبة كجزء من سلسلة كتب للكاتب الدكتور نضال الصالح. وما كدت أُنهي دراسته حتى صدر جزء آخر جديد مما وصفه البعض بأنه سلسلة مدوّنات تقوم على نصوص أدبية عابرة للأجناس ترصد ما عاشته سورية في هذه المرحلة الحرجة. ولما كانت المقاربة والمقارنة والتفاضل هي بعض من آليات عمل العقل، وجدت أنه من المجدي تطبيقها على مدوّنات الدكتور نضال وما يقابلها من الآداب العالمية.

تكون النصوص الأدبية عادة عصيّة على التجنيس لأن عناصرها وفنّياتها زاخرة أكثر من أن يحتويها جنس أدبيّ واحد. أما ما لمسته في كتاب «قدّك الميّاس»، فيمكن تلخيصه بالمحاور التالية:

التفريط

خطّ الدكتور نضال الصالح مُؤلّفه الأدبيّ «قدّك الميّاس» بلغة عربية ناصعة لا تقلّ عمّا خطّه الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي والدكتور الأديب يوسف زيدان أو سواهما ممّن امتازوا بإظهار حُسن لغتنا العربية ومقدرتها التعبيرية المميّزة. حيث يصدح هذا المؤلَّف الأدبيّ برصيد لغويّ يدلّ على سبر أغوار اللغة العربية وفهم فقه اللغة وإتقانه إن صحّ التعبير. وسأكتفي بمثال واحد في هذه العجالة، قوله: «صار البيت حجارة يرهق بعضها بعضاً». ولكن بالنظر إلى الجوانب الفنية الأخرى فنصوص هذا الكتاب لا تجنّس إذ إنّها لا تمتلك الخصائص الفنية لجنس أدبيّ بعينه، وهذا من المستغرب لكونه في باب التفريط، لماذا يفرط كاتب ما بالفنيات التي تؤهّل للتجنيس الأدبي مع العلم أن هذه الفنّيات وتلك الأجناس هي وليدة حالة تراكمية أثبتت جدواها في التأثير في المتلقي وجذبه؟

الأساليب اللغوية لا تغني عن عناصر الجنس الأدبي

لا تغني معارفنا في تطويع اللغة والسبك والنسج الجزل البديع عن تجنيس النصّ بمعنى اللجوء إلى خصائص جنس أدبيّ بعينه. فإذا أعدنا كتابة نصوص هذا الكتاب بلغة عربية سلسة كالتي يكتب بها نجيب محفوظ على سبيل المثال، فستفقد هذه النصوص قيمتها تماماً. ومن العجيب بناء نصوص أدبية بالكامل على البيان اللغويّ الناصع. فالحبكة غير موجودة، والحدث غير موجود في النصوص بمعناه العميق وحضوره الحارّ، بل تأتي فجأة عبارات مثل «ومات فلان بقذيفة طيّرت جسده» كما في الصفحة 32 مع اللعب على البيان اللغوي وبديع اللغة العربية من استعارة وكناية وتشبيه إلى آخره، إضافة إلى الانزياحات وسواها. فلا صراع بين الشخصيات الإرادات ولا صراع داخلياً في العوالم الداخلية النفسية للشخصية الواحدة. وبالتالي لا رحلة سيكولوجية في دواخل الشخصيات، بل هناك كمّ هائل من الشخصيات التي لا تتكشف سماتها النفسية من خلال أحداث ومواقف كما هو حال أمهات الآداب العالمية بعد نهضة الآداب قبيل عصر التنوير وخلاله وفي ما بعده. بل قد نهج الكاتب نهج قصص وروايات عصر الرومنسية حيث كان أفق التفكير ضيّقاً ومقنّناً في نطاق فكر وتصوّرات بدائية غير موضوعية في معظم الأحيان. بمعنى يقوم على ثنائيات كالخير والشرّ والحقّ والباطل، وحيث كان الروائيّ يلقي بكلّ صفات شخصيات نصوصه دفعة واحدة مصادراً على القارئ رحلة اكتشافها. بمعنى أنّ القارئ يستطيع من العبارات الأولى التي يدلي بها الكاتب عن شخصياته، معرفة كيف ستتصرّف تلك الشخصيات، ما يودي بعنصر التشويق ويجعل النصوص باردة على دفء اللغة العربية التي سطّرت عبرها تلك الأوصاف. وقد جسّدت كلّ الشخصيات باختلاف أعمارها وأشكال أجسادها ومهنها كون الكاتب لم يركّز سوى على هذه الأمور. جسّدت كلّ هذه الشخصيات المآثر العربية من تضحية ووفاء وإباء وإيثار… إلخ، ما يكشف أن لدى الكاتب قيماً سامية يريد إيصالها، فخلق شخصيات خيّرة ليُعبّر عنها كما كان يحدث في عصر الرومنسيات. أو لعلّها شخصيات حقيقية لكن الكاتب أغفل كافة جوانبها الإنسانية باستثناء تلك الجمالية من نضارة الشباب وشغفهم بالحياة وتمسكهم بالوفاء والتضحية والاخلاص. كما كان كاتب القبيلة يظهر أهل قبيلته على أنهم خيرة الناس في العصور الغابرة. ولكن في أيامنا هذه فالكتّاب عادة يكتبون من الواقع ويضفون شيئاً من الخيال الهادف لخلق واقع بشريّ أفضل، ولا يجنحون إلى المثال الأفلاطوني. فنحن لم نقرأ منذ عقود لكبار الأدباء حول العالم من أمثال نيكوس كازانتزاكيس أو غابرييل غارسيا ماركيز، أو أيّ من أولائك الذين قدّموا للبشرية صورة بانورامية عمّا يجري في شوارع بلادهم وما يعتمل في سيكولوجيا شعوبهم. بينما تمسّك نضال الصالح بالنظرة المثالية الرومنسية، وحين ذكر تورط سوريين صفحة 80 جعل ذلك مسبوقاً بعبارة «يُقال إنّهم»، بمعنى أنه يشتبه بكونهم سوريين، وليس هناك سوريين حملوا السلاح حقيقة خارج نطاق الدولة في سورية!

ونلمس في السلسلة التي ينتمي إليها كتاب «قدّك الميّاس» ما كنّا نلمسه في عددٍ من مؤلّفات «ألف ليلة وليلة» من رحلة جغرافية لا طائل منها. بمعنى تصوير ما هو خارج عن النفس البشرية خارج عن علاقاتها المركّبة مع الوجود و الآخر.

الراوي

كان الراوي محوراً رئيساً وهو الكاتب نضال الصالح نفسه، وقد تحدّث عن نفسه في الكتاب حديثاً لا ينبي بكيفية تكوّن شخصيته، ولا ينبي بتشكّل جوانياته وقناعاته وتبلورها، بل كان يخبرنا بأمور من المتوقع أن يعيشها أيّ شاب أو رجل مثقّف في مدينته، وبِسيَرٍ وأحاديث أشبه بـ«فلاشات» سريعة لم تلتقط شيئاً فريداً أو عميقاً، وكأنّنا بالكاتب يزركش لغوياً ويدوّن أيّ أمرٍ يخطر على باله من ذكريات و كأنه يدوّن تداعياً حرّاً لذكرياته، فيما يعزّز حالة طوباوية يريد أن يروّج لها حول مدينة حلب.

وبالنسبة إلى الحوار بين الشخصيات، فلا قيمة كشفية عن تميّز الإنسان السوري فيه. بل جاء جلّه على هيئة غزل ووعود مراهقين أصحاب نظرة سطيحة مثالية. بينما الحوار في الأدب الحديث يتعدّى هذا إلى حوار له عمقه السيكولوجي في بنية سيكولوجية فردية وجمعية متحرّكة بفعل زخم الأحداث وفق المرحلة التي ترصدها المدوّنة الأدبية، وماذا وكيف أعَمَلت الشخصية في نفسها وفكرها وفي الآخر عبر منعكسات الحدث والسلوك الصادر عنها، والتي تتلقاها من محيطها الاجتماعي.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى