الشاعر داود مهنّا: العمل الأدبيّ يحتاج إلى جماليّة التعبير ممزوجة بالإحساس النابض والخيال الأخّاذ والفكرة البكر
حاورته: رنا صادق
يقال إنّ الشعر يداوي الروح والحال، يسقي ثمار الذات ويناجيها، يغوص في سر الإنسان والإنسانية، يبحث عن الكمال والملاءمة، يضيع في حقل صاحبه، يخدم قلمه وينقل أحزانه وأوجاعه، ضحكاته وفرحه… هو الشعر الذي لا يخون ولا يُخان. من اعتمده ما ادّعى العزّة والعنفوان بل كان للتواضع عنواناً، كالشاعر والكاتب داود مهنا.
اتزّان وتواضع يظهران في تفاصيل كتاباته، رشاقة وحيوية تتجلّيان في شخصيته، يتمازج السرور والإيمان والاكتفاء في سطوره، وتعجب النفس بما يقول أو يفعل.
ما زال مهنّا يجد نفسه قاصراً عن التعريف عن نفسه كشاعر أو كاتب. ولكن إذا كان لا بدّ من التعريف عن الهويّة، فهو بعيد عن الادّعاءات الرنّانة الفارغة. ثابت ومستقلّ بفكره، يعيش اللحظة ويعطيها المعنى. هو شاعر نثريّ يتبع المدرستين الرمزية والرومنسية.
من مواليد قرية جبال البطم قضاء صور، ترعرع في تلك القرية، وتعلّم دروسه الأولى فيها، ثم انتقل إلى مدينة صور ليتعلّم في ثانويّتها. بعدها تخرّج في الجامعة اللبنانيّة، حاملاً إجازة في اللغة العربيّة وآدابها، ثم ماجستير في اللغة العربيّة وآدابها، وهو الآن بصدد إنهاء أطروحة الدكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة.
إلى جانب الكتابة والشعر، مهنّا يربي أجيالاً، فهو أستاذ تعليم ثانوي في ملاك وزارة التربية، كما درّس اللغة العربية في بعض الجامعات، وعمل في تأليف المناهج خارج لبنان، وإلى الآن صدرت له مجموعتان شعريّتان هما: «كما يَكتُب الغيم» و«جبل الحنين»، ومجموعتان نثريّتان هما «صُوَر من ضياء» و«رسائل ملوّنة».
الشعر هو من أكثر الفنون التصاقاً بالذات الإنسانيّة، وبالحياة بشكل عام. وطالما أنّ هناك حياة، فهناك حبّ وموت وثورة وسلام وحروب… وكلّ عنصر من تلك العناصر يشكّل مادّة شعريّة تعبّر عن الإنسان. فالشعر قادر على أن يمثّل الذات الإنسانيّة، إنّما بنسب متفاوتة تختلف باختلاف طريقة حضور الشاعر، والثقافة وتنوعها، والنظرة إلى الأشياء والأمور وطريقة فلسفتها، والثقافة والفكر والموقف بالنسبة إلى مهنّا.
ويرى أنّ الشاعر يجب أن يكون ملتصقاً بالذات الإنسانيّة لأنّه سيعبّر عنها ويكون ناطقاً بِاسمها، وإلّا أصبح مغنّياً خارج السرب.
طالما أنّ هناك معاناة على هذه الأرض، فإنّ الشعر سيبقى سجلّاً يحفل بتلك المشاعر المتنوّعة. والأمثلة كثيرة، وثمة عدد كبير من الشعراء الذين تمثلت هذه العناصر في قصائدهم أفضل تمثيل.
بالنسبة إلى بدايات مهنّا، كانت مبكرة جداً، إذ بدأ مشواره الشعري عندما كان طفلاً عابثاً بما حوله من جماليّات الطبيعة القرويّة. لقد تسنّى له العيش في ريف جنوبيّ ما زال محافظاً على طبيعته القرويّة البريئة. تلك الطبيعة جعلته يتعرّف إلى الأشياء عن قرب، فيحاورها ويستنطقها ويسبر أغوارها. ولعلّ تلك المرحلة من الطفولة هي التي شكّلت لديه المادة الأوّلية للكتابة.
الكتابة بالنسبة إلى مهنا عمل إنساني فكري، فحينما يكتب، يفكّر بالإنسان عموماً، ويحاول التعبير عن رؤيته للإنسان والطبيعة عبر الكتابة الشعريّة والكتابة النثريّة. لذا، الإنسان باختصار هو مشروعه الشعريّ وفحوى نصوص قصائده.
ويقول مهنّا في هذا الصدد: مؤخّراً ذهبت بعيداً في ذلك، إذ بدأت بالكتابة التأمّلية التي تبحث في سرّ الوجود، لأدخل إلى عمق عالم الإنسان محاولاً تفسيره عبر الكلمة.
«رسائل ملوّنة» و«صوَر من ضياء» هي كتابات وجدانيّة. وهذان الكتابان يحتويان على كتابات وجدانيّة بامتياز. ويقول: فيهما وجدت ذاتي، إذ صغت تجربتي الأولى التي اكتسبتها من خلال مشاهداتي الطبيعية فيهما، وهما يحكيان عن علاقاتي الفريدة بكل عنصر من عناصر الطبيعة، لذا، فهذان الكتابان لهما وقع خاص في ذاتي، وهما طفلاي المدلّلان. وقد وُضِعَت نصوص منهما في بعض كتب المناهج التعليمية في لبنان وخارجه، كما أنهما يُستخدمان ككتابين مساعدين للطلاب في المرحلتين المتوسطة والثانوية في لبنان ومعظم الدول العربية.
ديوان «كما يكتب الغيم» هو باكورة أعمال مهنّا الشعرية، إذ نشر فيه قصائده الأولى. وعمد إلى اختيار هذا العنوان لأنه يحمل خفّة وطراوة ونداوة وعذوبة، كالصوَر الشعرية الموجودة في الديوان، وهذا العنوان هو عنوان قصيدة نشرت في الديوان، من باب تسمية الكلّ بِاسم الجزء.
أما ديوان «جبل الحنين» فهو الثاني، وما يميّزه عن الأول أنه يعكس بعض النضوج في تجربة مهنّا الشعرية، إضافةً إلى أنّه يكمّل الديوان الأول. وفيه تحديد أدقّ لمساره الشعري الذي بدأ ينحو فيه باتجاه التركيز على فكرة الإنسان بشكل عام. أما عنوانه فهو يرمز إلى «جبل عامل» الذي يختزن ما يختزنه من حنين على إثر التضحيات والبطولات والانتصارات التي شهدتها سفوحه وهضابه. فجاء الديوان معبّراً عن حنين في ذاته، منعكساً على تلك الأرض التي أُشبعت حنيناً.
إنّ العمل الأدبي هو عمل فنّي متكامل، يحتاج إلى جماليّة التعبير ممزوجة بالإحساس النابض والخيال الأخّاذ والفكرة البكر. وكلّما كان إحساس الكاتب بالشيء صادقاً، جاء العمل الأدبي معبّراً عن التجربة الشعورية بشكل أدقّ وأعمق. فصدق الإحساس هو أساس في العمل الفنّي، لأن هذا الأخير هو قطعة نابضة من الفنان شاعراً أو كاتباً أو رساماً، كما يشير مهنّا في حديثه إلى «البناء».
ينتمي مهنّا إلى المدرسة الرمزيّة في الشعر، إضافةً إلى المدرسة الرومنسيّة، فالشعر هو تلميح ورمز وعاطفة، وهو يعتمد على عمق النظرة إلى ماهيّة الصورة الشعريّة ووظيفتها، كما يتّجه نحو الاعتراف بالإنسان وبعالمه الداخليّ، وهروبه من عالم الواقع إلى عالم الحلم كنوع من الرفض والتمرّد على عالم الواقع. ويعتبر مهنّا أنّه إذا جُمع بين ما قاله فرويد عن اللاشعور الفردي، وما قاله يونغ عن اللاشعور الجماعيّ، حينئذ يمكن المزج بين هاتين المدرستين للوصول إلى طريقة أداء شعريّة تعتمد الإيحاء بالأفكار والمشاعر. وفي المحصّلة، فإنّه يقف إلى جانب سبر أغوار النفس الإنسانيّة واستنطاق مكنوناتها للتعبير عنها فنّياً.
لا شاعر ناجحاً وشاعر غير ناجح بحسب مهنّا. إذ يقول: ربّما القول بقصيدة ناجحة هو الأدقّ، لأنّ الشاعر لا يكون ناجحاً في كلّ ما ينتجه، وهناك أمثلة كثيرة على كبار الشعراء المعروفين عبر العصور، كانت لهم بعض الإخفاقات في بعض القصائد. فالقصيدة هي مشروع الشاعر، وهي التي تحدّد درجة الإبداع والفن، وهذان لا يأتيان من فراغ.
لكلّ شاعر خفايا، ولكلّ شعر ألغاز، وبالنسبة إلى مهنّا فإن القارئ الجيد هو الوحيد القادر على معرفة خفايا تلك الأسرار وهو الذي يساهم في ولادة القصيدة مرّة ثانية حينما يقرأها قراءة واعية، ويكتشف أسرارها التي ربما لم يلتفت إليها الشاعر، أو غفل عنها. والقارئ هو من يحدّد مسار القصيدة، ومَواطن أسرارها، لأن القصيدة عندما تُكتب تصبح ملكاً لجمهور القراء، هذا الجمهور الذي يثق مهنّا به تمام الثقة به، ويتهيّبه دائماً، إذ يراه حاضراً معه أثناء الكتابة.
ويضيف مهنّا: عند الكتابة، أجمع كلّ ما وقع من أسراب الغيوم العابرة… وأحتفي بالرذاذ المتطاير عن شفاه الزهور، ملامساً طراوة العشب النائم باستسلام مطمئنّ… أُطلق صرخات عميقة نحو ذلك الطفل الّذي ابتعد قليلاً، لكنّه ما زال ماثلاً، فأستحضره وأهديه تلك الطرواة كلّها، ليشاركني الكتابة. فأنا لست قادراً على الانسلاخ عن ذلك الطفل الّذي ما زال يلقّنني براءته، ويذكّرني بالقبلة الأولى، وبالشعور الأوّل المرهف، وبالشبق الفائح الحائم حول سيقان الحقول… إنّه القصيدة بحدّ ذاتها.
القصيدة أو الكلمة مشروع مهنّا المستقبلي الوحيد. لديه عدد من المؤلفات الشعريّة والنثريّة المخطوطة، التي تفوق ما قد تمّ إصداره له حتى الآن. ويشير إلى أنه سيعمل على طباعتها وإصدارها. كما هناك عمل خاص، سيبصر النور قريباً، وسيعلن عنه في حينه.
وفي ما يلي، بعض من قصائد مهنّا:
وغابَ يُلاحقُ المعنى
على شرفاتِ أحرفِهِ
يُخاتِلهُ ليقطفَهُ
ويزرعهُ
ويُطْلقهُ…
ففتّشَ في أقاصي الغيمِ
بعثَرَ أحرفَ النّسماتِ
ذوّبَ قلبَهُ في الصَّخرِ
أطلقَ أغنياتِ الماءِ
لم يعثرْ على المعنى…
وَلَكِنْ،
عندما عادَ
استراحَ لهاثُهُ المُضْنى
رأى شمسَين:
شمساً ترتدي الأشياءَ فوق الأَرْضِ، تكتبها
وشمساً خلفَها تمحو كِتابتَها
ويبقى بعدَ هذا المَحْو خطٌّ عاشَ كي يفنى
فأدركَ أنَّ للمعنى
دويّاً خارجَ المعنى
شعر ونثر
غيمٌ تتناثرُ أحرفُه
مرتدياً إيقاعَ الماء المتساقط فوق سطور الأرضْ
فالغيمةُ نثرٌ
يعبثُ بالرؤيا المسكونة في بال الأشياءِ
يُخاتل أنفاساً لم تولدْ
يرسم ذاكرةً…
تنتبهُ العشبةُ
تعلن ثورتها
تعلو لتحدّق في اللاشيء
وفي شَيْءٍ هو في الأشياء الوجهُ المُلقى تحت قناع الساحرِ
أو هوَ وجه نبيٍّ ما أنبأهُ الوحيْ…
فالعشبةُ شِعْر
سؤال
تمشينَ فوق الشاطئ الرمليِّ
تتبعُكِ الرمال
تمشينَ
هيَّأ كل شيء نفسه
والبحر همَّ بالارتحال
يعلو على شفة الغمام تنهُّدٌ
إذ تنقلين الخَطو
غنّاه الدلال
تمشين…
تبقى وردةٌ حَيرى
يغار عبيرُها
تذوي
ويقتلُها السؤال!