ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

سعاده والحزب. . . من التأسيس حتّى مغادرة الوطن عام 1938

هذا المقال يشكّل القسم الثاني من سيرة الزعيم أنطون سعاده والحزب. القسم الأوّل يغطّي مرحلة طفولة سعاده حتى قُبيل تأسيسه حزبه، داعين من يرغب، الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www. ssnp. info.

إذ نعرض للقسم الثاني استناداً إلى ما توفر في أدبيات الحزب، نشير إلى أننا نقدم عرضاً موجزاً لا تأريخاً كاملاً، آملين من الرفقاء والأصدقاء أن يقدموا ما لديهم من ملاحظات واقتراحات.

العودة

– عاد سعاده إلى الوطن في تموز 1930 فوجد أن الحالة فيه لم تكن أفضل مما عاناه مع المهاجرين في البرازيل، «فجميع أراخنة السياسة والاجتماع كانوا مجتمعين على أنه لا فائدة من فعل شيء وأنه لا تقوم للأمة السورية قائمة في ذلك الوقت».

كانت تميّزت هذه الفترة بسيطرة جيش الانتداب الفرنسي في لبنان والشام، واستخباراته منتشرة في كل مكان. كما أن القانون الصادر عن الفرنسيين 115-LR كان يحظر أي نشاط حزبي أو سياسي 1

– في هذا الجو قرر سعاده أن يبدأ العمل في دمشق، ذلك أنها كانت تستقطب العمل السياسي، وقد وصفها سعاده « أنها كعبة الحركة الوطنية السورية « مقالته سورية تجاه بلفور .

إلا أن تجربته مع رجال الكتلة الوطنية، وكان سعاده قد انتقل من التدريس في «الجامعة العلمية» إلى جريدة «اليوم» التي كانت تصدرها الكتلة الوطنية، تجربته هذه أعطته صورة واضحة عن «صبيان السياسة» في بلادنا كما يصفهم سعاده في مقالات نشرها في جريدة «النهضة» في بيروت، وفي إحداها يقول: « لقد تغنى الكتلويون كثيراً بجهادهم، والحقيقة أنهم لم يكونوا غير مستغلين لجهاد الأمة ومحولينه إلى النتائج التي أرادوها لأنفسهم «.

بعد أن أمضى سعاده سنة كاملة في دمشق كانت كافية كي يكتشف أن الأرض فيها لم تكن صالحة للزرع، قرر العودة إلى بيروت بعد أن كان أنشأ بعض الصداقات والعلاقات مع مواطنين. جميعهم انتموا إلى الحزب فيما بعد باستثناء عادل الصلح. وهم: يعقوب جبور، أديب بربر، معروف صعب، محمد روح غندور، محمد روحي خياط، ورياض حماده.

في لبنان

الاتصالات الأولى أقامها سعاده في كل من ضهور الشوير، وفي المثلث الثقافي المؤلف من بلدات برمانا – رومية – بيت مري ومن هذا المثلث انتمى رفقاء في بدايات سنوات التأسيس، والبعض منهم كان له شأنه في النضال القومي الاجتماعي. تلك الاتصالات ساهمت في تأسيس الحزب، إلا أن النواة الأولى للتأسيس أوجدها سعاده في الجامعة الأميركية في بيروت التي كان انتقل إليها مدرساً اللغة الألمانية للراغبين من الطلبة.

النواة الأولى تألفت من خمسة رفقاء: أربعة منهم كانوا طلبة في الجامعة الأميركية جورج عبد المسيح، جميل عبدو صوايا، زهاء الدين حمود ووديع تلحوق أما الخامس: فؤاد حداد فهو ابن جريس حداد صاحب المطعم تجاه الجامعة الأميركية الذي كان يرتاده سعاده. وبعد أن تعرف إلى فؤاد انتقل إلى منزل العائلة في شارع «جان دارك» إذ كانت تؤجر غرفاً فيه للطلبة.

المعروف أنه تبين بسرعة زيف اثنين من الخمسة وديع تلحوق وزهاء الدين حمود عنهما يقول سعاده: «تظاهرت بأني اقتنعت بصحة قبولهما في حين أن شكوكاً كثيرة خامرتني في صددهما، ولكني رأيت أن أستعين بهذا العدد غير المتجانس على القيام بالاختبار الأول لتأسيس الحزب» من خطاب أول آذار 1938 .

ولأنه لم يكن قد وضع دستوراً للحزب فقد رأى سعاده أن يكون الطرد بصورة حل للحزب، فدعا الأعضاء الخمسة إلى اجتماع وأبدى لهم رغبته في تأجيل العمل الحزبي «إلى أن أكون قد وجدت استعداداً وتفاهماً تأمين بين الذين يرغبون في السير معي. وإن عملنا قد انتهى وإن كل واحد حر» خطاب أول آذار 1938 .

ما يجدر ذكره أن الصعوبات التي رافقت تأسيس الحزب كانت جديرة بأن تثني سعاده عن الاستمرار والعودة مجدداً إلى البرازيل، كما رغب إليه الرفيق جورج عبد المسيح عندما تعرّف على أفكار سعاده: «خير لك، يا أستاذ، أن تعود إلى مهجرك، أنت مغشوش بهذا الشعب فالفساد قد غيّر قلبه، ولا يمكن أن تجد خمسة يمكن أن يجرأوا على عمل كهذا في ظل الانتداب».

بدوره الدكتور أنيس فريحة، وكان سعاده قد كاشفه برغبته في تأسيس حزب يكفل للأمة وحدتها ورقيها، يجيبه:

« اسمك أنطون وتأمل أن يكون وراءك قاسم وعلي وعبد الساتر؟ بدعسك على رقبتي إن نجحت في مسعاك».

في رسالته الخامسة إلى غسان تويني في 9 تموز 1946 يتحدث سعاده عن ضعف النبتة الحزبية سنة 1933 ويشير: «إلى أن الرفقاء الأول للزعيم ومعاونيه متفاوتون في المعرفة والإدراك والمؤهلات، فبعضهم تفوتهم تفاصيل هامة لا يدركون قيمتها التاريخية، وبعضهم يميلون إلى الناحية الشعرية من الأمور، وبعضهم لم يتسن لهم عرفان أمور سابقة لعهد دخولهم وغير ذلك».

مع ذلك فالخمسة الذين تحولوا إلى ثلاثة، أصبحوا 15، فثلاثين في حزيران 1934، فستين ونيف مع آخر العام، حتى إذا عقد اجتماع الأول من حزيران 1935 وفيه تلا سعاده خطابه المنهاجي الأول كان عدد أعضاء الحزب يتجاوز الثلاثمئة.

في فترات السنوات الثلاث من العمل السري ورغم الواقع الذي كانت تفرضه سلطات الانتداب الفرنسي، تمكن الحزب من الانتشار في لبنان والشام وأجزاء من فلسطين، ونظم فروعه في منفذيات، ووضع دستوره فضلاً عن مبادئه، وقام سعاده بزيارات حزبية إلى مناطق طرابلس، الكورة، جزين، برمانا، بيت مري، جل الديب والشوف. وفي تلك الفترة أيضاً عين سعاده عمداً وشكل منهم مجلس عمد، اختار شكلاً لشعار الحزب من بين أكثر من اقتراح تقدم به رفقاء مهندسون، أصدر أربعة أعداد من مجلة «المجلة» تلك التي كان أصدرها والده في الأرجنتين، ثم في البرازيل ودعا الأعضاء إلى اجتماع حزبي عام في دارة نعمة ثابت وفيه تلا عميد الدعاية والنشر الأمين عبد الله قبرصي تقريراً عن أعمال العمدات وألقى سعاده الخطاب التاريخي الذي يعتبر من وثائق الحزب الهامة والأساسية، أول حزيران 1935 .

بدوره أنشأ عميد الدعاية تسمية عميد الإذاعة في تلك الآونة أول لجنة إذاعية مركزية.

تمّ أيضاً اعتماد بطاقة عضوية، وأخرى مالية بحيث يتسلم العضو عند انتمائه وثيقة العضوية عليها رسمه، توقيعه، وبصمة الإبهام بالإضافة إلى معلومات أساسية عنه وبطاقته المالية التي تنظم تسديده لاشتراكاته الشهرية.

على صعيد وضع الدستور نبرز النقاط التالية:

القسم الذي كان يؤديه الرفقاء الأوائل لم يكن في نصه أية إشارة إلى القوانين أو الأنظمة ولا إلى صفة القيادة وصلاحياتها.

كل من الأعضاء الأوائل يقول الأمين جبران جريج أن عددهم 12، إنما في الشروحات التي ترد في الجزء الأول من «من الجعبة» يتبين أن العدد 15 كان يحمل لقب مؤسس وتشكل منهم مجلس سمي «مجلس المؤسسين».

كان الأعضاء الأوائل يتوجهون إلى سعاده تارة بـ «الأستاذ» وطوراً بـ «الرئيس» وأحياناً بـ»الزعيم» إلى أن تمّ الاتفاق على اصطلاح تسمية «القائد العام».

وضع «القائد العام» التشريع الأساسي للحزب مواد متلاحقة بلغ عددها أربعين أو خمسين مادة إن لم يكن أكثر كما يقول الأمين جبران جريج . وفي الثلث الأول من العام 1934 دعا «القائد العام» مجلس المؤسسين إلى اجتماع يعقد للتداول بمسودة «التشريع الأساسي» التي وضعها.

عقد مجلس المؤسسين جلسات عديدة لمناقشة المواد، واحدة واحدة، وإقرارها. بعد مشادات وخلافات في وجهات النظر، وكان سعاده لا يتدخل في النقاش إلا قليلاً، لإيضاح إبهام أو شرح إحدى النقاط، توصل «مجلس المؤسسين» إلى حسم موضوع الصلاحيات المطلقة للقائد العام، واعتماد تسمية «الزعيم» وتمت إضافة النصوص التي تشير إلى القوانين والأنظمة في القسم الحزبي.

الأمين عبد الله قبرصي لا يتحدث عن ذلك في مذكراته إنما يفيد أنه بعد انتمائه وتعيينه عميداً للدعاية والنشر: « كان علينا في بادئ عهدنا بالنشاط أن نضع دستوراً للحزب شاملاً لأن دستورنا كان نواة لا بناءً شاملاً، وقد كلفت بوضع مشروع للدستور وبالفعل وضعته، وتبنى سعاده اكثر ما ورد فيه». ويضيف: «وما إن أطل علينا الدكتور جورج حكيم حتى كلف بوضع النظام المالي وهو جزء هام من دستورنا. ولا يزال نظامنا المالي الحالي هو نفسه الذي وضعه الدكتور حكيم وناقشناه في مجلس العمد وأصدره سعاده بمرسوم تشريعي».

ويضيف أيضاً:

« أما المشروع الذي قدمته فظل عرضة للتعديل حتى أبرم في 21/11/1934 ثم صنف في 20 كانون الثاني 1937. وقد عيدنا أول مرة في سجن الرمل عيد دستورنا في 21/11/1935. من الجعبة الجزء الثاني ص 275/276 .

برأينا أن الأمرين تلازما إلى أن وضع دستور للحزب. خصوصاً أن الأمين جبران يستند في شرحه عن مجلس المؤسسين إلى إفادات رفقاء عايشوا تلك المرحلة: جورج عبد المسيح، فؤاد حداد، فكتور أسعد، جميل عبده صوايا، ورفيق مروش.

الاعتقالات الثلاثة التي تعرض لها سعاده

تلك كانت البدايات. أما أهم مفاصل تاريخ الحزب حتى سفر سعاده إلى المغتربات عام 1938 فنوردها في السياق التالي:

ـ الاعتقال الأول: تمّ إثر انكشاف أمر الحزب في 16/11/1935، وقد شكل بداية التحدي بين الحزب والانتداب الفرنسي. وإذا كان الفرنسيون رغبوا أن يحاكموا سعاده على أمل أن يجهضوا تصميمه على بناء حزب النهضة، إلا أن سعاده حوّل محاكمته إلى منبر يطرح فيه أفكار الحزب، وإلى محكمة يدين فيها الارادات الأجنبية التي تريد العبث بمصير الأمة:

« إني متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض. فأراني مضطراً للقول أن خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تمّا بالفعل في «سان ريمو» و«سيفر» و»لوزان» والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي».

الرفيق فكتور أسعد وكان بين الذين اعتقلوا إثر انكشاف أمر الحزب يقول: « ما أشد ما كان اعتزازنا نحن في تلك اللحظة وما أعظمه في وقفة العز تلك. كنا نكاد نرقص في قفص الاتهام إعجاباً وتحية واعتزازاً. يقال أن سعاده ترك لحزبه قضية ونظاماً. لقد ترك سعاده للأمة كلها تاريخاً مجيداً حافلاً بمواقف العز «.

وعن ذلك يقول الأمين الياس جرجي في إحدى مقالاته: «بزغ فجر النهضة في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1935 بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها السري فتلقى الناس عموماً النبأ المفاجئ بمشاعر ومواقف متقاربة ومتناقضة وراحوا جميعاً يتسقطون أخبار التحقيق والمحاكمة أمام القضاء الأجنبي الفرنسي، وخصوصاً ما تكشفت عنه شخصية الزعيم العبقري ودفاعه، من جرأة وصلابة وشجاعة لم يعهد مثيلها الانتداب طيلة وجوده «.

أما على صعيد الحزب فيقول سعاده في رسالته الرابعة إلى غسان تويني بتاريخ 26 أيار 1946: « لم يكن بين أيدي القوميين الاجتماعيين غير المبادئ والدستور الأول، خطاب الزعيم في أول حزيران 1935 ونص كتاب خصوصي موجه مني إلى سائل عن رأيي في العالم العربي. دافع الأعضاء بهذه الوسائل وما اكتسبوه من المحادثات مع الزعيم وما نقل عنه، وبديهي أن هذه الوسائل كانت ناقصة ولا تفي بحاجة عقيدة خطيرة كعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي ولكن الدعوة القضائية والمحاكمة في المحكمة المختلطة أنقذتا الموقف وأحدث دفاع الزعيم في المحكمة ذلك التيار من القوة المعنوية الذي رفع منزلة الحزب في أعين الشعب وأعين الفرنسيين.

في فترة اعتقال سعاده شارك الحزب عبر نائب الزعيم صلاح لبكي، وكل من نعمة ثابت ومأمون أياس في مؤتمر الساحل الثاني، الذي جرى بتاريخ 10 آذار 1936 في منزل السيد سليم علي سلام في بيروت. من الذين حضروا المحامي فوزي بردويل الذي تأثر بموقف الحزب وانتمى إليه تولى مسؤولية محافظة البقاع لاحقاً .

ومن المعروف أن مؤتمر الساحل نادى بالوحدة السورية وكان له موقف واضح تجاه الانتداب الفرنسي وتجاه وحدة الأراضي السورية.

فيما سعاده في السجن، أصدرت الحكومة اللبنانية المؤتمرة بأوامر السلطات الفرنسية قرارها بحل الجمعية المسماة الحزب القومي السوري المرسوم الجمهوري رقم E-218 تاريخ 17 آذار 1936 . رغم ذلك كانت القيادة الحزبية خارج الأسر، ومعها العديد من الرفقاء، تستقبل سعاده عند خروجه من سجن الرمل وتواكبه إلى المنزل الذي استؤجر له مقابل الجامعة الأميركية. أما قوميو بيروت فقد أشعلوا سماء العاصمة مساء بإطلاق صواريخ الابتهاج والأسهم النارية.

في منزل سعاده، وبعد أن قدم نائب الزعيم صلاح لبكي المسؤولين فرداً فرداً مع تسمية المناطق، وفي أول تصريح له، قال سعاده: «علمت وأنا في السجن أن الحكومة اللبنانية حلت الجمعية المسماة الحزب القومي السوري، أما أنا فأقول أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع حل الحزب السوري القومي لأن الحزب السوري القومي أكبر من الحكومة اللبنانية، ولأن الحزب السوري القومي يمثل عقيدة تجري في العروق مع الدم فلا يحل بقرار».

ـ الاعتقال الثاني: بعد خروج سعاده من أسره الأول في أواسط أيار 1936 تعرّض في أواخر حزيران 1936 لاعتقال ثان.

في الفترة الفاصلة بين الاعتقالين، الأول والثاني، جرت الأحداث التالية:

إصدار سعاده في 15 حزيران لبلاغ عالج فيه الوضع السياسي الشامل لسورية كلها، عرف بالبلاغ الأزرق.

قيام الرفقاء بتأديب الصحافي عارف الغريب بعد تناوله الحزب والزعيم بالكلمات البذيئة.

اجتماع سعاده مع رئيس الغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية العليا السيد كيفر Keifer، رافقه فيها الأمين عبد الله قبرصي. في المقابلة التاريخية تمنى كيفر أن ينهج الحزب سبل التبشير كإصدار مجلات فكرية في القدس ودمشق وبيروت وتأليف كتب، وأن يتخلى عن كونه حزباً شبه عسكري، إلا أن جواب سعاده الصريح الواضح هو أنه يريد لأفكاره التحقيق العملي الفعلي في الشعب، ولا يريدها كتباً توضع على رفوف المكتبات.

يقول سعاده في رسالته من الأرجنتين إلى القوميين الاجتماعيين المنشورة في الجزء السادس من الآثار الكاملة ص63 ما يلي: « كانت المقابلة ودية أظهرت فيها كل التساهل الذي تسمح به قضيتنا القومية، وأفهمت السيد كيفر أن مصالح سورية وفرنسا المتبادلة توجب على المفوضين الفرنسيين الاعتراف بحركتنا والتفاهم معنا. ولكن رئيس الغرفة الفرنسية كان يطمع، على ما يظهر، بالحصول على أكثر من هذه النتيجة مني».

إصدار مرسوم الطوارئ في 20/6/1936 الذي ينظم الإجراءات التي يجب اعتمادها في حال اعتقال الزعيم وهيئة الإدارة العليا. هذا المرسوم عثرت عليه السلطات مع الرفيق فؤاد شاوي. لذا تعدى التحقيق مع سعاده حين اعتقاله مسألة تأديب الصحافي عارف الغريب، إلى توجيه تهمة مباشرة إلى سعاده وهي إعادة تشكيل الحزب السياسي الذي كان صدر مرسوم جمهوري بحله.

في 8 تموز 1936، أي بعد اعتقال سعاده بأيام، جرت تظاهرات حزبية أمام سجن الرمل والعديد من السرايات المحلية في المناطق، كانت قررتها القيادة الحزبية دعماً لموقف سعاده ورفقائه في السجن.

وفي 27 تموز جرى تأديب ثان للصحافي الغريب تمّ في ضهور الشوير عندما التقى به الرفقاء وعرفوه فأشبعوه ضرباً .

في أوائل تشرين الثاني 1936 خرج سعاده من الأسر أي بعد نيف وأربعة أشهر . في 16 منه وجه نداء إلى القوميين الاجتماعيين يقول فيه: « إني أخرج من السجن بكفالة مالية قدرها خمسماية ليرة لبنانية سورية عائداً إلى وسطكم لنتابع معاً عملنا القومي الصحيح وخططنا السياسية بدون أي تغيير أو تبديل فيها». ثم يضيف: «إن موقفنا السياسي فيما يختص بالسياسة الجارية والأوضاع الحالية لن يكون على غير ما أعلناه في البلاغ الأزرق الصادر بتاريخ 15 حزيران 1936 وعالجنا فيه القضايا السياسية المحلية، ولن يكون على غير ما هو واضح في شرح غاية الحركة السورية القومية وخططها. إن خصوم الحركة القومية لا يعدمون أن يجدوا في كل خطة سياسية فنية من خطط الحركة موقعاً للتأويل. فمنعاً لأي التباس، نصرّح بأن مبادئنا ستظل هي هي، وبأن كل برنامج سياسي فرعي سيكون مؤسساً على هذه المبادئ ومستمداً منها».

من الأحداث التي جرت بعد خروج سعاده من الأسر الثاني نورد ما يلي:

ـ في أواسط شهر تشرين الثاني 1936 حصلت الفتنة الطائفية في بيروت، فعالجها سعاده بأن أصدر نداء إلى القوميين الاجتماعيين، وطلب إلى منفذية بيروت أن تنظم فرقاً من الرفقاء تتوجه إلى مناطق البسطة والجميزة والأشرفية لمنع الصدامات ولتوزيع نداء سعاده. كذلك عمد إلى نشر مقال في مجلة «الجمهور» بعنوان «دم الغوغاء».

جدير بالذكر أن تشكيلات حزبية بدأت تظهر، رغم أن قانون قمع الجرائم يمنع قيامها. فسياسة فرنسا أن تقسو وتلاحق الحزب السوري القومي الاجتماعي من جهة، أما من جهة أخرى فأن تشجع على إنشاء أحزاب من نوع آخر تخدم مصالحها، والتشكيلات هي التالية:

ـ حزب «الوحدة اللبنانية» برئاسة توفيق عواد إلا أنه سرعان ما انهار وانتهى.

ـ حزب «الجبهة القومية اللبنانية» برئاسة المحامي يوسف السودا.

ـ حزب اشتراكي النزعة برئاسة الصحافي فؤاد الشمالي كان يصدر جريدة باسم «المريخ» .

ـ حزب «الكتائب اللبنانية».

ـ «النجادة»، ومن مؤسسيها وأول رئيس لها قائد الكشاف المسلم، الصحافي والنائب محي الدين النصولي. تسلّم الرئاسة فيما بعد عدنان الحكيم .

إلى جانب تلك التشكيلات، وبالإضافة إلى الحملات المنظمة التي كانت تستهدف الحزب السوري القومي، وتقودها صحف مأجورة، فقد صدر في أواسط الثلاثينات مؤلفان ضد الحزب، أحدهما من منطلق شيوعي بعنوان «أصابع الاستعمار والفاشيستية في بلادنا الحزب السوري القومي» لفايز يارد، والثاني من منطلق كنائسي للخور أسقف لويس خليل وكان برتبة مرسل بطريركي ماروني بعنوان «الحزب السوري مؤامرة على الدين والوطن». وقد أشار سعاده في المحاضرة الأولى من «المحاضرات العشر» إلى الخور أسقف المذكور.

ـ في هذه الأثناء كان الغليان يعم فلسطين نتيجة السياسة البريطانية المشجعة للهجرة اليهودية، فكان قرار الزعيم المشاركة في التصدي المسلح للاستعمار البريطاني على أرض فلسطين وفي رد الغزوة اليهودية المتصاعدة. وقد سقط للحزب في ثورة العام 1936 الرفيق حسين البنا من شارون والقائد الرفيق محمد سعيد العاص.

للرفيق سعيد العاص سجل حافل بالنضال، فقد كان قائداً للجبهة الشمالية في الثورة السورية عام 1925 قبل أن ينضم إلى الثورة التي اندلعت في فلسطين عام 1936 حيث التقى هناك بفرقة من المتطوعين للقتال «أفرادها من مناطق متعددة ومن طوائف دينية مختلفة. فكان فيها ابن الشوف وابن المتن وابن بيروت وابن صيدا من لبنان وابن حيفا والناصرة ويافا وما جاورها من فلسطين. وكان فيها المحمدي والمسيحي والدرزي. هي الفرقة الوحيدة التي اجتمع أفرادها على تعداد مناطقهم وتباعدها، اجتماعاً مقصوداً ظهروا فيه بوحدة روحية وفكرية متينة ميّزتهم عن جميع المجاهدين الآخرين. وكان تصرفهم النظامي في غاية الدقة والحماس.

«استلفتت هذه الفرقة نظر القائد سعيد العاص فأعجب بروحيتها ونظامها إعجاباً كبيراً وحمله إعجابه على البحث عن سر روحيتها ونظامها فسأل أفرادها فأخبروه بأمرهم وعرفوه حقيقة العقيدة السورية القومية الاجتماعية التي يدينون بها. الجزء الأول من سيرة شهداء الحزب الخالدون .

نعود إلى سعاده وهو يدير الصراع من بيروت فننقل هنا مقطعاً ورد في خطبة ألقاها عام 1933 في النادي الفلسطيني في بيروت ففيه يتوضح كيف كان سعاده يستشرف أوضاع أمته، يقول: «إني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا المتفرقة، ففي الجنوب تتراجع الخطوط السورية أمام الحدود اليهودية وفي الشمال تتقلص الحدود السورية أمام الحدود التركية».

وأيضاً نقرأ مقطعاً من رسالة وجهها سعاده إلى الرفيق عبد الله نعواس في فلسطين، بتاريخ 25 حزيران 1936 يقول فيها: « إن مركز الحزب اليوم في حالة لا يتمكن البعيد من تقديرها، فنحن في معركة شديدة وإن تكن صامته مع قوى الحكومة والقوى الرجعية التي ترى في حركة الحزب السوري القومي خطراً على كيانها وهذا الضغط في مركز العمل يجعل اشتراك المركز في حوادث سورية غير ممكن من الوجهة العملية، لذلك اعتمدنا على مجهودات أعضائنا في تلك المناطق للقيام بواجبهم في هذه الظروف»، ثم يضيف: « إن وصيتي اليوم إليكم وإلى جميع السوريين القوميين في الجنوب هي أن يقوم كل فرد بما يدعوه إليه الواجب القومي في الظروف العصيبة الحاضرة وأن لا يسمح أحدكم باليأس يتسرب إلى قلبه عند مشاهدته الفوضى في العمل وما يؤدي إليه من نتائج، بل أن يظل كلكم يؤمن بأمته التي لن تموت وبحزبه الذي يسير دائماً إلى أمام «.

الاهتمام بالحدود الشمالية السورية

ـ في شهر كانون أول 1936 قام سعاده بجولته التاريخية إلى مناطق محافظة اللاذقية منها صافيتا، مرمريتا، تلكلخ التي كانت تابعة لمحافظة اللاذقية وقد اعتبرت من أيام الحزب، من حيث الاستقبالات الحاشدة التي أقيمت لسعاده، كما لخطبه في البلدات والقرى التي شملتها الزيارة، وأبرزها خطابه في صافيتا الذي نبه فيه إلى موضوع الاسكندرون قائلاً: «ومن الشمال يستفحل الخطر التركي على الحدود ويحاول أن يخترقها ويستولي على بقعة أخرى من البقاع السورية الخصبة الضرورية لحياتنا وتقدمنا»، ثم يضيف: «إني أعلن أن الاسكندرونة أرض سورية ضرورية لحياتنا وتقدم مصالحنا وإننا مستعدون للاحتفاظ بها مهما كلف الأمر».

ـ في تلك الفترة وسعاده يواجه الانتداب الفرنسي ويتعرض للسجن وأعضاء الحزب للملاحقات، وفيما الثورة قائمة في فلسطين، والغزوة اليهودية تشتد بحماية ودعم من الانتداب البريطاني، كان على سعاده أيضاً أن يواجه الخطر التركي في الشمال المتمثل في المؤامرة على لواء الاسكندرون التي لم تكن فرنسا بعيدة عنها، ولا بريئة منها. فالمذكرة التي وجهها سعاده إلى عصبة الأمم في 14 كانون أول 1936 كانت أول صوت يرتفع بهذا الشأن، وقد كرس سعاده هذا التاريخ باسم «ذكرى الحدود الشمالية». لم يكتف سعاده بذلك إنما انتدب وفداً حزبياً لزيارة اللواء، وتقصي الحقائق تألف من جورج عبد المسيح، صلاح شيشكلي، خالد أديب، جورج حداد، وإميل دباس ثم راح بخطبه وبتحركه ومذكراته ومقالاته، خاصة في جريدة «النهضة»، يعطي موضوع الاسكندرون أقصى ما يستطيعه من اهتمام.

وهنا بعض الأمثلة:

ـ في 14 كانون أول 1936 وجه سعاده مذكرة إلى عصبة الأمم جاء فيها: « إن الحزب السوري القومي يعد كل عمل يقصد منه بتر لواء الاسكندرون عن جسم سورية أو وضع حدود لسيادة الأمة السورية على هذا اللواء، خرقاً لحرمة سيادة الأمة السورية وللمادة الثانية والعشرين من عهد الجمعية الأممية ولكمال الأرض الوطنية السورية».

ـ في 8 كانون الثاني 1937 وجّه سعاده مذكرة إلى المفوض السامي في لبنان والشام يعلن فيها استعداد الحزب لوضع العدد اللازم من المتطوعين القوميين للمساعدة على الاحتفاظ بالسنجق السوري.

ـ في 29 كانون الثاني 1937 نشر مقالة في جريدة «الشرق» جاء فيها: «إن فقد السيطرة السورية على لواء الاسكندرون خسارة لا تنحصر في دولة الشام بل تشمل لبنان وفلسطين وشرق الأردن والعراق، لأنها بقعة خصبة وموقع هام للتجارة والأعمال الحربية، وتهديد لا يقتصر على كيان الشام بل يتناول سورية الجغرافية كلها «. وفي مكان آخر يقول: «إن الأمة السورية لا تريد أن تختنق بين الضغط التركي والضغط الصهيوني».

ـ وفي شهر كانون الثاني أيضاً وجه سعاده مذكرة إلى الحكومة الشامية لفت فيها إلى أن إزالة السيادة السورية عن لواء الاسكندرون ووضعه تحت تقلبات السياسة والحزبية الأجنبية، يكون خسارة كبيرة للأمة السورية وإجحافاً بحقوقها وخطراً على كيانها وحياتها.

ـ أعقبت المذكرة التي قدمها الحزب إلى الحكومة الشامية دعوة القوميين الاجتماعيين في دمشق إلى تنظيم مظاهرة اصطدمت ببعض العناصر الحزبية المناوئة «إلا أن جريدتين أو ثلاث من الرفقاء كلفت للسيطرة على الموقف والاقتصاص من المعتدي»، كما يقول سعاده في رسالته في أول تموز 1939 إلى القوميين الاجتماعيين مذكراً إياهم بأيام الحزب ومنها يوم دمشق.

هوامش:

1 عرف بقانون قمع الجرائم الذي كان يعني أن كل فئة تتجاوز الخمسة أشخاص تجتمع في مكان ما بغير إذن رسمي وتشاء الحكومة أن تظن أنه توجد مقاصد وراء الاجتماع فلم يكن ما يمنع من دخول رجال التحري والأمن العام واستياق المجتمعين إلى دوائر التحقيق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى