الزمان المفقود… و«النبيذة» لإنعام كجه جي

عبد الواحد لؤلؤة

هذا عنوان أحدث رواية لإنعام كجه جي، وهي صفة على قياس «الطريدة»، فتاة انتبذتها الظروف مكاناً قصيّاً، فحصلت على وظيفة في محطة إذاعة كراتشي العربية، حديثة التكوين عام 1947، فابتعدت عن بغداد، وهناك التقت «منصور البادي» زميلاً في العمل، وما لبثت «تاج الملوك أن ارتبطت مع منصور، الفلسطيني الفاقد وطنه، بنوع من الحب المستحيل، بقي على أواره حتى بعد أن فقد الاثنان وظيفتيهما، افترقا عن بعضهما مكانياً، لكن بقي ذلك الحب اللامعقول يجمع بينهما: تاج في عودتها إلى مسقط رأسها إيران مروراً ببغداد وإقامة طويلة في باريس، وزواجها من «القومندان سيريل شامينيون» الضابط في الجيش الفرنسي الذي انقلب إلى جاسوس وأراد استغلالها في مهمة جاسوسية في محاولة اغتيال «بن بلّة» في القاهرة، فأحجمت عن ذلك.

وعندما قذفت الظروف بالفلسطيني «منصور» إلى كراكاس في فنزويلا، ابتسم له الحظ فدرس العلاقات الدولية وغدا مستشاراً عند شافيز رئيس البلاد. بقي العاشقان على تواصل بين باريس وكراكاس بالرسائل والاتصالات الهاتفية، لكن حبهما المستحيل لم يساعدهما في التلاقي إلا في الخيال.

وثمة «نبيذة» أخرى لا تقل مأساوية عن «تاجي» هي «وديان عبد الحميد» الطالبة في مدرسة الموسيقى والباليه في بغداد السبعينات. مرت هذه الفتاة بمآسي الحرب العراقية الإيرانية، ومن بعدها مآسي الغزو الأميركي للعراق، وابتسم لها حظ «نصف عظيم» إذ تقدم لخطبتها شاب عائد من أميركا بالدكتوراه وتعيّن في كلية الهندسة في بغداد.

ارتبط الإثنان بحب ما لبث أن كشف عن لامعقوليته، إذ انخرط «يوسف» في أنشطة «الحزب الحاكم» وملحقاته، فأقدم على الانسحاب من خطبته ومشروع غرامه المستحيل. وانقلب حظ عازفة الكمان في السمفونية الوطنية العراقية «وديان» إلى سوء حظ لامعقول. انتبه إليها «الأستاذ» ابن زعيم القبيلة فوقعت ضحية واحدة من مباذله الكثيرة اللامعقولة. دعاها إلى حفلة «ذوي العاهات» بادعاء الصمم. فدفعته نزوة جنونية إلى التلذذ بالعبث بأذنيها بتركيب سماعتين ضخمتين على أذنيها وتسليط موسيقى صاخبة وقرع طبول أكملها بإدخال آلة حادة خرقت الطبلة في أذنيها ففقدت السمع، وغدت «طرشاء» فعلاً في تلك الحفلة التي لا توصف.

بصدفة «سعيدة» قامت السفارة الفرنسية في بغداد بإرسال عدد من طلبة مدرسة الموسيقى إلى باريس، لتطوير قدراتهم الموسيقية، وكانت «وديان» بينهم. هناك أجريت لها عملية أصلحت سمعها بمساعدة السماعات الطبية، هدية من الفرنسيين.

ثم قادتها صدفة سعيدة أخرى إلى الاجتماع مع «تاجي» عند باب قاعة الموسيقى: نبيذتان، من العراق، لكل منهما مأساتها الخاصة. تغدو «وديان» مرافقة دائمة لا تفارق «تاجي» في حياتها في باريس، ثم تصبح وسيلة تقارب بين تاجي ومنصور، بالرسائل والاتصالات الهاتفية بين باريس وكراكاس، لكن الظروف لم تكمل سعادة اللقاء الفعلي.

هذه رواية واقعية ـ تاريخية ـ خيالية. فهي واقعية لأنها تتناول وقائع فعلية في تاريخ العراق الحديث، وشخصيات كان لها دور مهم في تلك الأحداث، مثل المظاهرات التي عّمت العراق ضد معاهدة «بورتسموث» ووثبة كانون الثاني/يناير 1948، ومكافحة التوجهات الشيوعية التي شاعت في بعض الأوساط، وإعدام ثلاثة من زعمائها. ومن الشخصيات المؤثرة في تاريخ العراق في عقد الأربعينات نوري السعيد الذي شكل 14 وزارة، ثم بهجت العطية مدير المخابرات الذي يُرهب الجميع، حتى من ليس لهم علاقة بالسياسة. ومن الشخصيات المهمة في تلك الفترة الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق والملك فيصل الثاني الذي لم يبلغ سنّ الرشد. وهناك إشارات إلى المناضل الجزائري أحمد بن بلّه، وإلى شافيز المناضل في سبيل استقلال فنزويلا، ما أعطى بعداً للرواية إضافة إلى أبعادها المحلية. ومن الشخصيات المهمة في الرواية شاعر العراق محمد مهدي الجواهري. ومن الشخصيات المرعبة التي تصورها الرواية شخصية «الأستاذ» ابن زعيم القبيلة الحاكمة الذي شغل عامة الناس وخاصتهم بأخبار نزواته الجهنمية التي لا توصف. ويتصل بأسماء الشخصيات، وأسماء المواقع من شوارع وجسور وفنادق ومدرسة الموسيقى والباليه في بغداد، ومن البلاد: القدس، الأهواز، كراتشي، لبنان، وكل ذلك يجعل الرواية أشبه بفيلم سينمائي يعرض الماضي والحاضر إلى جانب هذه الأسماء الحقيقية والوقائع الفعلية، ثمة شخصيات وأحداث متخيلة، لكنها تقترب من الواقع وتمتزج به، وهنا براعة الروائية التي تعتمد أسلوب «التعطيل المقصود لعدم التصديق» على رأي كيتس شاعر الرومانسية. لكن الروائية تقترب من تلك الشخصيات الخيالية بدون التماهي معها، فتغدو شخصيات خيالية ـ واقعية، وهذه علامة الفن الروائي الرفيع. نسير مع الشخصيات المتخيلة كأننا زملاء طفولة، ومع «وديان» نهرع إلى الملجأ عند حدوث غارة جوية. ونصدق أن «وديان عبد الحميد» طالبة فعلية في مدرسة الموسيقى والباليه، لأنها تتحدث بتفصيل عن موسيقى الكمان والمدرسات الروسيات بلغتهم «الأرابوروسية». وهذا لا يتأتى لروائية إلا إذا كانت نفسها تلميذة في تلك المدرسة. ومن الشخصيات المتخيلة قابلة التصديق شخصية «تاج الملوك وشخصية زوج أمها «عبد المجيد الشريفي» الكظماوي وصالونه الأدبي أيام الخميس، الذي تعلمت منه «تاجي» الكثير عن اللغة والأدب باستراق السمع إلى ذلك المجلس الأدبي، ما كوّن لديها توجهات الكتابة الصحافية. وأحداث الرواية تدور حول أقوال وتصرفات المرأتين: تاجي ومرافقتها وديان، وإلى أخبار الشخصية الثالثة: منصور البادي، ورسائله وأحاديثه على الهاتف. لكنها صورة غير مباشرة، لذا تبقى خيالية ـ واقعية تعطي للرواية مذاقها الخاص واللحن الرئيس في الرواية هو الحب، لكنه حب على مستوى اللامعقول، لا يكتمل بلقاء إلا في الخيال، ما يضيف إلى الرواية صفة الواقع ـ الخيال ـ مجيء منصور برفقة الرئيس شافيز إلى باريس في مهمة دبلوماسية يوحي باحتمال لقاء العاشقين، لكنه حلم لا يتحقق. وسعي المرافقة «وديان» لترتيب لقاء بين العاشقين في حديقة باريسية لا يتحقق إلا في خيال ذهبي مثل الفندق الباريسي، حيث نزل منصور.

في مقالة مهمة بعنوان «فن الرواية» يتحدث الأميركي هنري جيمس 1843 ـ 1916 عن «ملاحظة عابرة» لا تلبث أن تتطور إلى خبرة عند الكاتب الموهوب، الذي يطور الشخصيات والأحداث، مما قرأ أو سُمع من الآخرين. وفي حالة تشارلز ديكنز، نجد في روايته الفذة «حكاية مدينتين» معلومات وأوصافاً عن باريس قبل الثورة الفرنسية وأثناءها، مما لم يكن له به من علم سوى ما قرأ وسمع فجعل منه خبرة فعلية في أوصافه. مثل هذا ما نجده في رواية «النبيذة». فإذا كانت أوصاف باريس جاءت عن خبرة حقيقية عند الروائية من طول إقامتها في باريس، ومعرفتها ببغداد وتاريخها لا جدال حول سبب نشأتها في بغداد ومعرفتها بتاريخ بلدها العراق، فإن أوصاف كراتشي والأهواز ومشهد وكراكاس هي من باب «التعطيل المقصود لعدم التصديق» وتكون النتيجة أننا نصدق واقعية الأحداث والشخصيات، لأن ما سبق مما أوردته الروائية من أحداث وشخصيات هي مما لا يرقى إليه الشك، فينسحب التصديق على الخيالات.

من ذلك دخول «تاجي إلى القصر الملكي في بغداد وإلى مكتب رئيس الوزراء نوري السعيد، ومقابلة «أم كلثوم» أثناء زيارتها بغداد، ومقابلة مدير المخابرات ومحاولته «تجنيدها» للأعمال التجسسية، التي رفضتها، مثل إحجامها عن اغتيال أحمد بن بلّه في القاهرة في فترة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وهي محاولة بتوجيه زوجها الفرنسي، شامبنيون، الجاسوس، وأمثال ذلك من حوادث وشخصيات جميعها من صنع الخيال الروائي، تجعل القارئ يتساءل، هل الفن الروائي حقائق في لبوس خيال، أم خيال في لبوس حقائق، أم ليس ذلك بالمهم، طالما نجحت الرواية في إمتاعنا وتذكيرنا بما كاد بعضنا أن ينساه؟

تبدأ الرواية في فصلها الأول بقفزة متخيلة خاطفة إلى الماضي، بما يشبه أسلوب «فلاش باك». ولكن البراعة هنا أنه ليس أمامنا من «ماضٍ» نقفز إليه بشكل خاطف. لكنه وصف «حاضر» ممكن وملموس: عجوز في مقعد في قطار منطلق بسرعة. لا غرابة في ذلك، بل هو بداية تصوير «واقعي» لا يلبث أن ينقلب إلى خيال، إذ يزوغ بصر السيدة العجوز وتتخيل الجالس في المقعد أمامها الرجل الذي كلفت باغتياله. وتسرح في حلم يقظة، أو كابوس يحملها إلى المستشفى العسكري حيث كانت ترقد، وفي الغرفة المجاورة يرقد بن بلّه، على وشك نهايته، وبباب غرفته عسكري يحرسه.

هذا التداخل بين الواقع والخيال هو المسار الدائم لأحداث هذه الرواية، فلا نعود نفرق بين الرؤى الكابوسية في قطار وبين لقاء العاشقين بعد طول غياب في حديقة «نافورة العشاق». ونبقى في حيرة تجاه أحداث وشخصيات لا نقوى على رفضها ولا نريد تصديقها.

أما أوصاف حفلة «الأستاذ» الجهنمية، وأوصاف جنازات قتلى الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأخبار اختطاف الناس أثناء الغزو الأميركي للعراق هذه وأمثالها من الأحداث والشخصيات في رواية «النبيذة» هي الانصهار العجيب بين الواقع والخيال، ما يدفع إلى معاودة قراءة الرواية، ثانية، وربما ثالثة.

ناقد عراقيّ/ كامبريدج

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى