ما كشفته الحرب على سورية
د. رائد المصري
لن نكرِّر مضامين الكلام عن الحرب السورية التي بدأت عام 2011، والقدرة الغربية الاستعمارية وقوَّة دول الإقليم الوظيفية التي مكَّنت الغرب من غرز مخالبه في جسد هذه الأمة المُثخنة تاريخياً بالجراح، وحول انكشاف حجم التآمر في خدمة مشاريع المستعمرين الأميركيين والصهاينة، بل الاستفادة ممَّا حصل لعدم الوقوع في أخطاء الماضي وإعادة تصحيح وعي العقل الجمعي العربي، واللبناني على وجه الخصوص. وهو ما كشفته الأزمة الأخيرة بين لبنان والمملكة العربية السعودية، بعد حجزها رئيس حكومته وإجباره على تقديم استقالته، في سابقة جديدة وخطيرة تضع أحكام ونظم القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية أمام إحراج وتساؤلات، تؤكِّد وجوب إعادة صياغة وترتيب وتفعيل الهيئات الأممية ومجلس الأمن ومجالس الحقوق الإنسانية التي تصدَّعت من هول المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين والشعب العربي، ومن هول المجازر السعودية بحقِّ أبناء شعب اليمن منذ ثلاث سنوات. وتريد هذه الأخيرة تعميم تجربتها وتكرارها في ردِّ فعلٍ عكسي بدءاً من لبنان.
من غير المفيد هنا سوق الاتهامات بحقِّ السعودية وتورُّطها في أكثر من أزمة وملف عربي، بقدر ما هو مهم أن نُضيء على حجم الانكشاف الذي ظهر بعد إزالة البرقع الديني المتطرِّف المغطي العورات التاريخية والأصوليات المتزمتة والمتزاوجة مع الولاءات السياسية القبلية، لتصير حالة وخليط وعصارة لنظام حكم تملؤه الأحقاد الشخصية والأمراض الاجتماعية، فبدلاً من أن تتقدَّم السعودية وتستفيد من التجارب التاريخية التي حصلت وتعيد تموضع سياساتها الحكيمة كحاضن وجامع يصون العمل العربي المشترك، فها هي اليوم تكشف عن حجم تأزُّمها وتورُّطها ورهانها في تدمير الدول وطمس المعالم التاريخية والحضارية فيها.
نحن هنا لا نتحدَّث عن تغيير في التحالف أو الوقوف في صف المحور المقاوم، إنَّما على الأقل الإمساك بأوراق القوة كحق يمكن أن تمتلكه دولة عربية وازنة كالمملكة العربية السعودية تستطيع من خلاله إعادة رسم سياساتها وبرامجها وإعادة هيكلة حضورها الإقليمي والدور الذي طالما كان مفقوداً لها منذ عشرات السنوات.
مغالطات السياسات السعودية التاريخية بحقِّ العرب كثيرة: فهي أنتجت دماراً للعراق بعد توريطه في حروب مع الجيران، والقبول والمساعدة على احتلاله غربياً وتدمير قاعدة إنتاجه التصنيعي والحضاري ومؤسساته الدستورية والمساهمة في رفع منسوب التكتلات الطائفية والمذهبية وإضعاف الدولة المركزية وتعزيز رغبات نزعة الانفصال لدى البعض كالكرد مثلاً في أربيل، أو كتسهيل لسيطرة داعش أو التنظيمات المتطرفة على الموصل، وهو ما أكَّد الحسم في قرار العراق ولكلِّ أبنائه بضرورة الذهاب نحو إيران كضامن وحيد في وجه مشاريع التفتيت.
كذلك سورية ومنسوب وحجم الدفع لمحاصرتها وتقويض دورها الإقليمي أقله في وجه المشروع الصهيوني المحتل للأرض والمدمِّر النسيج الاجتماعي والتنمية في دول المنطقة، بل المساهمة منذ العام 2011 في تمويل الحرب التكفيرية عليها ودعمها بالمال والسلاح، وإخراجها من الجامعة العربية ومحاولة استجلاب قرارات دولية تحت الفصل السابع لتفسيخ مكوّنات وعناصر السيادة التي تُبقي على الدولة، حيث وجدت نفسها أمام وقائع خطيرة تحتِّم عليها وبضرورة تاريخية واستراتيجية قيام تحالف تاريخي مع إيران معزِّز لحمايتها ولوحدتها فخسرت السعودية مجدداً ورقة عربية مهمة في الصراع الذي يقوّي مكانتها وحضورها.
في اليمن بدلاً من أن تسعى المملكة العربية السعودية الى استيعاب الأزمة السياسية فيها، والسعي لحلٍّ يتواءم الجميع حوله، بدأت حربها بالتحريض المذهبي رافقه ولا يزال تدمير عسكري ممنهج وحصار قاتل للدولة حتى بلغت المجاعة والأمراض حداً لا يوصف، ولتضع مكوِّنات الشعب اليمني أمام خيار وحيد هو إيران أو التناغم مع السياسات الإيرانية في الإقليم..
كما الأزمة الحاصلة مع قطر والحصار المفروض عليها ومقاطعتها، وبالتالي الزجّ بها في حضن إيران كدليل آخر على الفشل في استيعاب ورسم سياسات إقليمية تؤطر علاقات عربية متينة..
وها هو لبنان أخيراً وليس آخراً والأزمة المستجدّة باحتجاز رئيس حكومته والتعاطي المذلِّ بحقِّ الشعب اللبناني والتهديدات التي يسوقها المسؤولون السعوديون بحق أبنائه، والالتفاف الرسمي والشعبي حيال ما جرى يُظهر بوضوح أنَّ القضية التي طالما كان يتمّ تسويقها واستحضارها عبر التوتير المذهبي وفبركة أقاويل بالتدخّلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول عربية، والهيمنة الإيرانية على المنطقة ما هي إلا مجرَّد محاولات يائسة باتت مكشوفة أقله من ناحية قوى سياسية وجماهير شعبية كانت حتى الأمس القريب تدين بولائها للمملكة العربية السعودية وتستنفر عند كلِّ إشارة منها بوجه المقاومة وبوجه سورية وإيران، فتمَّ حسم قرار الشعب اللبناني كلُّ الشعب اللبناني، باستثناء قلة من المشوَّهين والمتحوِّلين لإدراك حجم وحقيقة ما جرى بوجوب إعادة تصويب وتصحيح العلاقة، وبأنَّ أسباب التأزُّم الحاصلة ليست مذهبية وليست بفعل تدخلات إيرانية وفرض أجندات سياسية عليها، بل بأنماط من التفكير والوعي المشوَّه والتضليل التام بحقيقة وجود هذا الشعب وحقه في العيش باستقرار وسلام، وهذا ما نقضته السعودية في سياساتها التي رسمتها مؤخراً في المنطقة والتي تريد العمل برد فعل عكسي من لبنان يكون دامياً مؤسِّساً لحرب أهلية جديدة وانقسام عمودي حاد مذهبي طوائفي… فانقلبت الصورة تماماً وتكشَّفت حقيقة سياسات السعودية وحصل العكس وهو ما لا نتمناه أبداً، لكنه حصل… فكل الشكر للمملكة العربية السعودية على هذه الجهود التي وحّدتنا وقوَّت من عزيمة شعبنا ووحدته…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية