أزمة نظام في السعوديّة أم فساد أُمراء؟!
د. وفيق إبراهيم
تستطيع الصراعات المندلعة في مملكة آل سعود إلى مستوى معالجة فساد جزئي في الداخل، ومجابهة خطر إيران في الخارج لن يكفي للحدّ من تقهقر مملكة بدأت بالأفول لتناقضها مع أشكال ومضامين الدول المعاصرة.
كما أنّ نثر مليارات الدولارات في مختلف الاتّجاهات لا يفعل إلّا إرجاء الأزمة إلى حين قريب، لأنّها أزمة بنيويّة تدكّ مفاصل دولة نسيها التاريخ في أعماق القرون الوسطى، واغتربت عن العصر بمعدّل ستة قرون على الأقلّ.
لا باس هنا من التذكير بأنّ آل سعود أسّسوا دولتهم الحالية في مطلع القرن الفائت، بتحالف عشيرة بدويّة وفكر إسلاموي متطرّف ومخابرات بريطانية. هذا ما تؤكّده كتب التاريخ بمختلف اتّجاهاتها، وهذا ما تكشفه الوثائق البريطانية المتنوّعة التي تربط نشوء دولة آل سعود بحاجة إنكلترا إلى «دولة واحدة» تحتوي على معظم نفط شبه جزيرة العرب.
لذلك أتاحت «الحاجة الدولية» البريطانية لفرع بدوي صغير ارتكاب الهفوة الأولى بإبادة نصف سكّان جزيرة العرب من السنّة والشيعة بذرائع الفكر الوهابي المتطرّف.
أمّا الجريمة الثانية، فهي إطلاق اسم العائلة السعوديّة على مليونَي كيلومتر مربّع تحتوي على مقدّسات إسلامية وتاريخ آلاف القبائل والعشائر والممالك التي لا علاقة لها مطلقاً بآل سعود، مزوّرين التاريخ حيناً، ومتستّرين عليه حيناً آخر، ومستخدمين فقهاً وهابياً بعيداً عن الاعتدال الإسلامي، أباح لهم تصفية خصومهم بمجازر مروّعة. وهكذا نشأت «المملكة العربية السعودية» على ثلاث قواعد عائدات النفط الخالية، الحرمين الشريفين، والرعاية الغربية الكاملة التي انتقلت في 1945 من بريطانيا التي تراجع دورها إلى الولايات المتحدة الأميركية الصاعدة معاهدة كوينسي .
لقد لعب البترول السعودي الغزير من جهة، والأهمية الإسلامية المقدّسة للحرمين الشريفين دوراً مسهّلاً للسيطرة الأميركية على العالم الإسلامي، مؤمّناً للصناعة الغربية حاجاتها من الوقود وسيطرتها على عالم كبير من مستهلكي إنتاجاتها.
بالمقابل، بلور آل سعود مملكة أوتوقراطية كاملة تماثل بدقة لدول في القرون الوسطى، مستفيدين من أهميّتهم الكبرى في العالم الغربي، فأنشأوا نظاماً ديكتاتورياً يتوارثون فيه السلطة من أب إلى أولاد بنظام التدرّج والبيعة، التي لم تعد موجودة إلا عندهم.
واتّسم نظامهم بدكتاتورية مطلقة، يمنع فيها إنشاء الأحزاب والنقابات وكلّ أنواع التحالفات، حتى أنّ القضاء بدويّ الشكل، مزاجيّ لا يستند إلّا إلى الخبرة التاريخية المستمدّة من حلّ النزاعات البدوية، وهناك سيطرة كاملة لآل سعود على حركة توزيع المال العام، فالملك هو الآمر الناهي، والأمراء لهم حصّة عائلية يتألف مجلس إدارتها من الأكبر سنّاً مع أشقائه، يأخذون حصصهم من العائدات وقسماً آخر للحمايات الغربية والداخلية، وجزءاً لتسيير إدارة الدولة بشكل تقليدي.
فآل سعود هم الحاكمون، وهم الذين يقدّرون حاجات الناس، وهم الذين يفبركون مجالس بيعة وشعر ونثر وأحكام دينية أكثر تخلّفاً من القرون الوسطى، ولهم الحقّ بإصدار أحكام عند اللزوم، ومن دون الحاجة إلى دلائل وعناصر إثبات. لكن لنجاحهم في تطويع الداخل والقطع بينه وبين العالم المعاصر أسباباً تتعلّق بالحماية الأميركية لهم، والتي غطّتهم في ديكتاتوريّتهم الداخلية مقابل البترول واستخدام النفوذ السعودي في العالم الإسلامي والعربي.
إنّ حجم الإسناد الغربي للنظام السعودي يسمح لآل سعود بسجن المجتمع السعودي في قلب القرون الوسطى، حيث لوليّ الأمر الملك القدرة على الإماتة والإحياء من دون حسيب أو رقيب، يقتل من دون أيّة مساءلة من لا يعجبه، ويحيي آخر بمدّه بكلّ أنواع الإعانات المالية ومن دون مساءلة أيضاً.
هذا ما أنتج نظاماً سعودياً يسجن شعبه في إطار وهّابيّ متخلّف وأمني مخابراتي، من دون تعليم وتطوّر… وهذا ما أتاح للنظام نفسه أيضاً التحوّل إلى أداة أميركية لضبط العالمَين الإسلامي والعربي، متدخّلاً بقمع كلّ حركات التقدّم والتحرّر في مصر وسورية والعراق والسودان واليمن، وكلّ مكان.
إنّ السعوديين أصبحوا وكلاء لواشنطن في الإقليم، فهم يحاربون الفكر القومي تارة، والفكر الإسلامي تارةً أخرى حسب الرغبة الأميركية. وهذا ما أدّى إلى فساد سياسي سعودي كبير على مستوى كامل المملكة، لأنّهم يحكمون على قاعدة أنّهم أصحاب البلاد ومالكوها، وبذهنيّة القرون الوسطى، فيعطون ويمنعون حسب مصالحهم. فالفساد إذاً عامٌّ بين الأمراء، أعضاء شركة آل سعود، وهو سياسي أولاً وإداريّ ثانياً، ومنتشر في القطاعات الاقتصادية والدينية والعسكرية والأمنية، وهذا لا يمنع أنّ أمراء قد يكونون محظيّين أكثر من أمراء آخرين، لكن جميعهم في مملكة النفط يتنعّمون بـ «نفط الناس»، ويسرقون أعظم ثروات في التاريخ بالتقاسم مع الغرب الأميركي والأوروبي.
هناك عوامل عدّة أقلقت الهيمنة المطلقة لآل سعود والنفوذ الأميركي معاً، وفي مقدّمها نجاح ثورة إسلامية في إيران قضت على صديق آل سعود الشاه رضى بهلوي، فحاولت المملكة مع واشنطن ونظام صدام حسين ضربها عند ولادتها بحرب استمرّت عشرة أعوام، وانتهت بانتصار إيران الإسلامية، ونجاحها بدعم خطّ مقاوم من اليمن والعراق إلى سورية ولبنان، أصاب أيضاً بعض التيارات في جزيرة العرب وآسيا الوسطى… وفلسطين. فأُصيب آل سعود بجنون لارتدادات هذا الخط المقاوم على دولتهم، ودعموا مع الغربيين وقوى إقليمية و«إسرائيلية» أكبر إرهاب تاريخي انتحل الصفة الإسلامية لإسقاط الدول الوطنية في سورية والعراق ومصر وتونس واليمن وليبيا والسودان والصومال، فتطايرت مليارات الدولارات عبثاً وسُدىً. وخسر المشروع الأميركي السعودي «الإسرائيلي» في سورية والعراق في 2017، من دون نسيان نجاح حزب الله في إرغام «إسرائيل» على الانسحاب من لبنان عام 2000، ومنعها من إعادة احتلاله عام 2006.
يتبيّن إذن، أنّ السعودية فشلت في تدمير إيران وسورية والعراق، وخسرت حلفاءها الإرهابيين من «داعش» و«النصرة»، وتترقّب بكآبة الخروج التدريجي البطيء للأميركيين من الإقليم نحو بحر الصين، ما يتسبّب لها بجنون تحاول تغطيته بادّعاء تطوير الداخل، ودعم حروب في الخارج، لكنّها ليست قادرة لا على التحديث، ولا باستطاعتها دعم حروب ناجحة، لذلك تحاول إغواء «إسرائيل» بالمال من جهة، وبفتح العالمَين العربي والإسلامي لها، وتعاقب لبنان على أمور لم يقترفها، فتجد ضالّتها في سعد الحريريّ الذي كان رجلها الأمين في لبنان، لكنه منطق البحث عن ضحايا للتمويه على الأزمة الفعليّة في الداخل السعودي.
لذلك، فالسؤال هو ماذا يحدث حقيقة في السعودية؟
هناك اشتباك داخليّ بين أجنحة سعوديّة تريد الاستئثار بالدولة على قاعدة الانتماء التاريخي إلى القرون الوسطى نفسها، وبشكل أكثر ديكتاتوريّة وأوتوقراطية، وبغطاء متعدّد يزاوج بين واشنطن و «تلّ أبيب». أمّا حكايات الفساد، فشعار استهلاكيّ لم يصدّقه أحد، تماماً كاتّهام إيران بإرسال صواريخ إلى اليمن لتقصف بها السعودية، واتّهامها أيضاً بتسليح المعارضة في البحرين والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، وهي تيارات تقاتل الإرهاب في مجتمعاتها، ما يفسّر العداء السعودي لها، وترفض النفوذ الأميركي… ما يفسّر عداء الرياض لها أيضاً.
يتّضح بالنتيجة أنّ الدولة السعودية تدافع عن ديمومة قرون وسطاها، وترفض التطوّر باختراع عداءات مع إيران لتأمين تضامن داخلي وعربي معها، على حساب التطوّر. أمّا الفساد فيها، فهو فساد الدولة والذهنيّة، ولا حلّ له إلّا بإنتاج الدولة الوطنيّة الديمقراطية، التي تحرّر سكان الجزيرة من إلصاق التسمية السعودية بهم زوراً، مع تحرير إراداتهم السياسية والاقتصادية من سجون الأساطير وخرافات القبائل والمكرمات.