الشاعر العراقيّ حامد عبد الحسين حميدي في مديح البياض… خطابٌ تسويفيّ يتوسّل زئبقيّة الأمل
أحمد الشيخاوي
الأكيد أنّ كلّ كتابة لاحقة أو بالأحرى مؤجلة، تجبّ ما قبلها، تماماً كما سوف نستشفّ من إرسالية شعرية تفنّنت في ملامسة الصميم الإنساني، وطبيعيّ جدّاً أن الازدهار الإبداعي لا يتحقّق سوى بصقل التجارب ومراكمتها، مثلما أنّ الكمّ يولّد الكيف انتهاء.
هذا حين تعبق الوشاية وتتضوّع من ذات شكّاكة قلقة تدمن كتابة ممسوسة بعذرية أبدية. نكتب وكأنّنا لا نكتب، لأنّ هواجسنا ما تنفكّ ترتع وتمتاح من تفاصيل حواشٍ تجريبية تندغم إيقاعاتها في نبض حياتي يتسارع مخترقاً جيوباً غيبية مغرية ومحرّضة على المقامرات التعبيرية خارج التصنيفات الأجناسية، وطاعنة بانثيالات موسيقية لخطى عبورنا في انرسام شبه مثالي داخل حدود خارطة الحلم الذابل في دورة انخطافه وخفّة عبوره.
تلقّفاً لنفحات الأمل العابر، نحو الأفضل وإن توهّماً، نحو خلاص رمزي منوطة به منظومة ما يؤهّل الذات لمشاغبة أو مناطحة عالم تجاوز إنسانيتنا ببشاعته وسلبيته وشتى مناحيه المنقوصة.
«سأنتظر خروج الحروف الصّامتة»… عتبة إضمامة قيد الطبع، للشاعر والناقد العراقي حامد عبد الحسين حميدي، ما تنفكّ ظلالها تغزو ذهنية التّلقي بالمقاسات ذاتها التي تدغدغ بها ذائقة المولعين بقصيدة النثر كمعادل لمنسوب هستيريا قاهرة تسمو بالقصيدة كي تضعها على نحو مخمليّ هامس فوق مستوى الحياة.
عتبة نبوءات تنقر أزرار الممنوع أو ما هو طيّ الكتمان، تتغيا انتشال الإنسان من بهيميته المرخّصة لحالات الاحتماء بشهوة الفتك والنزعة التدميرية التي تحوّل الكائن إلى شيطان مارد يعيث في أرض الله كما خلقه فساداً، ويتباهى بعربدة معطّلة للدينامية المطلوبة قصد شحذ أكثر لمقومات إنسانية ووجودية تتيح للذات والعالم التوازن المنشود.
هكذا تظلّ نافذة التشويق الموازي مشرعة على مصراعيها، حتى لتبتلع جملة الأحاسيس الكاذبة والمخادعة بما يمكن أن تولّه من انطباعات باعثة على مؤشّرات قريبة المدى لواقع صحي مخوّل للذات فرصة استرداد عافيتها، في تجاذباتها مع باقي العناصر الأخرى، تبتلعها أو تكاد متاهة تدفّقات المعنى المبطن بروح السياقات السّير ذاتية، ضمن خيط ناظم للتيمات الجوهرية، على امتداد خارطة القول الشعري، تبعاً لتراتبية تصاعدية توهّج حمولات العتبة كمفتاح سحري لفكّ طلاسم مفخّخة لمناخات ماورائية تزخر برؤاها الاستشرافية وألوانها الاستعارية شعرية كهذه مجموعة تقارب ظاهرة أمل قاهر بزئبقيته وفلتاته، وكأننا إزاء مشهد مكرّر لإبل تتنصل من عقُلها.
كتابة رافعة إلى المستوى الإنساني المفقود، بالاتّكاء على لغة مؤوّلة تنتجها البياضات، وتجود بمنطقها تلافيف وجيوب المحو.
بهذا نستطيع قراءة حامد عبد الحسين حميدي، في تبنّيه الواعي أيقونة ميكانيزمات مؤثثة لهذا المنجز، كأسرى داخل أفلاك من ظلال المتراخي عمّا صمتت عنه بنات حلق شاعرنا، أحرف تمارس علينا ضغط طقوسيات الانتظار المشبوب بلذة طاغية: وسؤال يتيم
سأنتظرُ: خروج الحروف الصامتة
تتهجّى
تفعلُ
تنتفض
كأيقونة مُدمجة
بصهيل الاعتذار
لا مناص من
بكاء الرّقاقة في كفّ
درجة الغليان
مساكن العطش..
الملوّث
تقضم أصابع الخوف
بلا معنى..
بلا حراك..
تستطيل
زحافات تنضّدت
على حنجرة الوزن والقافية.
وإذاً، هي ثورة على السائد تستفتح بتجلياتها لتضيء الكامن المثقل بأخطاء التاريخ، تعاود صوغ الممنوع، كي تنثره قطوفاً بحجم عنفوان وطن عصيّ على التكالب والاستنزاف، مبشّر بنورانية تعاليمه ولو بعد حين.
سردية أنيقة الوشاية تخبرنا بلسان الضدّ، قدر ما يثوّر خلطة الشّك والقلق الشعري وأبعاد الصعلكة النبيلة، وتحقننا قسطاً من خوفنا على مصير نربّيه منذ الآن، غافلين بشكل أو بآخر عن أوبئة اجتماعية وسياسية عدّة، قد تقوّض النزر القليل من جمال وخيرية ونبل نحاول تشييد صروحها بأفيض كؤوس نبيذ الجلود، وبأقصى طاقة ممكنة تمدّنا بها ملائكيتنا المجمّدة والآخذة بالنفاذ كلّ حين.
نصوص تراوح بين متون الإيقاعات التراجيدية المفتوحة عل جرح يعالج أزمة الهوية والانتماء، ويمنّ بترنيمة رمادية تسعف في غوث رمزي لاهث ملتزم بخلفيات الانتصاف للوطن:
هو نزيف من دمي
متعرّج..
بخارطة ملعونة
بخارطة حدودها
أبي وأمي وإخوتي
بأفكارنا الناسفة
حتى أنا لم أسلم من فكرة الانتحار!
ذات مرّة
أعلنت أن جنوني
عبوة ناسفة.
وفولكلورية الخطاب الساخر واللاذع ببصيرة مفنّدة، تأبى من خلالها الذات، إلّا أن تعلن سخطها الحكيم على راهن راح يتجاوزنا بسائر ما يهبّ ضدّاً وفي غير صالح المادة والكائن.
هذا ما جنته أيدينا، مثلما تفصح عنه قصائد أخرى. ثمّة موت أكبر نحن نربيه، يتدرّج في مثالب الإجهاز على المتبقّي من أمل في انقشاع الغمّة وطيّ مرحلة الانتكاسة والهزائم والانكسارات.
بطولات على الورق، حريّ ألاّ تشغلنا عن أناشيد الضمير الّحي وجرأة تلقّف رذاذ الصحو العائد ببعض من تاريخ أمجادنا الضائعة والمسلوبة، والمرمّم للشرخ، والمسوّق لثقافة إنسانية لامّة مشتركة وماحية لهيمنة وسلطة الإيديولوجي المنحاز للنعرة التفتيتية طائفية كانت أم لسانية إلخ…
ذلك وإنّا عبر سيولات هذيانية ونثار لاواعي، ومخزون إقحام الرموز والموروث، وباقة ما يرفل فيه الديوان من نبض وهشاشة في اجتراح منعطفات تجريبية تروم اقتراح الجديد والمغاير والاستثنائي، بصرف النظر عن بضع ثغرات هنا وهناك، نعايش ما يورّطنا حدّ تلمّظ معسول عوالم صناعة معنى الشعرية النافرة المشفوعة بلملمة تفاصيل اليومي وآليات مجاورة تتلاقح لتشي بواحدية الذات في تعدديتها وانشطارها ما بين شعبوية الهمّ وفيوضات الهواجس المشخصنة والمنطلقة من محلية ضاغطة ومتفشية باتجاه اللامحدود المستمد غلته الجمالية من انكفائه على متواليات تعبيرية تولّدها نكهة اللامعنى الراسي على فسيفساء اللاشكل أيضاً:
سأعلن: أن الشكل الدائريّ
توقيت صحراويّ
وأنّ الهروب إلى الماضي
بطاقة توديع
وأنّ العشق الفاني
تسلية.. فيها صلاة تراويح
وأنّ ضياع البؤس..
مجرّد خرافة شاعر
نخلعها عند الحاجة.
ختاماً، لا يسعنا سوى الإشادة بهذه التجربة اللافتة ونزعم أنها كتابة جاءت ثرية بتلاوينها، لغة وصورة وإيقاعاً، تولّدت على مقاس المحذوف من إنسانيتنا، وعانقت أفق البياض المتروك لأصداء الصوت الداخلي المختنق برواسب المعاناة الحقيقية التي قد يتقاسمها جيل بكامله.
وهكذا، حقّقت الخلخلة المرغوبة مقلقلة عن دماثة وذكاء، أعتى لبنات المشهد البديل المزعوم والمصطبغ بالجنائزية والزيف والذبول.
بكارة ممتدّة تشفع لكل هذا الجنون إذ يترجم أحرف اللعنة والمراوغة تحت أقنعة الانتحار الإبداعي داخل فصول لعبة كلامية تجلد الذات والآخر والوطن، مدشّنة خرافة شاعر تخلع عند الحاجة، ملتفّة بنا وعلى نحو حلزوني إلى نبع مرارة إشكالية وجودية أزلية، عبثاً نمنّي النفس بمعالجات اجتثاية لسطوتها على أقدارنا حدّ الاستعباد.
شاعر وناقد مغربيّ