هذا الليل
بلال شرارة
الأفكار عندما تتقادم تنصرف إلى نومها، وأحياناً كثيرة إلى موتها.
الأفكار عندما تيبس أو يعلوها الصدأ تحتاج إلى الحفّ بورق الزجاج. وغالباً ما تحتاج الى إعادة التشذيب أو القطع وأحياناً كثيرة إلى القلع من شروشها /جذورها، لأنه كلما تراكم عليها الوقت تصبح جافة وخرساء ولا روح فيها ولا تعود تلتمع كنجمة مثيرة فوق رجمة في الوادي.
الأفكار غالباً ما تتدافع وتتقافز أمامنا كالأسماك قبل موسم الإياب بقليل عندما تصبح عصبية بسبب أنها على أهبّة الرحيل. وهي الأفكار لا تدعنا ننام، تقوم وتقعد، تسبق نظرنا وأيدينا ولا تدعنا نستنولها، تترك لنا أن نحاول التقاطها، أن نحتفظ بمسحة عنها، أن نتتأتأ في قولها…
أنا رأسي مليء بالأفكار الناضجة، لا أنكر أنّ بعضها سيّئ وأنني أقصد أن أستدرج عري المسافات وأن أدخل من مسامات الأشياء وأعبر إلى شرايينها وأوردتها لأصير نبضها الذي يسكن في قلب القلب.
أفكاري السيئة العاطلة تأتيني الآن في ساعة متأخرة من العمر. في المسافة الفاصلة بين الذاكرة والذكرى حين يكون قد غلبكم سلطان النوم على أمركم، ولم يعد يضجّ في ليلكم سوى نساء الليل وعمال الأماكن الضيقة التي تغصّ بالمدخنين…
أنا أول طلعتي ذهبت مرة واحدة تنذكر ولا تنعاد إلى الأمكنة حيث يزدهر الليل، جرّني من يدي ابن خالي المرحوم لوحات ، ركبنا سيارة الليوتننات مجلي من قرب مستشفى مار يوسف في الدورة الى الزيتونة، أنا كنت مربكاً وقلقاً ولا أعرف شيئاً مثلي مثل كلّ أولاد النبعة – برج حمود الذين أحلامنا الفقيرة لا تتجاوز جزمة شتاء تنجّينا شرّ طوفان الشوارع في شتاء الضواحي، كنت أتصبّب خجلاً وعرقاً وكنت لا أعرف من الدنيا سوى عالم أفلام رعاة البقر وبعض ما يتفضّل به عليّ والدي والشيخ رضا فرحات من معارف.
كانت الدنيا عندي بوسطة عادل و ساندويش كباب حلبي من المطعم على مقطع السكة وحضور عرض متواصل في سينما كرمنيك والغوص في عالم مكتبة الشعب التي استأجر منها الكتب والتراجم العالمية.
كانت الأفكار التي تتزاحم في رأسي لا تتجاوز على فلسطين التي كانت تسكن بيتنا القومي العربي، وكذلك ما يرويه لي الجيران عن أرمينيا من دراما المجازر البشرية الكاملة التي نفّذها الأتراك.
كنت أعيش مع مَن تبقى حيّاً من الموت السابق والنكبات والأفكار الوردية عن العودة إلى الديار، كنتُ أسكن إلى خزانة مفاتيح دار أبو فؤاد في حيفا وحكايات أم حسين التي سمعتها هي من على باب بئر صلحة عندما كانت تغرف المياه.
مُذ ذاك الى اليوم زرتُ عوالم في الشرق والغرب، ولكني لم أزل أنام على فند التينة، أو حيث تركتني غنوة جالساً على مقعد الأرجوحة المعلّقة في التوتة أسبح في الأفكار نفسها دون ملل…