الصعاب
الصعاب
بلادي تغريني بالوفاء رغم كلّ أساليب الرفاهية التي أعطانا إياها التطوّر العلميّ والتقنيّ، وخصوصاً الكومبيوترات وأجهزة الاتصال. ما زلت أحنّ بلهفة عاشقة إلى لمس الأوراق والعبث ببياضها، لأخطّ خربشاتي. وما زلت أكره الصوت الذي يأتيني من سمّاعة جوفاء ولا أشعر بلهفة اللقاء عبر برامج «الشات» كما كنت، وما زلت أفضّل نسمة باردة من جبال بلادي على كلّ برودة أجهزة التكييف في العالم. كما تغريني رائحة الطيّون والزعتر البرّي أكثر من عطور «دفنتشي». ولأنّني عشت طفولة مليئة بقصص الحصاد وحكايات انتظار مواسم التبغ والذرة و الزيتون لتدور معاصر الخير وتقاسم خبز التنّور على الموائد البسيطة، فقد كبرت وأنا أشعر أنّي عشت ألف ليلة وليلة بكل ما فيها من سحر وجمال. وسأقول لكم إنّ أغلى كنوزي على الإطلاق هو كيس صغير فيه تراب من أرض وطني المقدّسة وإنّ أعظم مخاوفي أن أفقده.
قد نكون عشنا حياة صعبة، كنّا نصارع فيها لكي نستمر بكرامة. وقد يكون البرد والرياح الشرقية التي تعصف على منزلنا قد جعلت من الشتاء معركة حقيقية نصارع فيها للحصول على بعض الدفء، وخصوصاً حين نضطر للمشي مسافات طويلة تحت المطر والبرد بملابس لا تكاد تقينا أيّ شيء، وبأيدٍ مرتجفة ونحن نحمل كتبنا ونحاول أن نحميها من البلل للوصول إلى مدرسة نجلس فيها على المقاعد ونحن نحاول أن نفهم بكلّ جهدنا بين ارتجاف أيدينا واصطكاك أسناننا.
ولكنّ كلّ هذا أراه اليوم كقصة رائعة أرويها لأطفال أسرتنا لكي يعرفوا أنّ المال لا يأتي بالسعادة. وأننا خرجنا من رحم المعاناة أكثر قوّة وأكثر إصراراً على المضيّ للوصول إلى ما نريد. فقد كان والدي يردّد أنه ككلّ أبناء هذا الجبل لا يمكنه أن يمنحنا إلا القليل من الرفاهية، إنما الكثير من الحبّ، وهذا كلّ ما احتجنا إليه.
واليوم، أشعر أكثر من قبل بمدى نقاء وصفاء تلك الأيام ومدى روعتها ومدى افتقارنا اليوم إلى تلك العزيمة والقوة التي شعرنا بها و نحن نغالب مصاعب الحياة بأبسط الوسائل، وبأرواح لا تعرف الانكسار.
أقول لكم إنّ كلّ ما في بلادي يغريني بالوفاء، وكلّ ما عشته يجعلني على قناعة أنّ كلّ ما في سورية مقدّس، وكلّ وجوهها المختلفة رائعة الجمال من فقر وغنى وبساطة وتعقيد. وفي كلّ يوم من أيام الحرب العالمية على سورية، وكلّما ازدادت الأمور قتامة، وكلما شيّعنا الشهيد تلو الشهيد، وودّعنا أحبّة تقاسمنا معهم حياة كاملة، أكتفي برحلة في سماء سورية وأرضها لكي أذكر أنها تستحقّ كلّ قطرة دم من دمائنا، وأنها تستحق كلّ تضحياتنا.
وفاء حسن