ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

معلومات عن مرحلة التأسيس في رسالة من الرفيق فؤاد جرجس حداد إلى الأمين عبد الله قبرصي

مع الصحف التي استلمتها من الرفيق الصديق جوزف مسلم المقيم في كالغري كندا 1 ، مجموعة أوراق من بينها رسالة كان قد وجّهها الرفيق فؤاد جرجس حداد، أحد الرفقاء الخمسة الأوائل، إلى حضرة الأمين عبد الله قبرصي، وفيها معلومات عن البدايات يفيد الاطّلاع عليها.

«أخي…

استلمت رسالتك تاريخ 15 أيلول وكم سررت بما تحويه من محبة صادقة وذكريات قديمة عزيزة. لقد أعدتني ثلاثاً وثلاثين سنة إلى الوراء عندما كنتَ تسكن في منزلنا في شارع جان دارك 2 مع الزعيم المصلح الشهيد أنطون سعاده عام 1933. إني أسمّي سعاده المصلح لأنّ رسالته لم تكن إلا لإصلاح المجتمع السوري الذي تفسّخ وتمزق تحت مطارق الاستعمار أجيالاً طويلة وها اني احمل لك في هذه الرسالة ذكرياتي عن تأسيس الحركة.

إن محبة سعاده لشعبه وبلاده دفعته إلى العودة من البرازيل عام 1929 الاصح: عام 1930 إلى لبنان. لقد كان في البرازيل يؤدي رسالة جليلة الشأن بين المغتربين، فقد كان يحرر مع والده المجاهد الكبير الدكتور خليل سعاده مجلة «المجلة» التي كانت حرباً على الاستعمار بشتى اشكاله ووجوهه ولكنه آل على نفسه ان يترك ساحة المغترب وان يعود إلى ساحة الوطن يناهض بما ملكت يداه، كل القوى من داخلية وخارجية تعطل انطلاق بلاده إلى اجواء الاستقلال والحرية والنهوض.

لقد قصد إلى دمشق عام 1931 ودمشق آنذاك بقيادة الكتلة الوطنية، من الاتاسي إلى الغزى إلى هنانو تتحرك لثورة جديدة بعد ان اخفقت ثورة سلطان باشا عام 1925 1926 في نيل الاستقلال، ولقد حرر صفحة السياسة الخارجية في جريدة «الايام» الدمشقية التي كان يشرف على سياستها المجاهد الوطني آنذاك جميل مردم، ولما رأى انه لا يستطيع ان يؤدي رسالته القومية بين جيل من الوطنيين، عنده للوطنية مفهوم غير مفهومه العلمي، عاد إلى لبنان واخذ يدرّس في الجامعة الاميركية اللغات الاجنبية الالمانية، الروسية، والايطالية 3 .

لقد تعرّفت أنا إلى الاستاذ سعاده في خريف 1931 بعد عودتي من افريقيا حيث كنت اغتربت. لم افلح في تجارتي في تلك البلاد لاني فكرت ببلادي اكثر من التجارة ونصبت نفسي محامياً عن بني قومي ضد مواطني تلك البلاد الذين كانوا يرمونهم بالافتراءات والاهانات. ولما عدت، رحت اعمل مع والدي المرحوم جرجس سمعان الحداد، الذي تذكر اخلاقه الرضية كما اعتقد، في مطعمنا الذي كان يقوم في شارع «بلس» تجاه الجامعة، والذي اندثرت معالمه اليوم بسبب عمليات تجميل بيروت وتوسيع شوارعها. ان مطعمنا كما تعرف كان مطعماً قومياً اجتماعياً. لقد حوّلناه إلى مضافة فمن كان معه مال اخذناه، منه ومن لم يكن معه مال، استضافنا فأضفناه بلا منة ولا تردد.

دخل عليّ سعاده ذات يوم برفقة احد تلامذته من اصدقائي 4 ، وهو ذو لحية سوداء كثيفة وعينين تلمعان بالحياة والنفاذ وابتسامة أخاذة، وبادرني بالقول: سمعت عن طعامكم انه لذيذ جداً فرحبتُ به واجبت: اختبر بنفسك يا استاذ ثم خبّر سواك.. فأكل كبة بالصينية وحمص بالطحينة وسلطة ولما همّ بمغادرة المطعم شكرني على الطعام اللذيذ والنظافة ووعد بالعودة باستمرار وهكذا كان.

ذات يوم اقبل متأخراً لتناول طعام الغذاء. كان سعاده يكتفي من الغذاء بوجبة واحدة لضعف وسائله المادية. جلست إليه اود التعرّف مزيداً إلى شخصيته الجذابة. فقصّ عليّ سبب هجرته ومقامه في دنيا البرازيل الوسيعة ومشاغله وهمومه الوطنية، كما شرح لي اسباب عودته. فتجرأت وقصصت عليه اخباري، لتنشأ بيننا معرفة وصداقة متبادلة. لقد انس مني محبة له واحتراماً فكلفني بان اساعده على استئجار غرفة نظيفة وشَرِحة ورخيصة، فوعدته خيراً. وكان من حسن حظي ان دارنا كانت وسيعة كما تعرفها وطلبت إلى الوالدة اعداد افضل غرفة عندنا لمستأجر نابغة. وهكذا بقي عندنا مدة طويلة ثم انتقل إلى منزل يشبه الكوخ في بساطته في ملك المرحوم جرجس الخوري المقدسي في شارع الصيداني قريباً من منزلنا. ولكن كان تأسيس الحركة القومية الاجتماعية في منزلنا نفسه.

كان سعاده قد بدأ نشاطه بين الطلبة. فكل يوم يأتي بصحبة تلميذ ويختلي به طويلاً. وهكذا دواليك طوال شهر كامل. لقد كانت تأخذ مني الدهشة كل مأخذ من هذا النشاط واطمع باكتشاف سره. ولكني ما لبثتُ ان فاجأني بأنه يؤسس حزباً سرياً اهدافه هي الاهداف التي تتضمنها مبادئ وتعاليم الحركة والتي لم يطرأ عليها اي تعديل منذ التأسيس إلى اليوم كما نعرف جميعاً. كانت روح الشباب المتمردة تهدر في اعماقه، فكان من اسعد ايام حياتي ان اعرف رجلاً من بلادي صمم على انقاذها وتوحيدها بعد تحريرها من السيطرة الاجنبية. دخلتُ الحركة في حماس وايمان. وكان اول اجتماع عقدناه في منزلنا يتألف من تسعة اعضاء كنت أنا تاسعهم. ولقد قامت اختي عفيفة الموجودة في ديترويت مشيغان حالياً بدور الحراسة. اما المؤسسون الاول: فهم جورج عبد المسيح. رجا خولي. بهيج المقدسي، جميل صوايا، فيكتور اسعد واثنان من الاردن وفلسطين لا يحضرني اسمهما 5 ثم دخل نعمة ثابت وفخري معلوف وجبران جريج وموسى سليمان. في اخر العام الدراسية 1932 دعانا سعاده إلى اجتماع وخطب فينا طالباً منا ان نبحث عن العناصر الفتية الصالحة، كي نعدها لدخول الحركة في مطلع العام الدراسية 1932 -1933. والتقينا معاً في خريف 1932 ورحنا نتجادل يا اخي عبد الله: أنا اصيح: تحيا سوريا وانت تصيح: يحيا العرب، إلى ان اقتنعتَ معي 6 وجئت بك إلى سعاده في دار المقدسي اي ما اصطلح على تسميته «الكوخ» وأقسمتَ اليمين وكنتَ اول عميد للاذاعة في مجلس العمد الذي كان يرأسه نعمة ثابت. وها انت اليوم من الشهداء المشردين، جزاك الله خيراً ويجمعك بمحبيك عن قريب.

وجاء صباح يوم 16 تشرين ثاني 1935 بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيس الحركة، فإذا بالشرطة تداهم بيتنا بعد تطويقه بقوة رهيبة، وينقض رجال الامن على غرفة الزعيم ويأخذون ما فيها من اوراق ويسوقونه مكبل بالحديد. فكان انكشاف امر الحزب وسوقنا جميعاً إلى الامن العام والتحقيق والمحاكمات. يا له من خائن ذاك الذي وشى بنا ولا نعرفه حتى اليوم مع الاسف، كان ذلك ليلة عرسك انت كما تذكر. كم ضحكنا ونحن في القيود لهذه المصادفة، عريس في السجن..

لقد بقيتُ أناضل معكم حتى عام 1939. سافرت إلى الولايات المتحدة واُعلنت الحرب وتطوعتُ في الجيش الأميركي عام 1941 وابليت البلاء الحسن في المعارك وها أنا الآن اعيش على ذكرياتي. كل ما اعود إلى هذه الذكريات اشعر بألم وحرقة اني انسحبت عن الساحة لاغترب فيما يتحمل رفقائي، وأنا من اولهم، ادهى المصائب والاوجاع والاضطهاد والحرمان ونكران الجميل من بني قومنا فيما كنا نحن اول من فكر بالحزب العقائدي المنظم في العالم العربي كله.

واسلم اخي ورفيقي الأمين للحق والجهاد

أخوكم فؤاد جرجس حداد».

هوامش:

1 – مراجعة النبذة بعنوان «مهرجانان في بعلبك والهرمل احتفاءً بعودة الرفيق مشهور دندش» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

2 – المنزل في شارع جان دارك ما زال قائماً وكنا قد نشرنا نبذة عنه، مع صور مناسبة. لمن يرغب الاطّلاع الدخول إلى الموقع المذكور آنفاً.

3 – لا معلومات لدينا أنّ سعاده كان يعطي دروساً في اللغات الثلاث، إنما كان يعطي دروساً في الألمانية لمن يرغب من الطلاب في الجامعة الأميركية.

4 – هو عزيز سلوم، مراجعة الصفحة 48 من الجزء الأوّل من مجلّد «من الجعبة» للأمين جبران جريج.

5 – المجموعة الاولى التي انتمت تألفت من: جورج عبد المسيح، جميل عبده صوايا، زهاء الدين حمود أردني ، وديع تلحوق وفؤاد حداد، تبيّن زيف اثنين منهم، هما وديع تلحوق وزهاء الدين حمود. المرجع المذكور آنفاً.

6 – يشرح الأمين عبد الله قبرصي في الجزء الاول من «عبد الله قبرصي يتذكّر» كيف راح يتحاور طويلاً مع الزعيم في موضوع العروبة إلى ان اقتنع منه، فاعتنق العقيدة السورية القومية الاجتماعية، وكان له مع الحزب المشوار النضالي الطويل المعروف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى