من معاني عملية مزارع شبعا
عبد الفتاح نعوم ـ المغرب
كلّ حروب ومشاكل وأزمات منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى والى اليوم كانت ولا تزال بسبب توطين دولة يهودية على الطراز الصهيوني في بلاد المشرق. ولذلك لا يحتاج طالب الحقيقة إلى بذل كبير عناء ليتوصل إلى تلك الخلاصة. فالواضح أنّ الآباء المؤسسين للصهيونية، نجحوا في اختراق مراكز القرار العالمي منذ أن كانت تقودها الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، والى اليوم بعد أن أصبح «محمية أميركية».
نقرأ مما كتبه المفكر الألماني العبقري كارل ماركس عن «المسألة اليهودية»، والتي بلغت مداها في القرن التاسع عشر. كتب يقول أن «المال هو اله اليهود المطاع» وكان يقصد الأسلوب الذي اختطه كبار رجال الاقتصاد الانكليز والصيارفة من ذوي الأصول اليهودية في ترصيد أوراق القوة الاقتصادية، وصرفها في السياسة عبر شراء ذمم الساسة والوزراء، وأثمر ذلك النهج وعداً تاريخياً من بلفور إلى الصهيونية في 1917، وفي مقابله وعود كاذبة لشريف مكة، ووعد تحقق لعبد العزيز بن سعود في الفترة نفسها كما يروي ناصر السعيد.
كل ذلك جاء في حضن التآمر على تركة الرجل المريض – والذي يبدو انه لا يزال مريضاً لكن بالإخوانية هذه المرة، ولا بدّ لعلاجه من توفر بيمارستان فارسي مكتمل، هو الكفيل فقط بعلاجه ولن يعالج في غيره، وعموماً كان إنتاج سايكس ـ بيكو وليداً لتلك التفاعلات ومكرّساً لها. ولم يحتج الأمر وقتاً كبيراً حتى تتمّ تصفية مشروع الثورة العربية الكبرى الساذجة بإعلان قيام مملكة آل سعود سنة 1932، وإعلان قيام دولة «إسرائيل» المزعومة سنة 1948. واتضحت العلاقة بين هاتين الدولتين بشكل كبير حينما قادتا حلفاً رجعياً لتدمير مشروع الوحدة العربية والاستقلال الوطني الذي وصل إلى ذروته مع جمال عبد الناصر.
في هذه الأثناء انتقل احتضان «إسرائيل» من المملكة الهرمة بعد غياب الشمس عنها إلى الولايات المتحدة، وذلك بعد أن تسلمت دفة قيادة العالم الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية. فخاضت الولايات المتحدة جميع الحروب حماية لـ»إسرائيل»، وحماية لمصالحها التي ارتبطت بشكل وثيق بوجود دولة حليفة حدّ التماهي معها، ومتفوّقة عسكرياً ومالياً وسياسياً على كلّ دول المنطقة. وذلك منذ أن انخرطت الولايات فعلياً في التفاعل المباشر مع أحداث الشرق الأوسط أي منذ عقد حلف بغداد إلى غزوها واحتلاها.
كان الاتحاد السوفياتي يسعى إلى تقوية تيار شيوعي وسط الحركة القومية اليهودية في حين كانت بريطانيا تسعى إلى تقوية التيار الديني المتطرف والمعادي للشيوعية، ونجح المسعى البريطاني في الأخير، وأصبحت «إسرائيل» ذخراً إيديولوجياً غربياً وخزاناّ للسلاح وقاعدة عسكرية ومخفراً أمامياً، وقاهراً لمشاريع التحرّر والاستقلال الوطني. ولا غرابة في الربط بين كلّ حروب المنطقة والعالم وبين الحلف الغربي ـ «الإسرائيلي»، وهي الدول الغربية التي استطاعت اوليغارشية المال الصهيونية أن تؤسّس فيها جماعات ضاغطة، فجاء كولن باول إلى سورية مطالبا الدولة السورية بطرد «حماس» من دمشق رافعاً عصا النصر الأميركي في حينه في العراق في وجه الدولة السورية، ولأنّ خيار سورية هو دعم المقاومة رفضت في حينه المطالب الأميركية، وسعت هي وحلفاؤها إلى دعم مقاومة العراق.
لم يخرج الأميركي بنصر بائن من العراق وإنما نصره الوحيد تمثل في تدمير بنية الدولة في العراق، وهو بدوره هزيمة سيدفع فاتورتها غالية في الآتي من عقود. وفي ما بين تلك الفترة والى اليوم، وبصرف النظر عن الدعم المباشر لـ»إسرائيل» في حروبها على لبنان وفلسطين المحتلة، ها هي الولايات المتحدة تخوض اليوم آخر حروبها في المنطقة، والتي عرفت تجديداً مذهلاً في الأسلوب، وفي الزجّ بحلفائها كلهم إلى خط النار، على عكس السابق حينما كانت تأتي هي إلى خط النار.
جرت معركة على سورية منذ نحو أربع سنوات ووصلت إلى شفيرها، وجاءت حرب غزة كي تؤكد الوجه الحقيقي للصراع، صراع عربي ـ «إسرائيلي»، وسعي صهيوني وعرب – رجعي محموم لتصفية القضية العربية الأولى… فلسطين، ولا تصفية لها إلا بتصفية المقاومة.
هنا وصلنا إلى لبّ الموضوع، وهنا ضربت المقاومة اللبنانية بيد من حديد على طاولة المنطقة، فجاءت عملية مزارع شبعا، كي تعرّي ما سعى «الإسرائيلي» إلى إخفائه، وكما يختار «الإسرائيلي» والأميركي التوقيت اختارت المقاومة توقيتها، ونام «الإسرائيلي» مكرهاً على معادلة جديدة، يستقبل الضربات ولا يقوى على الردّ، فخطر تحوّل مدنه ومطاراته ومواقعه العسكرية إلى مرمى للنيران قائم في أيّ وقت، وأيّ تهوّر جديد منه يقضي بالاقتراب من الجيش اللبناني سيكون وبالاً عليه، فما هي رسائل حزب الله إلى لبنان والإقليم والعالم من هذه العملية؟
يريد حزب الله أن يقول لعملاء آل سعود و»إسرائيل» ولصفهم المتهتك ومناوراتهم الفارغة والصبيانية واللالبنانية أنّ حزب الله قادر على صدّ الإرهاب عن لبنان أكثر من قدرة هولاند واوباما على صدّه عن فرنسا وأميركا، وفي الوقت ذاته قادر على خوض المواجهة مع «إسرائيل»، وهو الوحيد في لبنان من يضع الذين يسمّونهم هم «ميليشيات حزب الله» قادر على وضعهم أمام نيران حرب جديدة كُرمى للجيش اللبناني وللبنان. وبالتالي لو كانت حسابات حزب الله مزايدات داخلية لبنانية – لبنانية لما صمدوا بكلّ جوقاتهم أمامه ساعة واحدة، إنْ بالسياسة وإنْ بالعسكرة.
ويريد أن يقول لـ»الإسرائيلي» ومن خلفه كلّ من لا يزال يؤمن بتفوّقه وكلّ حلفائه عبر العالم، أنّ الحزب واع بأنّ المقاومة هي لبّ الموضوع في الحرب الدائرة منذ 2011، وأنّ التضحية بحلفائكم لتدمير دولهم وإضعاف مناعتها على صدّ الإرهاب لتوفير مدى أوسع لتنقل الإرهابيين الذين شعارهم الأساس مقاتلة الشيعة وليس «إسرائيل»، ومن وراء هذا الشعار الكاذب يريدون مقاتلة إيران المتعددة الطوائف وسورية العلمانية والمقاومة اللبنانية، وهؤلاء هم رؤوس حلف داعم للمقاومة ضدّ «إسرائيل» بكلّ مللها ونحلها وليس حلفاً طائفياً، وبالتالي يريد الحزب أن يقول للإقليم وللعالم أنّ الحرب التي أقمتموها على المقاومة من اجل «إسرائيل»، وفشلت وكان الهجوم الدموي الأخير على غزة عنواناً للفشل، هي حرب اليوم مجبرة على وضع أوزارها لإمرار تسويات انتم الخاسر فيها، وما دمتم تناورون كثيراً وتتبرّمون أمام هذا الواقع، فالحرب القادمة ستكون على لبّ الموضوع، وستجبرون على التسوية المؤلمة لكم.
التفّ الغرب من زاوية كبيرة كي يدمّر المقاومة، الطاقة البشرية الوحيدة التي لا تزال تقلق «إسرائيل». وشاغلته المقاومة وحلفها لإنضاج التسويات وأخذ مفاعيل الحركة نحو زوايا لا يريدها الأميركي وحلفه، وها هو اليوم مجبر على دفع الثمن، فمن جاء بهم لقتال المقاومة سيؤذونه لا محالة، وحلف المقاومة يحتفظ بالقدر الأكبر من قواته لقتال العدو الحقيقي، والعدو الحقيقي أجبن من أن يردّ على صفعة مزارع شبعا، إنها لمعادلة تستحق فعلاً تحية عربية إلى من صنعها بذكاء من ينسج السجاد، تحية إلى لمقاومة اللبنانية بعيداً من كلّ الجمود الأكاديمي والتصنع الإعلامي.