ديوان «أنثى أنا» للورين رسلان القادري… استفزاز بدءاً من العنوان!

د. طوني مطر

«أنثى أنا»، ديوان للشاعرة اللبنانية لورين رسلان القادري صادر عن «دار الفارابي» ـ 2017. عنوان الديوان مستفزّ مثير للجدل تقدّم فيه الخبر على المبتدأ وذلك لأهمية الخبر. فالأنوثة الصارخة من قصائد الديوان تمثل هذه «الأنا» التي هي أنا كلّ امرأة… كلّ أنثى.

غلاف الديوان لوحة للفنان الشاب ميلاد حرب رسمها بالفحم والحبر الصيني على خلفية بيضاء تمثّل امراة تقف وقفة ثابتة على رؤوس أصابعها، يتطاير شعرها الحرّ وترفع يدها نحو السماء أبيّة جريئة حرّة متفلّتة.

الإهداء للأمّ والأب والزوج معاً، كلٌّ منهم أبدع في المساهمة بشعرها… بحرفٍ أو بآخر.

مقدّمة الديوان وضعها الشاعر الأردنيّ سعيد يعقوب ملقياً نظرة شاملة على الشعر والشعراء اللبنانيين، واصلاً إلى ما يميّز شعر لورين من لغة سليمة وغنى في المفردات، ملقّباً إيّاها بـ«شاعرة الأرز»، وأرى أنها تستحقّ اللقب عن جدارة. وقد شكرت لورين الشاعر الأردنيّ بقصيدة رويّها السين المكسورة ولم تكتفِ بكلمة شكر عادية.

في مستهلّ الديوان تصافحك قصيدة «أنثى أنا»، والتي استمدّت عنوان الديوان منها: خمسٌ وعشرون بيتاً برويّ الميم المكسورة وقفت فيها الشاعرة تواجه الرجل بجرأة وتحدٍّ، تعاتبه وتحاسبه وتُظهر بشكلٍ أو بآخر مكانته لديها، وماهيّته بالنسبة إليها:

لا تعتقد يوماً أنك سيدي

بل أنت لي شيطان شعري ملهمي

يا آدم دنيا الرجال صغيرةٌ

إني إلى دنيا النساء لأنتمي

ما ألمح إلى قوّتها رغم حبّها الشديد له وشغفها به الظاهر من بين ثنايا الحروف وإن كابرت.

ثمّ تطالعك القصيدة الثانية «حوار»، وهي حوار شعري شاعري يتّسم بالعذوبة والعذاب بسبب البعد الواقع بينهما. تنساب عذوبة العتاب رغم الهجر والابتعاد بمفردات في منتهى الرهافة والرقة، رويّها الفاء المكسورة:

قل لي: أحبك برهةً ثم اختفِ

قسماً بربي في علاه سأكتفي

إلى

يا لهفتي! ولقد ظننتك ناسياً

ولقد علمتَ أن بُعدك مُتلفي

يا نصفَ عمرٍ في الطريق أضعته

توّاً… فهبْ لي من ربيعك معطفي

حتى نهاية القصيدة الفائية العذبة. وقد أكثرت في استخدام المفردات: الماء، النار، الرمل، الغناء، الزهر، والعصفور. ما رسم ملامح شعرها الرومنسي.

وتصل عرش بلقيس الذي تنقلك إليه قبل أن يرتدّ إليك طرفك فتلمح امرأة ملكة أبية عظيمة:

عندي من الأشياءِ

أشياءٌ كثيرهْ

قد راودتني عن هدوئي

أيقظت في داخلي الثورات والنعرات ِ

حطّمتِ الوتيرة

فتبعثرت فيّ الحرائق

والدقائق

والمشانق

والجراحات المريرة

ماذا أقول ؟

وذا الضجيج بداخلي

يدعو إلى إسقاط النظام

والحرف يهرب من أمامي

للأمام

وبيني وبينك الكثير والكثير

وحفنة من المتناقضات الرقيقة

تتراوح فيها العاطفة

بين أخذ وردّ وجزر ومدّ.

لأنت على قاب روح وأدنى

وشوقي لعينك لا لا يُحدّ!

إلى نهايتها:

فقل لي بربّك كيف التنائي

وأنت القضاء الذي لا يُردّ؟

ولولاك ما كنت أهمي بشعرٍ

ولولاك ما كان برقٌ ورعد!

وتأتيك «الدنيا» قصيدة فيها نظرة تأملية تقف فيها الشاعرة على شاطئ الحياة وتلقي بما يشبه الحكم أو المأثورات غنيّة بالموسيقى الداخلية المتأتية من تكرار بعض الحروف ومن الجناس، فضلاً على الرويّ والقافية والوزن الخليليّ. أما المفردات فتنمّ عن مهارة في استخدامها في مكانها المناسب.

مثل:

وإن دارت وجارت لا تبالي

وتطحن عمره طحناً وئيدا

وتغرينا فتمطرنا بأنسٍ

وتَظهر للملا خِلّاً ودودا

وترمينا بقاع اللحد عظماً

ينازع عتمةً فيه ودودا

هي الدنيا بها شوقٌ وتوقٌ

وإغراءٌ وإغواءٌ أُريدا

فكم أغرت وكم أغوت وسادت

وكم أفنت رعاديد وصِيدا

ثم يأزف الرحيل بعد كلّ هذا الكمّ من الحبّ والشوق والعاطفة العارمة. الرحيل الذي هو نهاية طبيعية اتهم هو فيها بالقتل

يا قاتلي

لا لا تخف

أطلق على رأسي الرصاص

فاليوم قد جاز القصاص

ثمّ ارثني بقصيدةٍ غزليةٍ عمق السنين

ها إنني قد متُّ توّاً

في ضمير الشعر والغزل الحزين

وازرع على قبري زهور قرنفلٍ

إن لم تجد فازرع زهور الياسمين

وتخلص في المقطع الأخير إلى:

ما عدتَ لي سقفي المتينَ ولا سكن

ما عادت الدنيا لتغريني

وما عادت سماؤك لي سماء

ثمّ نسمع طقطقة نعال راقصة غجرية، على تفعيلة متفاعلن أو مستفعلن وهي لراقصة مستوحاة من رواية الفرنسيّ بروسبير ميريميه كارمن أو كارمنيسا، وهي امرأة غجرية تعشق الحبّ والرقص. والمفردات التي وظّفتها من دون تكلّف لوصف الراقصة تشبه البطلة السمراء ووقع خطواتها:

دقّي طقطقي طيري حلّقي

حنطة سمراء معجونة بالتمر

مجبولة بالخمر

جنّية تمشي على رمض وجمر

قصيدة بنكهة مختلفة هي مسك ما قبل الختام: «إلى أمي خلف الشريط الشائك»، تظهر فيها المعاناة أثناء الاحتلال «الإسرائيليّ» الذي كان يحول بينها وبين أمّها وذويها، تذكر فيها المعبر والتصريح وشوقها للضيعة بكل تفاصيلها الدقيقة وقبر والدها الشهيد تستهلّها بـ:

صباح الخير يا أمّي

وتنهيها بـ:

سيأتي النور يا أمّي

وشمس الليل قد تظهر.

الرويّ الراء الساكنة التي تفشي الألم الساكن فيها عتبٌ رقيقٌ تختتم به الشاعرة ديوانها: «فوا عتبي!».

أربعة مقاطع ترشح شعراً ومشاعر وتلد زهراً وعطراً وفجراً وأقماراً وشمساً وبحراً ولؤلؤاً، إضافة إلى البحر والأثير والجليد والبخور حيث تزدحم المفردات الرقيقة الثرّة بعناصر الطبيعة التي تنساب على أنغام مفاعيلن.

ديوان «أنثى أنا» يعبق بالأنوثة المسحوقة حبّاً المترفّعة إباء. قصائد محبوكة بمهارة، بأوزان متطابقة مع الموضوعات، وبلغة لافتة وألفاظ استحقّت مكانها ومكانتها.

لورين رسلان القادري… شاعرة تستحق اسمها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى