«الجاسوسة» لباولو كويلو بين قوة التمييز النظرية وانعدام الخيال
نسرين بلّوط
لدى قراءة رواية «الجاسوسة» لباولو كويلو، التي صدرت عام 2016، نستعيد في أذهاننا رواية فيكتور هوغو «مذكّرات محكوم عليه بالإعدام»، بمحاولته الحثيثة على أن يسبر سيكولوجيا النفس البشرية عندما تسلّم للموت مرغمة، بتقلّباتها العاصفة الثائرة حيناً، والمستسلمة اللائذة بصمت القدر حيناً آخر. والعمامة السوداء التي تتلفّع بها تلك النفس، التي تجنح للأمل في أن يصدر عنها العفو مرّات ومرّات، وتفلت من القدر المحتوم البائس، إنّما.. بلا جدوى.
كويلو تناول سيرة شخصية حقيقية، وهي مارغريتا جيرترويدا التي اشتهرت في ما بعد بِاسم «ماتا هاري»، واتُّهمت بالجاسوسية، ودعم ذلك إفراطها في تدليل نفسها والتمرّغ في عالم المال والتصرّف بعشوائية. وقد حاول أن يُبرز في مفاصل مهمة من حياتها براءتها ممّا نسب إليها، ويعيدنا إلى طفولتها البائسة، وزواجها المرير، وضياعها المزري في ما بعد.
تدور أحداث «الجاسوسة» بين هولندا حيث وُلدت ماتا، وإندونيسا، حيث انتقلت بعد زواجها، ومن بعدها باريس عندما هربت إليها، لتترك وراءها طفلة صغيرة وزوجاً مازوشياً، وتمتهن الرقص العاري وتدخل إلى عالم الثراء الواسع. وقد وُجّهت إليها بعد سنوات أمضتها في العمل وجمع المال وتبذيره، تهمة العمالة المزدوجة للألمان والفرنسيين على حدّ سواء.
في مذكراتها، تقرُّ ماتا، بأنّها لم تملك الموهبة التي تخوّلها للشهرة ولكن الصدف والحظ لعبا دوراً هائلاً في مسيرتها.
في سياق الرواية، يركّز الراوي على قوّة التمييز النظرية التي تحتدم حولها الأحداث، حيث يُبرز الشخصية كما هي، بانحسارها وامتدادها في مجرى الحبكة، ثمّ يتوغّل في كيفية التمعّن الذي تمارسه البطلة في محاولاتها التبديل والتغيير والتحريف من واقعها المرير، في سجنٍ بائس حقير، بعد أن اعتادت حياة الترف. الضعف الواضح في تلك الفجوات المثقلة بـ«الأنا»، التي يحاول الكاتب فيها أن يخلق عالم ازدواج بين قصة «ماتا» الحقيقية وما يتخيّله بنفسه، فتخلو العبارات من الكثير من العاطفة التي يحتاجها أيّ نصّ روائيّ، حتى يأخذ أبعاده ويتولّى نقلنا إلى تلك الحقبة من الزمن.
النقد هو تفكير وتمييز، وعندما نريد أن نفكر في ما صبا إليه الكاتب، نرى أنّه أراد أن يوثّق حياة ماتا بأسلوبه هو، وبما يؤمن به من حقيقة براءتها التي ما زال اللغط دائراً حولها، وكأنه ينصب نفسه حارساً لذكرياتها وداعماً لها. أما عندما نميّز في التسلسل الميلودرامي، فيطالعنا نوعٌ من الروتين الضائع في أمكنةٍ يفترض أن تكون شيّقة في تلك الرواية. والروحانية النافذة، والقدرة البصرية المؤثرة، اللتان تطلان علينا من خلال السرد المرضي في الرواية، تعرّفان بملامح باولو كويلو الأدبية التي اعتدنا عليها من خلال رواياته الأخرى، إلا أنّ بحثه الدؤوب عن تطهير وتبرئة البطلة ماتا أضعف من التوهّج التعبيري لقصتها.
الشظايا التعبيرية مكثّفة وتصيب بيت القصيد في رواية «الجاسوسة»، لتكون نقطة عبور لقلب القارئ، تغطي قليلاً من النقص الخيالي الموجود في فضائها.
مثلاً عندما يقول الكاتب عن لسان بطلته: «في هذه اللحظة، أستحضرُ حياتي الماضية، وأدركُ أنَّ الذاكرة نهرٌ، نهرٌ يجري إلى الوراء على الدوام». ولحظة الموت يصفها بشكلٍ تراجيدي حاسم، لعلّه العاطفة الوحيدة التي تأججت حماها في تلك الرواية حيث يقول: «بقيت ماتا هاري منتصبة لهنيهة. هي لم تمت الميتة التي تراها في الأفلام بعد إرداء الناس. هي لم تهو إلى أمام أو خلف، ولم ترمِ ذراعيها في الهواء، أو تحدّ جبينها بهما. بدت وكأنّها تنهار، مرفوعة الهامة أبداً، وعيناها لا تزالان مفتوحتين. عندها، أغمي على أحد الجنود».
باولو كويلو، بإغداقه بعضاً من معالم قلمه في رواية «الجاسوسة»، لم ينجح بأن يسوقها إلى معبر التشويق والتعبير الدامغ، كما نجح فكتور هوغو في روايته عن سجينه المسيّر إلى حتفه، ولم يتخطّ عتبة التجديد في التنسيق التجريدي لمجرى الأحداث وحبكتها وتأسيسها الداخلي، مع التشبّث بفكرة واضحة طوال مسيرة الرواية، وهي حماية بطلته التي أعدمت ظلماً في نظره.
شاعرة وروائية لبنانية