«الرصاصة الصديقة»… أصابت عنصر التشويق لتُظهر الحقيقة!

طلال مرتضى

كثيراً ما ينحاز محور الحكاية إلى «أنا» الكاتب، رغم كلّ محاولات التخفّف من إثمها أو التحرّر منها كـ«ذات»، وهذا ما ينادي به معشر النقّاد من على سدّة التنظير، تحت سقف توخّي الحيادية أو الوقوف على تخوم الحكاية كشاهد أو شرطيّ افتراضيّ ينظّم سير خطوطها.

لكنه عبثها المستديم، فالكاتب يضخّ السطور بالمعنى المجازي من مداد روحه، وهنا تعود «الأنا» لتتجلّى في تفاصيل الخيوط من جديد، لا سيما أنها تختبر وجودها من دون التفاف وراء إصبع المواراة ـ أي «الأنا» ـ في توسّل لتحقيق أناها واختبارها بما يشبه مغامرة سرديةً مفتوحةً في مدوّنات السيرة الذاتية والتي عرفها تاريخ العالم الأدبي كما تاريخنا الأدبي مع فارق السياق والثقافة المجتمعية.

وكي لا يبقى منوال المقال تنظيراً، لا بدّ من المقارنة والوقوف على المتشابهات من الدوالّ والإسقاطات التي تراكمت على شكل خطّ سيري سرديّ محمول على تلك الفوارق. حضور «أنا» الكاتب ودأبه لتوخي الحيادية الوصفية على الأقل، والتي تناولها منجز الروائية اللبنانية سونيا بوماد «الرصاصة الصديقة» الصادر عن «دار بيت الياسمين للطباعة والنشر والتوزيع» ـ القاهرة.

تلك الفوارق على أهميتها لم تحول دون قراءة المنجز أعلاه كمادة محمولة على متن السيرة الذاتية مدوّنة واقعية ، لا سيما في تجلياتها الجمالية والفكرية بصرف النظر عن قراءة نفسية هنا أو هناك انطلاقاً من نظرية المعرفة ذاتها، والتي تحيلنا إلى رؤية «حضور الواقعة» كمنجز بوصفها سردية متحققة، وسؤالاً دائماً فرض على الأدب خيارات قراءة أوسع ممّا نظنّ وأكثر عمقاً ممّا يعتقده قارئ عابر.

انطلاقاً من أنّ بوماد اتخذت من قصّة لجوئها إلى أوروبا مفتاحاً يفكّ كلّ مضمرات القصّة من ألِفِها إلى يائها، وجب التنويه إلى أنّ قصص التدوين قلّما تأتي معطياتها جافة متوخية الحالة الإبداعية والتي نحملها كقارئين من خارج الحكاية على عاملين مهمين في بناء المرويات أو المدوّنات السيرية وهما: الوصف، وهنا تتجلّى قدرة الكاتب على مفارقة نصّه بالحالة الموصوفة، بتحويلها من نصّ كتابي إلى نصّ رائي يعاينه القارئ من خلال مقارعة النصّ، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معظم النصوص التي تعتلي أوج وسدرة التوصيفات المرئية كثيراً ما تُحمل فنياً، أي تجد طريقها نحو «الميديا» من دون عناء، وهو ما نعاينه كلّ يوم في المسلسلات أو الأفلام.

أما الشقّ الثاني فهو عامل السرد. فالرواية أو المدوّنة لا يكفي أن تكتمل علائقها بوجود القصّة ـ أي الحدث الروائيّ ـ أو مَلَكة اللغة عند الكاتب. بل تحتاج إلى رجل ثالثة كي تقف على طولها وتسمو، وتلك القائمة هي قائمة السرد الغاوي والتي ترفع بالتأكيد من الحالة التشويقية لدى القارئ. وهنا تتدخّل أيضاً أصابع الكاتب لتدسّ سمن الغواية من خلال الحبكات التي تتوارد بحسب ذوبان جليد الحدث بين نار السرد وماء اللغة.

وكونها تعريفياً، أي السيرة، ومن ملامسة مجالها الحيوي والذي نحا نحو استبطان تاريخ بعينه مكوّن من جملة أحداث متصلةٌ ومنفصلةٌ، تذهب بنا وفي كثير من الأحيان إلى ما هو غير مألوف على الإطلاق، ليبقى افتراضاً أسير تأويلنا الثقافي بمقدار انفتاحه على عوالم غاية في الدهشة والتجلي والانكشاف معاً. وهنا أستطيع القول إنّ بوماد اقتربت نوعاً ما إلى ما هو أقرب إلى النوعي وليس المختلف عندما كانت تقتنص لحظات وصفية خاصة، كالعودة إلى الروح في آن، وفي آن تالية حينما حاولت تغليف ما ألمّ بها من وجع في محيطها الجغرافي الذي يستمدّ حضوره من الطبيعة النمسوية التي قلّ مثيلها في بلدان أخرى.

وكونها أرادت من نقل يوميات مرويتها، قول الحقيقة من دون لبس، فقدت عنصراً هامّاً رغماً عنها من عناصر قيامة الرواية وهو التشويق السردي، وهو ما عوّضته في مروياتها الأخريات، وبالطبع لم يكن هذا عيباً أدبياً أو قلّة خبرة في بنيان المدوّنات. إنما هي حالة التضارب بين حالتَي الحلم والواقع، فالحلم هو محمل على فتنة الخيال والمتخيل، وهو ما يفتح للكاتب فضاءات وصفية شائقة، لكن الواقع بعيد عن ذلك تماماً، وهو ما يحتّم على كاتب اليوميات تدوينها بشفافية وصدق، كما حدث معها عندما تعرّضت صغيرتها لـ«رصاصة صديق» في رأسها في بيروت إبان حرب تموز 2006 بعد وقف إطلاق النار، وهنا الفارق.

سونيا بوماد روائية لبنانية مغتربة في النمسا، صدرت لها الروايات التالية: «الرصاصة الصديقة»، «كايا»، «أنا الآخر»، «لاجئة إلى الحرّية»، و«التفاحة الأخيرة». والآن «الرصاصة الصديقة» ستصدر باللغة الألمانية.

كاتب وناقد سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى