التسويّة المقبولة يشرّعها لبنانيون منتخبون… وحدهم
د. عصام نعمان
جهات متعدّدة، فرنسيّة ومصريّة وإيرانيّة ولبنانية، وفّرت للرئيس سعد الحريري مخرجاً من أزمة استقالته الملغومة في الرياض. عنوان المخرج التريّث في تقديم الاستقالة والاحتفاظ بها لمزيد من التّشاور في أسبابها وخلفياتها السياسية. السبيل إلى ذلك حوارٌ مسؤول يجدّد التّمسك باتفاق الطّائف ومنطلقات الوفاق الوطني ويعالج المسائل الخلافيّة وانعكاساتها على علاقات لبنان مع الأشقاء العرب.
بهذه الكلمات لخّص الحريري بتصريحه في القصر الجمهوري أبعاد المخرج المذكور غداةَ عودته إلى بيروت بعد غيابه، بل احتجازه، في الرياض نحو أسبوعين. من كلمات التّصريح ومما رشح من مداولات الرؤساء والنّواب والسياسيين المعنيين يمكن استخلاص المعاني والمواقف الآتية:
ـ لم يتراجع الحريري عن أسباب استقالته، الأمر الذي أبقاها معلّقة، فأراح بذلك المسؤولين السعوديين الذين كانوا وراءها.
ـ التريّث في تقديم الاستقالة نفّس الاحتقان والتوتر اللذين نتجا عن إعلانها خارج لبنان، وحصّن الاستقرار الذي يحتاجه لبنان واللبنانيون في هذه الظروف الإقليميّة العصيبة.
ـ التريّث في تقديم الاستقالة من دون ربطه بمهلة زمنيّة يتيح للحريري إعادة ترتيب أولوياته وأوراقه واصطفاف حلفائه لمجابهة استحقاقات المرحلة المقبلة، كما يتيح للمسؤولين جميعاً الوقت الكافي لمباشرة مشاورات واسعة ومعمّقة.
ـ لأنّ حكومة الحريري ما زالت، نتيجةَ التريّث، قائمة فإنّ بإمكانها أن تكون فاعلة، خصوصاً أنّ استحقاق الانتخابات النيابيّة مطلعَ شهر أيار/ مايو المقبل يتطلّب الكثير من الإجراءات السياسيّة والإداريّة واللوجستيّة اللازمة.
ـ ليس في المناخ السياسي العام ما يشير إلى أنّ الرؤساء الثلاثة، ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري، توافقوا على تتويج المشاورات الموعودة بالدعوة إلى طاولة حوار وطني لإقرار تسويّة سياسيّة جديدة تحلّ محلّ اتفاق الطائف الذي ما انفكّ معظم الأطراف والجماعات يعلن، صادقاً أو مراوغاً، تمسّكه به ما يعني أنّ بإمكان الحريري وحكومته الاستمرار في ممارسة السلطة للإشراف على الانتخابات المقبلة.
لعلّ هذا الاستنتاج أهمّ دواعي الحريري للتريّث في تقديم استقالته، وبالتالي لتمديد مهلة التريّث بغيّة تمكين حكومته من الإشراف على إجراء الانتخابات في موعدها أو في أيّ موعد آخر يقرّب تاريخ إجرائها. إلى ذلك، يشير احتمال تقريب موعد الانتخابات إلى معنى بالغ الأهميّة هو استبعاد طبخ تسوية سياسيّة مسلوقة بين أطراف الشبكة السياسيّة الحاكمة بمعزل عن سائر أطراف المشهد السياسي، وذلك تفادياً لزعزعة الاستقرار.
الحقيقة أنّ إمكانيّة توصّل المسؤولين، داخل السلطة وخارجها، إلى توافق على تسوية مقبولة صعب أصلاً إنْ لم يكن مستحيلاً. فالحريري ومَن يذهب مذهبه في تفسير سياسة «النأي بالنفس»، كما يريدها أصدقاؤه السعوديون، لن يتمكّنوا من إقناع الفريق المؤيد للمقاومة وأطراف محورها من سوريين وفلسطينيين وعراقيين وإيرانيين بقبول سحب مقاتلي حزب الله من سورية، أو بتعطيل حصول الحزب على السلاح والعتاد من إيران أو غيرها عبر العراق وسورية، أو التسليم بوقف دعم الحزب للمقاومة الفلسطينيّة والمقاومة اليمنيّة المناهضة للسعودية، أو بوضع قيود سياسيّة وإعلاميّة على حزب الله أو غيره من القوى الوطنيّة المناهضة لسياسة الولايات المتحدة و«إسرائيل» بدعوى «عدم التّدخل في شؤون الدول العربية».
إلى ذلك، لا يجوز أساساً السماح لمسؤولين وسياسيين انتهت صلاحيّة بعضهم ويفتقد بعضهم الآخر أيّ صفةٍ تمثيليّة وحيثيّة وطنيّة بأن ينوبوا عن الشعب بكلّ تياراته وهيئاته ونقاباته وقواه الحيّة في صوغ تسوية مسلوقة أو منقوصة أو فاجرة في أغراضها المصلحية، وفرضها مساراً لتوجيه البلاد وجهةً لا تؤمّن حقوق الأكثريّة الساحقة من اللبنانيين ولا تحمي مصالحهم الحيوية.
اللبنانيون وحدهم هم أصحاب الحق والسلطة والشرعيّة الوطنيّة والتمثيليّة ليصنعوا التسويات التاريخيّة والاتفاقات الميثاقيّة التي تؤمّن استقراراً مديداً وخروجاً آمناً متدرّجاً من الأزمة المزمنة التي يعانيها لبنان منذ استقلاله السياسي المنقوص العام 1943. كيف؟
بانتخابات حرة ونزيهة. صحيح أنّ قانون الانتخاب الذي جرى إقراره قبل ستة أشهر يشوبه الكثير من العلل والثّغرات، إلاّ أنه يتميّز بتدبير إصلاحي جذري هو تجاوزه نظام الانتخاب الأكثري اللاديمقراطي الساري مند نحو 95 عاماً، واعتماده نظام النسبيّة والصوت التفضيلي، فاتحاً بذلك الباب أمام الشباب والمرأة وقياديي القوى التقدّميّة والتحرّريّة لانتخابهم أعضاء في مجلس النواب.
النّواب الفائزون في انتخابات حرة ونزيهة في المستقبل المنظور هم وحدهم الممثلون الشرعيون المخوّلون اجتراح تسوية تاريخيّة مقبولة تكفل الانتقال بلبنان من النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد إلى رحاب الدولة المدنيّة الديمقراطيّة المبنيّة على أسس الحريّة والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية.
وزير سابق