أبناء الحياة لا ينتهون بمأتم.. بل هم «أمل لا يموت»
اعتدال صادق شومان
بحزن عظيم، شاهداً وراثياً.. وقف طارق سامي الخوري في مصابه الجلل يخاطب الأب والمناضل والرفيق والأمين، في يوم تأبينه، فللموت كأس مرة ويد تضرب وتصدع دواخلنا ولكنك: أبي، علّمتنا ترك الأسى ولو أنهالت علينا السماء، فالموت حق والحياة واجب، وإن كنا لا نصدّق من رحيلك شيئاً، رغماً من سنواتك العتية إلا أنها لا تواسي جلّ حزننا عليك. وفي النفس، ليتك تريّثت في رحيلك، ولم تغادر على عجل!
أبي.. نبع فيض، أنت، مقدس في كل ثناياك، يقول طارق.. الإبن ورجل الأعمال والنائب في مجلس النواب الأردني ورئيس نادي الوحدات، وقد قيل «على أعراقها تجري الرياح» و»الإبن سرّ أبيه»، ومن شابه أبَاهُ فما ظَلَم.
فرثى الإبن والده بما يشبه رثاء الشعراء لأحبتهم: أبي، عظيم شأنك وارفة أخلاقك، نبيلة، معك أشعرتنا بالشجاعة والهيبة وكنت السور لأمان ودفء كل وجودنا…
وإذ اختنق الكلام، وغصّ الصوت، وفاض الحزن عميقاً على أبي طارق، وعبثاً طارق يداري انشطار الصوت، وزحام الدمع في المقلتين، فبكى دمعة، مرّة، ومرتين، على مًن كان له عماد جليل، وانصدع برحيله. غير أن الرحيل لا يغلق أبواب وجود، ولن تتوارى إقامة في عيون أحبّة، كان قدوة لهم، وحلماً آمنوا به.
وإن اجتمعوا في حفل تأبينه انما ليشهدوا على حياة لا على موت، حياة المبادئ، والقيم، التي عاشها قناعة وجسّدها مواقف، حفظها له رفقاؤه في الحزب، كما ساحات النضال على وسع الوطن، فحضرت سيرته ومسيرته، المشعة بقضيته، سوريا قومياً اجتماعياً، وإن مضى، نعاه الحزب بوجلٍ، إلى الامة وعموم السوريين القوميين الاجتماعيين في الوطن وعبر الحدود كرمزٍ من رموز مقاومة القوميين الاجتماعيين من أجل فلسطين.
وأما تلك البقعة المقدسة، وهي عنده من القلب نبضه، ومن العمر جلّه، وفي الصوت هي أغنية شمسها لا تغيب، أودعته في يوم رحيله، حفنة من أشواقها الحارة، حملها له من القدس نيافة العطالله حنا، من أقصاها برد وسلام، وميرون مجد من ترياق قيامتها، من عبق بخورها، من خوابيها، من شوارعها العتيقة مزهريّة من الناس الناطرين، ومن ملء بحرها ملح، ومن ترابها كمشة كفّ، ومن الصاعدين إلى السماء أبطال وشهداء تحية عزم ودم مرهف.
وكلاهما الشهداء والفقيد على موعد. يتدثّرون ثرى أرضها المقدسة في امتداها الطبيعي لهضبة وضفاف نهر يفيض بفيضهم إن غضبوا.
بالامس القريب مرت ذكرى رحيل الأمين سامي خوري، فأقيم في المناسبة حفل تأبيني حاشد في قصر الثقافة في العاصمة الأردنية عمان، بدعوة من عائلة الفقيد ولجنة «تأبين الفدائي القومي» وقد افتتح الاحتفال بالسلام الملكي الأردني، وثم نشيد الحزب السوري القومي الاجتماعي «سوريا لك السلام» ودقيقة صمت عن روح الشهداء.
استهلّ البرنامج بشريط مصور عن محطات من حياة الراحل وتاريخه النضالي الى جانب شهادات من اصدقاء ومناضلين.
قدّم الخطباء الدكتور ركان محمود، وقد توالى على الكلام الدكتور يوسف كفروني باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي، الدكتور عزمي منصور، الدكتورة حياة الحويك عطية، المطران عطالله حنا، فرح الصايغ، الدكتور محمد القسوس، المحامي جواد يونس، وباسم العائلة النائب طارق خوري.
حضر التأبين رئيس مجلس النواب الأردني المهندس عاطف الطراونة، والعديد من النواب والشخصيات السياسية والحزبية الأردنية، إضافة إلى مسؤولي الحزب في الأردن.
كفروني: ملتزمون خطَّ المقاومة ضد الاستعمار والصهيونية وهذا الخطّ يزداد قوة وسينتصر
مطران القدس عطالله حنا: نحن أصحاب قضية عادلة والحق سيعود مهما كثر المتآمرون
حياة الحويك عطية: اجتماعنا لتأبين المناضل خوري شهادة لحياة المبادئ والعقيدة
عزمي منصور: رأس الرفيق خوري مطلوب على قائمة التصفيات
النائب طارق خوري: امتحنتْك الشدائدُ فما هانت عزيمتُك ولا اهتزّ إيمانُك
كلمة الحزب
وافتتح التأبين بكلمة الحزب السوري القومي الاجتماعي التي ألقاها الأمين يوسف كفروني متحدثاً عن الأمين الراحل ومزاياه وقيمه ونضاله، فقال: الموت حقيقة وقاسية ومرة، لكنها شهادة حية على مَن رحَل، وكيف رحَل، كثيرون يناضلون وكثيرون يبدّلون ويتبدّلون في مسيرة حياتهم، وسامي خوري منذ اختار درب المقاومة والنضال هو كما هو، لم يتبدّل ولم يتغيّر، بل كانت الإرادة تزيد عزيمة وصلابة ووعياً وعزماً في المواجهة، لذلك يعطيه الموت شهادة افتخار وكبر، لأنه ظفر بالموت من أجل قضية، الذي نفتخر به ونعتزّ بمسيرته منارة لكل مناضل ومقاوم في هذه الأمة.
الموت حقيقة قاسية، ومنها جاءت فلسفات ما وراء الوجود ومنها جاءت مواقف الجماعات الإنسانية، منهم خاف خوفاً مرضياً من الموت، فقبل الحياة مهما كانت نوعيتها وقبل بالعيش الذليل، وبعضهم، وسامي من هذا البعض، يعتبر ان الحياة لا تكون الا بالحرية والكرامة ووقفات العز، لذلك كان يردّد مع المعلم قائلا «ما كنا نحسب قيمة لجسد يفنى، لأننا نعمل لانتصار القيم، قيم الحق والخير والجمال». وهذا ما ينطبق مع قول السيد المسيح «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، بل من الذين يقتلون النفس والجسد معاً». فنحن نعتبر أن الموت ليس إلا حق لكل البشر. ومن هنا ايماننا ان الحياة كلّها، ليس نصفها، وقفات عز. وقفات عز في ميادين الحياة كلها، وهكذا وقفها الأمين سامي خوري،
واعتقدنا أن الفلسفة الحقيقية هي التي تبحث في شؤون الوجود. نحن نحيا في وجود ويجب أن نتشارك في حلّ مشاكله. فكل الجماعات الإنسانية مهما كان دينها ومهما كان أصلها، تعيش في مجتمع واحد لها مصالح واحدة تجمعها، إن القول بمصالح إتنية ومصالح أقليات ومصالح مذاهب، كلها هذه أوهام لا تقوم على حقيقة علمية. المجتمع هو وحدة اجتماعية متكاملة. ومنها ننطلق، فنقول إننا أمة واحدة وشعب واحد، ليس لأننا ندين بدين واحد ومذهب واحد، وليس لأننا من أصل واحد، بل لأننا نشترك جميعاً في حياة واحدة.
وهذا هو المخرج الحقيقي للنزاعات والصدامات كلها.
أمتنا اليوم، وأمم العالم العربي كله تعيش صدامات مدمّرة قاتلة تُعيدنا عشرات القرون إلى الوراء، ونحن نحيا بعصر تتكالب فيه الأمم علينا، وقد تكالبت منذ أكثر من مئة عام ومزّقتها في اتفاقية سايكس بيكو، وحربها معلنة باردة وحامية لن تهدأ أبداً. وتتقاتل جماعاتنا بجهلها وغبائها تتقاتل وتتصادم خدمة لمشاريع أجنبية، خدمة للعدو الصهيوني، الذي وجوده يخالف الوجود الاجتماعي الإنساني، وهو موجود فقط كعامل تفتيت في المنطقة وعامل مولّد ومفجّر العصبيات المذهبية والدينية والعرقية.
مَن يقبل من دول العالم المتحضّر أن تكون دولته، دولة دينية؟ فالدولة الصهيونية، الدولة الوحيدة في العالم التي لا دستور لها والتي تخالف كل القوانين الإنسانية مجتمعة،
إذا كان الراحل قد ذكر في آخر كلماته القدس لنا، فهذا يعني أن نفتكر جيداً برمزية القدس. فالقدس هي بوصلة الإيمان، وبوصلة السياسة. هي في المسيحية انطلاقة الإنسان من الفكر المنغلق على ذاته، الفكر العنصري الذي يحارب جميع الأمم والشعوب ويعتبر نفسه متفوقاً عليهم ويدعو إلى استعبادهم، وإبادتهم. أعني به الفكر التوراتي التلمودي اليهودي الصهيوني، فجاء الفكر المسيحي نقيضاً لهذا الطرح واعتبر الإنسان هو القيمة الأساسية في الحياة ودعا إلى إزالة الحواجز بين مختلف الشعوب وإلى الإنسانية والتسامح والإخلاص وإلى المحبة، المنفتحة إلى العالم كله.
أما نحن فنقول بالأخوة القومية القائمة على وحدة المجتمع، مجتمعنا مجتمع واحد وجرى تقسيمه.
ونحن ملتزمون بخط المقاومة ضد مشيئة الاستعمار وضد مشيئة الصهيونية، وهذا الخط يزداد قوة وسينتصر.
وأتذكّر هنا المحاكمات عبر التاريخ التي حاكمت المقاومين بادعاءات باطلة ومحاكم صورية. هذه المحاكم عبر التاريخ حاكمت سقراط وحكمت عليه بالموت. هذه المحاكم حكمت على يسوع بالصلب وصلبته كمجرم بين لصَّيْن. هذه المحاكم حكمت على جان دارك بالحَرْق وحرقتها، وحكمت على عمر المختار بالشّنق، وحكمت على انطون سعاده كمجرم وما يزال يصنّف على أنه مجرم في النظام اللبناني، وبالأمس حكمت على الأمينين نبيل العلم وحبيب الشرتوني، كمجرمين لأنهما قاوما المشروع الصهيوني ممثلاً بالعميل الواضح والمعلَن له.
ولكن محكمة التاريخ حكمت على بطلان هذه الأحكام ورفعت من قيمة الوطنية.
إيماننا بالعمل المقاوم يبدّد جهلنا ومقاومة ضعفنا الداخلي المحكوم بتخلّفنا إضافة إلى مقاومة المشروع الصهيوني وكل مَن يساعد هذا المشروع من امتداده من حركات تكفيرية وغير تكفيرية.
نستمرّ بإيماننا، وبهذا الإيمان يقول سعاده، «نحن ما نحن، وبهذا الإيمان ما كنّا وما سوف نكون وسيظلّ يدوّي هتافنا في العالم لتحيا سورية».
ونحن نقول وندعو إلى العروبة الحقيقية والجبهة العربية التي تقوم على التقاء الأمم العربية لثقافة مقاومة للاستعمار المهيمن وللعولمة الأميركية، ليقفوا كدول لها مكانتها تحت الشمس بدلاً من أن يكونوا صفراً في حسابات الدول كلها.
وأودّ كما استهللت كلامي بالتحية لفقيدنا الراحل الكبير، ونقول له أنت رحلت، ولكنك حفرتَ في القلب والوجدان ذكريات لا تنسى وستبقى منارة ومدرسة لكل المقاومين من أجل حياة هذه الامة ومجدها وعزتها.
كلمة مطران القدس
ثم تكلّم مطران القدس، المطران عطالله حنا، عن علاقته بالراحل، وعن موقعه في وجدان أهل القدس وذاكرتهم، فقال: لا تحزنوا كباقي الذين لا رجاء لهم، نحن أيّها الأحباء أبناء الرجاء ولا يجوز إطلاقاً أن نقبل في أعرافنا ثقافة الاستسلام والإحباط واليأس والقنوط، فنحن أصحاب قضية عادلة ولا بدّ للحق أن يعود إلى أصحابه مهما كثر المتآمرون والمتخاذلون، الساعون إلى تصفية القضية الفلسطينية.
أتيتكم، أيّها الأحباء من القدس، القدس الجريحة، القدس المتألمة التي يطعنها أعداؤها ويتآمر عليها أولئك الذين يخططون لابتلاعها وتشويه صورتها وطمس معالمها وتزوير تاريخها والنيل من مقدساتها، وأوقافها.
وكما وقفنا معاً مسيحيين ومسلمين في باحة الأقصى كي ندافع عن مقدساتها الإسلامية، هكذا سنقف معاً وسوياً في دفاعنا عن أوقافنا المسيحية المستهدَفة والمستباحة والتي هي جزء من تاريخنا وتراثنا وهويتنا.
أعداؤنا يريدون لنا أن نكون مذاهب وطوائف وعشائر متناحرة في ما بيننا، ورسالتنا اليوم رسالة فقيدنا الراحل سامي خوري، هي رسالة الوحدة، هي رسالة الأخوة. هي رسالة قضيتنا، هي رسالة التلاحم في ساحات النضال من اجل كرامة أمتنا، ومن أجل أعدل قضية عرفها التاريخ الإنساني الحديث، ألا وهي قضية فلسطين.
ونداؤنا الذي نطلقه من هذا المكان إلى أمتنا بمكوناتها كافة، نوجّهه للجميع في أن نكون معاً وسوياً في خندق واحد كي نواجه المخططات الاستعمارية، التآمرية على أمتنا وعلى قضيتنا الأولى، قضية فلسطين، وعلى القدس بنوع خاص.
أيّها الأحباء.. التقيتُ عزيزنا سامي خوري في أكثر من مناسبة وفي أكثر من لقاء وندوة في عمان، وكان دائماً يفتخر بانتمائه الإنساني، يفتخر بانتمائه إلى الأمة، بانتمائه إلى المسيحية المشرقية التي بزغ نورها من هذه البقعة المقدسة من العالم.
أيّها الأحبة، مسيحيتنا في مشرقنا ليست بضاعة مستوردة من الغرب، نحن لسنا مخلّفات الفرنجة أو غيرها من الحملات التي مرّت في بلادنا، اقرأوا التاريخ وهو يُخبركم.
نحن نفتخر بفلسطين، نفتخر كأمة، نفتخر كمشرقيين، أن المسيح هو من أبناء بلادنا، ولد في بيت لحم وقدّم كل ما قدّمه إلى الإنسانية من هذه البقعة المقدسة من العالم.
أيّها الأحبّة.. كان الفقيد يؤمن أن الأمة قويّة بوحدتها، ولذلك أن تكون رسالتنا من هذا المنبر بضرورة أن تتوحّد هذه الأمة، ويجب أن تنتصر سورية على أعدائها. نتمنى أن تزول ظاهرة الإرهاب الداعشية وغير الداعشية، التي اوتينا بها من الغرب كي تدمر مجتمعاتنا، نتمنّى أن تزول كل هذه الظلمات التي يشهدها وطننا العربي، لأننا نعتقد بأن المستفيد من هذه الحال العربية المتردية، إنما هو الاحتلال البغيض الذي يسعى لابتلاع القدس وابتلاع فلسطين وشطب القضية الفلسطينية وشطب وجود الشعب الفلسطيني، لكن القضية الفلسطينية ليست بضعة حجارة أو حفنة من تراب، إنها قضية أمة، إنما قضية أحرار العالم، أولئك الذين يؤمنون بالقيم الإنسانية والأخلاقية.
وفي ذكرى وعد بلفور المشؤوم، نقول للعالم إن نكبة الشعب الفلسطيني تمّت بوعد من بلفور، وليست بوعد من الله. ولا يجوز لنا أن ننسب للإله ما ليس فيه.
أخيراً أودّ أن أتقدّم برسالة تعزية إلى العائلة الكريمة، رسالة تعزية باسم القدس، وعندما أقول القدس أقصد كل القدس بمكوّناتها كلها وبمقدّساتها كلها، بأقصاها بقيامتها بصليبها بهلالها بمسيحييها ومسلميها. هذه هي القدس، وهذه هي فلسطين.
وأتوجه بالقول إلى نجل الراحل إن أبناء القدس وأبناء فلسطين يحيّونك على مواقفك الإنسانية وأنت تتابع هذه المدرسة التي تعلّمت فيها، مدرسة والدك، كما نعزّي الاسرة الكريمة، ونعزّي الحزب السوري القومي الاجتماعي. ونعزّي كلّ مَن آمن برسالته وبكل مَن آمن بنهجه وبانتمائه إلى هذه الأرض وانتمائه الإنساني والوطني.
كلمة الحويك عطية
ثم أُعطي الكلام للدكتورة حياة الحويك عطية، وقالت: سامي خوري واحد من الذين رحلوا مبكراً حتى لو كانوا في التسعين، لأن الحياة تُعَدّ بالتفاؤلية لا بعدد السنوات، لكن عزاءهم وعزاءنا، هو خصب سنيّهم وفوح إيمانهم وواقع أن النفوس التي تحمل أهدافاً كبيرة تكون لحياتها دلالة تتجاوز الموت وإن كان حقاً يلحق بالأجساد.
أبو طارق… عرفته قبل أن أعرفه، بل عرفناه نحن الجيل الثاني، منذ عرفنا الحزب في بيروت وتجاوزنا سايكس بيكو لتحقيق أهدافنا إلى الأمة كاملة. وعرفناه حين كنا نستحضره كرمز من رموز مقاومة القوميين الاجتماعيين من أجل فلسطين وعلى أرضها. ثم عرفته عن قرب قبيل أربعين سنة، لم يتغيّر فيها الرجل الجامح إيماناً وحلماً والتزاماً وترجمة فعلية لكل ذلك.
غريب أن رحيله جاء بعد أيام من مئوية وعد بلفور، كأنه حتى في رحيله يريد أن يسجل موقفاً، أو أن يغمض عينيه كي لا يرى، تاركاً لمسيرته أمر تغذية المشروع القومي المضاد لهذا الخراب، في وقت تشهد عينه تكالباً لم يسبق له مثيل، يستهدف حياة الأمة كوجود وكحالة إنسانية حضارية.
لذا حين نجتمع لتأبين راحل كسامي خوري، إنما نجتمع لنشهد على حياة لا على موت حياة المبادئ والقيم التي عاشها قناعة وجسّدها مواقف. نجتمع وفاء وتقديراً وحاجة وعهداً. شهادة ما أحوجنا إليها في حاضر القمع والتزييف التي يعيشه المجموع القومي الحضاري.
لم يعُد القمع هو ذاك الذي عرفته الأجيال الرائدة، من مثل سامي، من منع اجتماع أو نشاط أو سجن أو حتى إعدام، بل تجاوز كل ذاك إلى التدمير الجماعي للدول وللجيوش وللمقومات وللقدرات السياسية والاقتصادية والثقافية، والأخطر للإنسان وللقيم.
مما جعل من حبيب الشرتوني الذي حمى لبنان من الاستسلام للعصر «الإسرائيلي»، جعل منه مداناً محكوماً كأي مجرم عادي في حين يفلت العملاء من الإدانة ويعزّز ذلك كمقدّمة تطلب حصر الحزب في لبنان في إطار حملة منظمة على المقاومة، فكم من المناضلين والشهداء ستدين هذه المرحلة الحقيرة؟ وكم من العمل ينتظر القوميين القابضين على الجمر للتصدّي لهذا المشروع؟
سؤال ليس مصادفة أن نطرحه على باب المئوية الثانية لوعد بلفور، أين نحن اليوم؟
أين فلسطين، وأين الأمة وأين كل هذا من الرؤية القومية الاجتماعية التي حملها أبو طارق ورفقاؤه، قبله وبعده منذ سبعين عاماً عن أنطون سعاده كحلٍّ وحيد للنهضة وللمواجهة.
فلننظر الآن في هذه المناسبة الجليلة، إلى أنفسنا وننظر إلى موطن ضعفنا لنرى كيف تسلّل وعد بلفور إلى التطبيق لا منذ مئة سنة، بل منذ مئة سنة إلى هذه اللحظة، وإلى ما لا ندري في المستقبل.
نقول إن مفهوم القومية الاجتماعية ليس لأننا نعتقدها، بل لأنه كما هو محدّد الحل الوحيد للتشرذم الاثني والعرقي والعنصري والديني والمذهبي الذي نعاني منه والذي شكل النافذة التي دخلت منها الوعود وغير الوعود والخطط والمؤامرات إلى جسم أمتنا.
صحيح أن في منطقتنا طُرح الكثير من المقاربات، لكن أحداً لم يبلور الرؤية بوضوح منذ الثلاثينيات، كما فعل انطون سعاده، القومية الاجتماعية المتجاوزة العرقية والطوائف إلى نعت واحد المواطنة، توحّد الجميع وتصون لهم خصوصيتهم الدينية كما الدنيوية على حد سواء.
وهذا ما كان عليه سامي وآخرون نواة ذخر للذكرى وذخر للمستقبل.
كلمة منصور
وتحدّث رفيق الراحل في النضال د. عزمي منصور عن الحياة الفدائية المشتركة بينه وبين الفقيد، قائلاً «رغم أنه نجا من محاولات الاغتيال إلا أنه لم ينجُ من الاعتقالات المتكرّرة، ولم تثنِ عزيمتَه وإرادته، ففي كل مرة كان يخرج أكثر إيماناً وأكثر صلابة وعناداً مردداً، قول: فيكم قوة لو فعّلت لغيرت وجه التاريخ، وأن الدماء التي تجري في عروقنا ليست ملكاً لنا وإنما هي وديعة الأمة فينا، متى طلبتها وجدتها». وقال: الذي تعرف على خوري منذ نصف قرن، «كان ينشر الفكر السوري القومي الاجتماعي أينما وجد، تارة بطريقة مباشرة وتارة بالإشارات والمواقف الهادفة، والسلوك العملي، وقد حملا على كاهلهما الهمّ القومي في تناغم وانسجام فريد ومميز». وأشار منصور إلى سلسلة العمليات الفدائية التي قامت بها «جبهة الفداء القومي»، وتصريح رئيسة وزراء العدو آنذاك غولدا مائير الذي أعلنت فيه «إننا أمام أعمال نوعيّة وخطيرة، لا يمكن السكوت عنها، ويجب وأدُها في مهدها»، لافتاً إلى أن ذلك جعل من «رأس الرفيق خوري مطلوباً على قائمة التصفيات، ولم تنجح غارات العدو الجوية على قواعد الجبهة في الأغوار من القضاء عليه».
كلمة العائلة
واختُتم التأبين بكلمة لنجل الفقيد النائب طارق خوري راثياً في الفقيد الأب والرفيق والمرشد، فقال: لم أكن قادراً على أن أقف في يوم تأبينك راثياً وشاهداً، ولكنها الحياة، وإن كنتَ قد بلغتَ من العمر عتياً، فوداعك مرّ، إنه يُشعرني أن شيئاً بداخلي قد انكسر. تُراه حسرة على هذا اليقين الذي تظللتُ به طوال سنيّ حياتك الوافرة وافتقدناه؟
كنا نأتي إليك كلّما اكفهرّت سماؤنا، وكلما اشتدّ قيض الهاجرة علينا، أتُراه حسرة على تاريخك المشعّ بالإيمان بقضية الأمة السورية وبحزبها رمز العطاء والصبر والتضحيات والفداء.
أبي، يا أمين سامي، ما كان للموت أن يطوي هذا التاريخ، فالسنديانة لا تنتهي بموتها، مَن يملأ الفراغ، وإن استطاع زمهرير العواصف على اقتلاع شتلات الورد والرياحين فإن جذورها الممتدّة عميقاً لا تقوى عليها الرياح العاتية فتعود للحياة من جديد؟
وأنت يا مَن زرعتَ فينا نحن عائلتك نحن رفقاؤك بذور الإيمان والثبات والنضال نُبقيك حياً فينا وفي هذا الحزب العظيم.
أبي، ما الحياة وما التاريخ بلا رجال تعي عقولهم المبدعة الخلاقة وعطاء سواعدهم الفتية وبذل دمائهم فداء الوطن والأمة؟ نؤكد لك أبي أيها الرفيق الودود أن لا وألف لا لن يستوي أبناء الحياة مع أبناء الظلمة، كما لا يستوي الذين يعلمون ويعملون مع الذين لا يعلمون وإن علموا فلا يعملون.
سامي خوري.. أيّها الرفقاء والأصدقاء: سنديانة ما شابها يوماً يباس، فهي مروية بالماء الذي جعل منه الله كل شيء حي، سنديانة فرشت ظلّها الوافر فوق رؤوسنا ورؤوس أبناء شعبنا.
وفي عزّ الهاجرة تعلّمت، وعلمت، وعملت، فاستوت منارة لا يطفئها موت ولا يقوى عليها زوال.
حاورناك كثيراً، سمعناك كثيراً، عايشناك أباً حنوناً، وجداً عطوفاً، وعايشناك رفيقاً وأميناً وفدائياً قومياً. وكنتَ لنا ولهم القدوة في النضال والكفاح والتضحية والفداء والقدوة في الإصغاء والحوار الهادف البنّاء في لحظات وددتُ أن أصدق أنك تلاعب الموت وتهزأ به، ظننتُ أنّك ستتمرّد عليه.. طمعاً بنظرة منك، بابتسامتك الساحرة بعناق لا ينتهي. لكنّها الحياة يا أبي وأنت من أبناء الحياة ورجالات الحياة، وأبناء الحياة لا ينتهون بمأتم، فأنت حاضر بيننا سيرة ونضال وكفاح لا ينتهي بموتك، تتحدّى ضعفنا، ترفض انكسارنا تربّت على أكتافنا تسألنا ثباتنا، تُشعرنا ببقائنا بتعاليمك الثورية.
وها نحن عائلتك الصغيرة، والكبيرة، نؤكد لك بعزيمة الواثق وإيمان الثائر أننا سنبقى بالوفاء الذي علّمتنا إياه، القدوة التي ربّيتنا عليها. بالأخلاق التي جبلتنا عليها منذ طفولتنا.
سنبقى نحمل أفكارك الوقّادة، ونسير على دربك ونهجك وننهل من سيرتك العطرة، أنت مَن أحنيت ظهرك لتستقيم ظهورنا.
أعدك وعداً أن تبقى لنا إرادتنا كما ربّيتنا، أوفياء للنهضة، أوفياء للعقيدة، أوفياء للثوابت، أوفياء لاسمك وسيرتك ومسيرتك.
يا أمين سامي، ها هم رفقاؤك وأصدقائك، يأتون اليك يحبسون في القلب شوقاً وفي العين دمعة.
جاؤوا مكرِّمين نسر فلسطين وعاشقها الذي لم يبخل بالدفاع عنها، فلسطين سكنت في روحك ودمك، في حلك وترحالك، ولم يفارقك حلم العودة اليها يوماً والانحناء في أحضان زيتونها، لكن القدر كان أقوى من حلمك حين أماتك قبل أن تكحّل عينيك برؤية فلسطين في عرس تحريرها.
يا أبي مَن قال نموت بموت أجسادنا، ألم يقل زعيمنا انطون سعاده «قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود»، وحدهم أولئك الذين يحدّدون اهتمامهم بالحياة بحدود أجسادهم يموتون، أما انت منذ خرجت من جسدك يوم آمنت بقضية أمتك. أما أنت منذ أكل النضال في هذه القضية جسدك،
أما أنت، فقضيت العمر وأفنيته مناضلاً باليد وبالفكر.
أما وأنت، من رجالات هذا الحزب، ستبقى حياتك ومسيرتك بأفكار حزبك العظيم.
أبي رفيقي، قدوتي مدرسة حياتي وهجك لا يخبو.
أنت الذي أتعبتَ الزمان وما تعبت، هكذا علّمتنا، عرفت السجون والمنافي، امتحنتك الشدائد بقسوة، فما هانت عزيمتك ولا اهتزّ إيمانك.
انتميتَ إلى حزب، كان يومها محظوراً، يخاطر بالأجساد من أجل حرية الإنسان ومن أجل التغيير، وقفت ضد الاحتلال وحاربته غير هيّاب بالسجن او اعتقال وتشرّد.
وقفت ضد الطائفية بمفاعيلها الاجتماعية والتربوية والسياسة والنفسية كلها، فطردتها من محيطك وبيتك وعائلتك، بقناعة المؤمن، بيقين لا يتزعزع، وكنت ناصعاً عقيدة وسلوكاً، وكم كان صعباً ذلك، وهو صعب دائماً،
من فلسطين، سورية الجنوبية، المعطاء بينابيعها، بسهولها، وجبالها.
من فلسطين، المعطاء برجالها وشهدائها.
من فلسطين التي ستتحرّر بإرادة أبنائها الذين لم يخطئوا البوصلة يوماً،
ومن الأردن الحبيب من أرضه، انطلقت إلى ساحات الأمة الواسعة. ابتكرت من الوسائل ما لا يُحصى وأبعد. لعلك تصل مبتغاك في وحدة هذه الأمة وتحرير فلسطين،
نتذكّرك مناضلاً دوؤباً، نتذكّرك ناشراً إيمانك، تتذكّرك أجيال القوميين الرواد الأوائل تربيت على وعد الانتصار، آمنت وعملت وضحّيت وما بدّلت تبديلاً.
وأمتك ما زالت في عز السؤال، ما الذي جلب على أمتي هذا الويل، وجوابك الدائم ما زالت الأمة تطلب منا المزيد من الشهادة، تطالبنا بالوديعة.
وسنردّها يا أبي كل ما تطلب ذلك دماً.
يا أمين سامي، أيّها الجليل، يا إبن الشام، يا إبن لبنان، يا إبن الأردن، يا إبن العراق، يا إبن فلسطين.
أيّها السوري القومي الاجتماعي.
ماذا أقول بك اليوم، وأيّ كلام يستطيع الإحاطة بتاريخك المشرق وستة ثمانون عاماً، احتملت فيها أشدّ الظروف قهراً وفقراً وتشرّد، وضعفت يوماً ولا هانت لك قناعة ولا عزيمة.
ولا توقّفتَ لحظة ولا اعتكفتَ بيتك يوماً ولا تراجعت على امتداد تاريخك بقيتَ إذاعة الحزب يتحلّق حولك المواطنون في البيت، كما في الساحات العامة، تعلّمهم مبادئ الحزب ونضاله ومناقبه وتاريخه، لو كان للساحات أن تنطق اليوم لقلت أنك فارسها، ومروّضها بامتياز، تزرع في كل يباس بناء وفوق كل صخرة تحطّ.
ولن أنسى أبا طارق. عن هذا الفرح الغريب الذي يكتنف صدرك ويغلف الألوان على حديثك، وعلى نظرتك إلى الأمور وعلى علاقتك برفقائك وبني وطنك. إنه فرح الإيمان بالقضية وفرح الالتزام بها. ما رأيتك يوماً في تشاؤم، ولا رأيتك يوماً إلا والبسمة فوق شفتيك تبعث الأمل والتفاؤل فينا.
رفيقي..
راهنتَ على حزبك، الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأنتَ الذي ما انقطعت يوماً عن النضال في صفوفه، هذا الحزب هو الذي أعاد صوغَك وصوغَنا جميعاً، هو الذي انتشلنا من حمى الارتهانات الطائفية والعشائرية والكيانية البغيضة.
هو الذي حمل إليك وعيك القومي الاجتماعي، ونظرتك الجديدة والدائمة إلى الحياة.
هو الذي أطلق فيك هذا الروح الواقد، والعقلية الخلاقة وعقلية الصراع من أجل عز الأمة وخلاصها، وانتصرت دوماً للخير على الشرّ.
هذا الحزب الذي استشرف أخطار المشروع اليهودي منذ بدايته، وانخرط في صراعه.
هو هذا الحزب الذي يحمل معول البناء ويعقد شعبنا الآمال عليه، لا سيما بعد كل هذه الكوارث التي حملتها كل هذه الكوارث الفاسدة والأنظمة البالية، والبنى الاجتماعية المتآكلة التي غلب عليها التعصب للأفكار الإثنية والطائفية والإقليمية.
أيّها المكرّمون، باسم العائلة الكريمة عائلة خوري، وباسمي واسم شقيقي زياد وشقيتيّ هتاف وهلا. وباسم الحزب السوري القومي الاجتماعي. نتقدّم من جميع المشاركين في الاحتفال التكريمي هذا بجزيل الشكر والوفاء.