ماذا بعد الحراك الشعبي العربي لنصرة القدس وفلسطين؟
زياد حافظ
تحرّك الشارع العربي، من المغرب إلى اليمن، مروراً بسورية المنتصرة والمتلاقية مع العراق الذي يشاركها في النصر على جماعات التعصّب والغلو والتوحّش، ومصر التي تواجه تلك الجماعات في سيناء وفي صحرائها الغربية. فقال، كل من الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، كلمتهما حول عدم استقبالهما لنائب الرئيس الأميركي الذي يتجرّأ على زيارة القاهرة والقدس بعد قرار الرئيس الأميركي. كذلك قال المؤتمن على مفاتيح كنيسة القيامة جودة الحسيني الذي أعلن إغلاق الكنيسة بوجه نائب الرئيس الأميركي مايك بانس. تحرّكت الجماهير لنصرة القدس وفلسطين بعد قرار الرئيس الأميركي كما تحرّكت لتنفي كل الادعاءات حول تراجع القضية الفلسطينية عند العرب والمسلمين والمسيحيين. لكن هناك من المشكّكين الذين يعتبرون أن الحراك لن يتجاوز حالة «فش الخلق»، وأن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل القرار ونسيان أو تراجع «القضية». كما ستعود محاولات التطبيع البشع حيث لم يخجل عاهل البحرين عن إرسال وفد «تطبيعي» إلى فلسطين المحتلّة بعد قرار الرئيس الأميركي فكانت النتيجة طرد الوفد المشؤوم من حرم الأقصى!
الحراك سيستمرّ في رأينا بوتائر متباينة في مختلف البلدان العربية. ومصيره يعتمد على عوامل موضوعية وعوامل ذاتية. فالعامل الموضوعي يعود إلى موقف السلطة الفلسطينية وخياراتها ومعها منظمة تحرير فلسطين والفصائل التي تكوّنها مع الشخصيات المستقلّة. فالسلطة مدعوّة إلى حسم علاقتها مع الكيان على الأقل في موضوع التنسيق الأمني وصولاً إلى تجميد اتفاقية أوسلو المشؤومة. العامل الثاني هو موقف حكومتي القاهرة وعمان. نعي أن الحكومتين بين مطرقة الالتزامات الدولية التي ارتبطتا بها وسندان الحنق الشعبي تجاه تلك الالتزامات. فالمطلوب المزيد من الضغط الشعبي على الحكومات العربية التي عليها أن تتصالح مع ذاتها لتستطيع أن تتصالح مع شعوبها وتاريخ هذه الأمة. العامل الثالث هو مكوّنات محور المقاومة ببعديه العربي والإقليمي. فالميزان قد تغيّر لمصلحة المحور عندما يدعو أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر لله، باسم المحور بكامله، إلى «توحيد» المواقف تجاه القرار الأميركي ومن جرّاء ذلك مواجهة الكيان. فمحور المقاومة يواجه التسوية التي سقطت مع قرار الرئيس الأميركي رغم الترويج لما يُسمّى بـ «صفقة القرن» أي تصفية القضية نهائياً بموافقة عربية.
ما تحقّق حتى الآن هو إجماع مفيد، وإن كان لفظياً من قبل جامعة الدول العربية بما فيها دول الخليج والجزيرة العربية وذلك مع غياب سورية. وكذلك الأمر بالنسبة لمؤتمر التعاون الإسلامي. نستثني هنا موقف لبنان الرسمي الذي كان أكثر وضوحاً من مواقف الدول العربية بما فيها السلطة الفلسطينية ومن مواقف الدول الإسلامية التي ما زالت تخشى الولايات المتحدة أكثر من غضب شعوبها. كما أن غياب قادة من دول عربية يفضح دورها في التواطؤ مع الإدارة الأميركية إن لم يكن حتى مع حكومة الكيان. رغم كل ذلك فالموقف الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجية في جامعة الدول العربية لا يخلو من إيجابيات. فهل يترجم الموقف اللفظي إلى عدم مواجهة محور المقاومة فيما سيقدم عليه في المرحلة المقبلة؟
من الواضح أن زمام المبادرة حتى الآن سيكون مع الهيئات الشعبية التي تحرّك الشارع العربي وفي فلسطين المحتلّة. وبالتالي لا يجب انتظار الموقف الرسمي. الأمور قد تتغيّر وعلى الحراك الشعبي أن يصنع التغيير على الأرض. فما هو مطلوب هو أن يتحوّل ذلك الحراك أوّلا في فلسطين إلى انتفاضة كنّا ندعو إليها منذ فترة. جماهير فلسطين لم ولن تتأخر على مواجهة العدو، ولكنها كانت في عزلة عن قوى فاعلة. اليوم نعيش لحظة تاريخية لا يمكن تفويتها. فالعزلة لم تعُد قائمة مع دخول محور المقاومة على الخط بشكل رسمي وعلني وفعّال وما يمثّله من خبرة وتجربة دول واجهت، وما زالت تواجه، مؤامرات وحروب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في المنطقة.
وقطع هذه العزلة يتلازم مع ضرورة مأسسة الدعم على الصعيد الشعبي بين هيئات في فلسطين المحتلّة وهيئات خارج فلسطين. يجب التفكير في آليات الدعم لإيصاله لأهلنا في الداخل الفلسطيني. كما يجب التفكير في التنظيم لعصيان مدني يشلّ الكيان. نعي أن الكيان يستفيد من عمالة فلسطينية في منتهى الرخص، ولكنها حيوية بالنسبة للفلسطينيين. فهي نسبة وازنة من العمالة الفلسطينية وأن المقاطعة والعصيان يشكّلان تضحيات كبيرة بالنسبة لهم قد لا يستطيعون تحمّلها. لذلك الدعم الخارجي يجب أن يحاكي تلك المتطلّبات وإن بشكل مبرمج ليصبح مصدر الرزق اليومي خارج الابتزاز الصهيوني. هذا يعني تحضير معلومات دقيقة وبيانات إحصائية حول حجم العمالة والدخل المطلوب لتأمينه بشكل أو بآخر. وبالتالي ندعو إلى إنشاء صندوق شعبي عربي من أجل تأمين صمود الشعب الفلسطيني وربطه بالمقاطعة.
الأمر الثاني هو مبادرة من الهيئات الشعبية في فلسطين إلى مقاطعة البضائع الصهيونية. فالضفّة الغربية ملاذ هام لتصريف بضائع الكيان خاصة السلع الزراعية والتصنيعية صاحبة القيمة المضافة المنخفضة. فمع مقاطعة العمل في الكيان تجب مقاطعة البضائع التي تنتجها المستعمرات والبضائع المنتجة في فلسطين المغتصبة. ما يجعل المقاطعة صعبة هو رخص البضائع الصهيونية. هنا أيضاً يجب إيجاد صندوق دعم شعبي للبضائع الضرورية والمنتجة في بقع فلسطين التي ما زالت عربية و/أو المستوردة من خارج حدود الكيان وتكون بديلة عن البضائع الصهيونية.
الأمر الثالث هو تحرّك شعبي لفرض عزلة على سفارات الكيان في الدول العربية والإسلامية. بالنسبة لنا فإن الأخوة في المؤتمر القومي العربي والقومي الإسلامي مدعوون للقيام بمبادرات تهدف إلى حصار السفارات بغية إغلاقها من قبل العدو عندما يشعر أنه لن يستطيع تأمين أمن طاقم السفارات. وكذلك الأمر بالنسبة للدول العربية التي يُوجد فيها مكاتب للاتصال مع الكيان تمهيداً لعمليات التطبيع. فالتطبيع مرفوض ويجب أن يتحوّل عبئاً على البيئات التي تروّج له. المسألة هي جعل كلفة التطبيع باهظة حتى لا تستطيع أن تتحمّلها الحكومات العربية المطبّعة مع كسر الباء . هذا يستدعي إقامة مؤسسات تنسيقية في الدول المعنية وتعبئة وسائل التواصل لاستمرار الضغط على المعنيين. هذه المؤسسات موجودة إلى حدّ ما في بعض الدول كالمغرب ولبنان مثلاً، ولذلك يجب تطويرها ودعمها. وبما أن الحكومات العربية المعنية قد لا تتحمل وزر ذلك العمل فيمكن ربطه بتراجع الرئيس الأميركي عن قراره بالاعتراف أن القدس عاصمة الكيان، أي أن محاصرة السفارة ستقوم حتى التراجع عن القرار.
الأمر الرابع يقع على عاتق المثقّفين العرب. فهم مدعوون لرفع وتيرة التعبئة والوعي والدعم للانتفاضة الشعبية في فلسطين رغم محاولات التعتيم والترهيب التي تقدم عليها الحكومات العربية المرتبطة بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فوسائل التواصل الاجتماعي مفتوحة لتغريدات وخاطرات ومقالات تساهم في شحن الذاكرة وتوعية الجمهور الأوسع.
إن متابعتنا لتداعيات قرار الرئيس الأميركي تُوصلنا إلى قناعة أن شيئاً ما قد تغيّر وأن الحراك الشعبي الذي شهدناه يختلف عما كان في السابق. فعندما يخرج مئات الآلاف من الشعب اليمني تحت قصف قوى التحالف العدواني للتنديد بقرار الرئيس الأميركي، فهذا له دلالات عدّة وهامة. من هذه الدلالات سقوط الحجج في التلكّؤ عن التعبير عن الغضب بسبب الأوضاع الأمنية. كما أن موقف لبنان الذي كان مهدّداً منذ بضعة أسابيع بعقوبات عليه من قبل حكومة الولايات المتحدة وحكومة الرياض بسبب المقاومة، فإذ على لسان الرئيس ميشال عون في مؤتمر قمة دول التعاون الإسلامي يطالب بفرض العقوبات على الدول التي تعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
إن نتائج ما شهدناه قد لا تظهر مباشرة، ولكنها ستظهر بسبب زنود المقاومين في فلسطين وخارج فلسطين، وفي مثابرتنا على دعم الحراك الشعبي في كل مكان لنصرة القدس وفلسطين، وذلك في مدى قد يكون أقصر مما يتصوّره البعض. فالحراك الفلسطيني يشحن الحراك العربي والحراك العربي يغذّي الحراك في فلسطين. فالأمة وفلسطين واحد.
أمين عام المؤتمر القومي العربي