سوتشي بديلٌ أكثر… سوريّةً

د. وفيق إبراهيم

تسجّل مؤتمرات جنيف الخاصة بسورية الفشل تلو الفشل، ولا تترك خلفها إلا جملة إحباطات تنتج من عاملين إصرار الدول الخارجية المتورّطة في الأزمة السورية على عرقلة الحلّ السياسي العاكس نتائج الميدان العسكري، كما يُفترض، وتمسّك الدولة السوريّة بسيادتها على كامل أراضيها استناداً إلى شرعيّتها من جهة، ونجاحاتها العسكرية من جهة ثانية.

وما يمكن الجزم فيه، هو أنّ التاريخ يقدّم للجميع كلّ نتائج الحروب ومدى الالتزام بما آلت إليه. هناك دائماً منتصر ومهزوم، أو حالة من المراوحة تفضي عادةً إلى تسوية. المنتصر يربح السياسة، مقابل انكفاء المهزوم أو قبوله باستيعاب له مشروط من قِبل الرابح. أمّا المراوحة المؤدّية إلى تسوية، فهي نتاج مرحلة توازن القوى بين المتقاتلين.

في الحالة السوريّة، هناك هزيمة كاملة لمشروع إرهابي مدعوم من عشرات الدول بحدود مفتوحة على الميدان السوري بآلاف الكيلومترات، من تركيا والأردن والعراق ولبنان وفلسطين المحتلة من قِبل الكيان «الإسرائيلي».

لمزيد من التوضيح، كانت موازين القوى العسكرية في السنوات الأولى لاندلاع الأزمة السورية لمصلحة المعارضات التي جمعت بين الوهابية و«الإخوانية»، وبعض الفارّين من الجيش السوري، ومعارضين تاريخيين لا يمتلكون من القوة العقلية إلا ألسنة وأفواه مفتوحة. هؤلاء انسحبوا إلى البلدان المتورّطة في الأزمة السورية، في تركيا وقطر والإمارات والسعودية وفرنسا إلخ… متحوّلين إلى أدوات تعمل في «استخبارات» هذه الدول، وتطلّ على الجمهور عند الطلب فقط، فتبدو وكأنّها تمون على ملايين السوريين، لأنّها كانت تتماهى مع الأعمال الإرهابية للفريق الوهابي الإخواني، وتتبنّاه في محاولة لقطف نتائجه السياسية المتوخّاة.

وما أن بدأت الأمم المتحدة ترعى انعقاد جنيف، حتى تمّ «تدبير» هيئات تمثّل المعارضات بجناحَيْها التركي والسعودي برعاية أميركية غربية.

وكان «أمر اليوم» المعطى في ذلك الحين لهذه المعارضات، هو إسقاط الأسد والدولة السورية، ولا مفاوضات في هذا الشأن.

بَيْدَ أنّ تراجع دور الإخوان المسلمين في سورية تزامن مع تراجع الدور التركي، متحوّلاً لمصلحة تطوّر الدور السعودي في تأليف المعارضات السوريّة وتشكيلها، فالتزمت المعارضة المسمّاة «سوريّة» بشعارات وزير الخارجية السعودي الجبير، ولم تحِدْ عنها قيد أنملة، فبدت كـ «إنسان آليّ يردّد الجملة نفسها، وفي الاحتمالات كافة: «يجب إسقاط الأسد»، وإنشاء دولة ديمقراطية في سورية. وكان الجميع يسأل: لماذا لا نؤسّس دولة ديمقراطية في السعودية؟ فتهاوت مؤتمرات جنيف الأولى لعدم وجود رغبة أميركية سعودية «إسرائيلية» بالتوصّل إلى حلّ سياسي. و«عبثيّة ما يسمّى معارضة» تبتهج حتى الآن بالفنادق والمال والألقاب، لأنّها تعرف أن لا مكان لها في سورية الفعلية.

أمّا ما تسبّب بمزيد من انكشاف المعارضة «الجنيفية» «الخاوية سوريّاً»، فله علاقة بانهزام طرفَي الإرهاب الفعلي الذي كان متحكّماً بالميدان السوري، وهما «داعش» و«النصرة». خسرت هاتان المنظمتان التكفيريتان من أصول قاعدية وهابية تسعين في المئة وأكثر من الأراضي السوريّة التي كانت تستولي عليها، ولم يتبقّ تحت سيطرتها إلا منطقة إدلب برعاية تركية، وبعض البؤر الصغيرة في بعض أنحاء سورية برعاية «إسرائيلية» إردنية، وبالتالي سعودية.

لكنّ الأتراك استأنفوا دورهم، نسبياً، بواسطة علاقات مضادّة للكرد ورعاتهم الأميركيين مع الروس المتحالفين مع الدولة السورية وإيران المتحالفة مع الرئيس الأسد، فنشأت هيئة راعية للمفاوضات بين الدولة وخصومها، وتشكّلت من روسيا وإيران وتركيا، على حساب انكفاء دور الرياض. الأمر الذي جعل أنقرة أكثر نفوذاً في تشكيل معارضات جنيف، وجعلها غير قادرة على إعداد حلّ فعليّ أو القبول به. فالطرف الأميركي لا يزال يعمل على تفتيت المنطقة، غير قابل بالنتائج العسكرية التي حقّقها الجيش السوري، الذي أدرك حدود بلاده من الجهات اللبنانية والأردنية والعراق، منتشراً على طول حدود نهر الفرات. وهذا باللغة السياسية لا يفسّر إلا على أساس إمساك الدولة بمفاصل أي حلّ سياسي مفترض.

الطرف الثاني الذي يواصل عرقلة جنيف هو السعودية، التي وجدت نفسها مهزومة في لبنان وسورية والعراق، وغارقة في وحول اليمن، وخائفة على استقرارها في الخليج وداخل المملكة. لذلك، واصلت سياسة عرقلة جنيف من خلال الإصرار على تغيير قيادة الدولة من خلال وفد المعارضة الذي لا يمتلك أيّ دور عسكري في الداخل السوري، باستثناء بعض فئات ممّا يسمّى «الجيش الحر»، ليس لهم أيّ نفوذ فعلي في أي مكان من الجغرافيا السوريّة.

وهنا يكمن التناقض في مفاوضات يُمسك طرفها الأساسي الدولة السوريّة وحلفاؤها بمعظم مساحة سورية، وبين طرف معارض ليس لديه ما يفاوض عليه باستثناء قدرة دول الإقليم التي تستهدف سورية، وفي طليعتها السعودية و«إسرائيل» برعاية أميركية وكمون تركي لضرورات «التسلل نحو كسب نفوذ» بأسلوب «التقيّة» بعد خسائر أنقرة في البحث عن كسب نفوذ بواسطة الإخوان المسلمين والغزو العسكري.

لذلك، فإنّ معارضات جنيف سقطت سقوطاً تاريخياً مدوّياً، لأنّها لا تمثّل أحداً في الداخل السوري، ولا تؤثّر بالتالي على انتصار الدولة واستعادتها سيادتها، بالإضافة إلى النزاعات القويّة التي تندلع بين الدولة الإقليمية والدولية المؤيّدة لها، أي بين السعودية والإمارات وقطر وتركيا وأوروبا وأميركا. كما أنّ تأييد «إسرائيل» لها، سارع في كشفها مرة واحدة وأخيرة بشكل لم يعُد بوسع أيّ سوري أن يرتضي بها ولو بأدوار سياسية صغيرة.

هذه مجمل الأسباب التي تؤكّد الانهيار البنيوي لجنيف، التي لا تزال مطلباً أميركياً سعودياً «إسرائيلياً» للتسويف والمماطلة في ابتداع حلّ سياسي يحفظ السيادة والشعب.

وفي ظلّ استمرار غياب معارضات فعلية لها علاقة فعلية بسورية، تبدو فكرة مؤتمر الحوار في «سوتشي» أكثر منطقية لأسباب عدّة، أهمّها أنّ رعاة هذا المؤتمر الروس ليسوا متورّطين في دعم الإرهاب في سورية، كما أنّ لديهم حلفاء وازنين حاربوا أيضاً الإرهاب، وفي مقدّمهم إيران. هناك عامل ثانٍ لا يقلّ أهمية، ويتعلّق بنحو 1500 سوري مدعوّين لحضور المؤتمر ومناقشة مستقبل سورية ووضع تصوّر للحلّ، وهؤلاء يمثّلون النخب العلمية والاقتصادية والشعبية والسياسية السورية، أيّ يجسّدون ضمير سورية وأصحاب المصلحة الفعلية لإعادة بناء التفاهم الوطني من خلال الدولة ورئيسها بشار الأسد.

وهذا فارق نوعيّ بين نخب رفيعة المستوى لا تزال موجودة في سورية، وتعكس هموم أهلها، وبين معارضات تعتاش على التسوّل والمكرمات في فنادق الدول المتورّطة ومصارفها، وتجسّد مطامعها في بلاد الشام.

وهذا يؤكّد أنّ «سوتشي» فكرة متقدّمة على جنيف وأستانة، ويكشف أسباب رفضها من المحور السعودي «الإسرائيلي».

لا بدّ أخيراً من تأكيد أنّ الجيش السوري هو الذي وضع هذه المعارضات في مأزق وجودي مضعضعاً الإرهاب، وفاتحاً الطريق لإعادة بناء سورية المحور الأساسي لشرق عربي لا يزال مستعبداً من قِبل ملكيات تعمل في خدمة «اليانكي» الأميركي و«إسرائيل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى