إلى بروموثيوس المسرح اللبناني الملحميّ جلال خوري في خلوده.. أستاذي الذي لا أنسى

مشهور خيزران

كالصاعقة نزل على روحي خبر رحيلك إلى تراقيك يا سيّد المسرح الإنساني وسيّدي. كما لو أنني ريشة في مهبّ عاصفة تروح بكل اتجاه. تقذف بي اللحظة. تشقلبني معطّل الحواس والتفكير لحظة ورود نبأ سفرك المباغت إلى الصمت. لا لن تموت وأنت الصانع للحياة!

ثمّ كيف تسلّق الموت إلى قمّتك الشاهقة حيث تقيم على خشبة مسرحك المطلّ على الحياة؟

هل أنبأ الموت هذا الغادر هوميروس وهزيود قبل أن يرتكب فعلته؟ وكنت يا سيّدي ومعلّمي أنت والمسرح تجترحان الهدير لتجرفا الشرّ من الحياة. ولتنشد البشرية أغنيات الحبّ والسلام ولينزل العدل على الأرض نزول الأنبياء ولينتصر جوعى الناس على صمتهم وأحزانهم. جلال خوري أيها التقدّمي المسرحي الوطني الشعبي المثقف. يا عذباً كهطلة الغيث. يا وديعاً كطفل يراقص الحياة يلعب معها في باحة مدرسة. يا صلباً كصخرة راسخة تقارع العاتيات إذا ما أطلقت أنيابها لتنهش الجمال. أيها المسجّى في نعشك البارد حيث تولد الشمس. أيها الصاعد إلى حيث يرقد بريخت وشكسبير وغيفارا وجبران وإيليا والماغوط ونيرودا ولوركا وفرج الله الحلو، وسائر العظماء. لا بأس عليك يا هرماً جمالياً. هناك في خيمتهم السماوية أعدّ الله لك فراشاً وثيراً لترقد بسلام إلى جوارهم تستريح.

نعم يا جلال. يا أستاذي كيف أنساك وأنت من سكبت أسرار قلبك المسرحيّ في قلبي ووجداني لأعود إلى وطني سورية مسرحياً أحمل توقيعك على وثيقة تخرّجي مخرجاً مسرحياً وممثلاً وكاتباً ناهلاً من مدرستك المسرحية الملحمية، ما يجعلني رقماً على الخشبة المقدّسة. لن أنسى حين قلت لي: سأرسلك إلى الشام مسرحياً ملحمياً. وكان لي ما أعددتني عليه. وهل باستطاعتي أن أنسى حين وصلت إلى بيروت ولم أبلغ العشرين بعد إلى منزل الإعلامية اللبنانية الكريمة عائدة عبد الصمد التي أكرمت وفادتي، وقد حملت إليها رسالة من قريب لها في سورية وأرسلتني بدورها إلى الروائيّ الكبير محمد العيتاني لذي حملني بسيارته إلى منزلك في حيّ الجميزة في بيروت، لأسلّمك الرسالة التي أحملها إليك من قبل الدكتور قدري جميل، عندما كان عضواً للجنة المركزية في الحزب الشيوعي آنذاك؟ وكيف أنسى عندما نقدتني بخمسمئة ليرة لبنانية لأملأ بها جيبي خالية الوفاض حينذاك، وألحقتني بقسم المسرح وأنت رئيس المنظّمة الدولية للمسرح «يونيسكو» في العالم الثالث وكانت الأرض عاجزة أن تتّسع لفرحي رغم اتّساعها عندما شغلتني مساعداً ثان للإخراج مع مساعدك الأول الفنان صالح الأشمر كي أدخل عالمك المسرحيّ متدرّباً في مسرحيتك «القبضاي» من بطولة الكبار نبيه أبو الحسن، سليمان الباشا، إيلين تابت وآخرين. وتحملني الأيام أتعلم وأتدرّب على يديك وأنا ألازمك كظلّك حيثما تذهب وحيثما تقيم أملأ كياني من نبع إبداعك وعبقريتك المسرحية.

لا لن أنسى يا قدوتي يا جلال عندما دعتك الشاعرة اللبنانية الكبيرة سناء البنا لزيارتها في منزلها واصطحبتني معك برفقة العزيز صالح الأشمر وعندما التقينا في منزلها العامر بالشاعرة اللبنانية الشابه لارا ملاك، كان هذا منذ سنة تقريباً. وتعود بي الآن الذاكرة إلى نهايات سبعينات القرن الماضي، وهل بمقدوري أن أروي للناس تفاصيل الأيام بل الدقائق معك أستاذاً ورفيقاً. لله دركم أيها اللبنانيون. يا جوهرة في تاج هذا الكون.

جلال خوري يا وطناً يا سيداً بحجم أرزة. لا بأس سيّدي إن شكوت لك بؤس حالي وسامحني إن أثقلت بشكواي على سكينة روحك لألوذ بك، ومًن سواك كان ملاذاً لي؟ أواه، وا حسرتي وحزني عليك يا مدرستي وعالمي. أعلمك منذ مغادرتي لبنان إلى وطني ولعنة الرغيف تطاردني. والتغييب والتحييد كفنان لا يهادن ولا يساوم، وأعلمك جازماً أنّ الأسباب كانت هي يساريّتي وطبقيتي التي اعتنقتها حتى النخاع. ووعداً لن أقلع عنها ولو قلعوا عن عظام جسدي جلدي.

ولأنني أعرف أنك الأرحب صدراً، فاض قلبي إليك بما أكابد من فقر وحزن. ولأنك الشعلة الإبداعية الإنسانية التي أوقدت صدري فأصبحت ذلك الفنان الأصفى ينبوعاً والألطف وقعاً والأشجى لحناً والأمتن سبكاً والأرسخ ثباتاً أقارع الظلم والتجويع أينما كانا.

سامحني يا جلال على بلوغي بفقدك تخوم الهذيان ذلك لأنني لم أزل أرزح تحت سطوة الفاجعة كمجنون أحمل مفرداتي فوق ما تستطيع حمله، لأن عاقلتي لم تصدق أنك بين يدي الموت وأنا ألفظ أنحابي. لم أكن لأصدّق أنني سأذهب إلى لبنان ولن ألتقيك.

جلال الياس الخوري أيها الموجوع لأوجاع المظلومين والفقراء. يا صاحب المسرح المنتفض على الذلّ والمهانة والهوان. أيها الأممي الإنساني الموسوعي الأغزر ثقافة. أيها اللبناني المتسامق كأرز لبنانك. أيها العود الذي كنت أنا فيه وتراً مشدوداً إليه لتضرب ريشتك المسرحية عليه نواميس الألحان للخشبة المعبد والتي زرعت فوقها حنجرتي لأصرخ مزلزلاً بهذا العالم المظلم الظالم. إلى الجحيم أيها البغاة والطغاة والغزاة. خشبة المسرح التي تركتها أمانة في عنقي والتي أودعتها رئتي صدري لأزفر أنفاسها جحيماً في وجه قتلة الحياة. وأنت من علّمني أن الأوطان لن تبلغ إنسانيتها ومسارحها مفقوءة العيون. وأفواه كتّابها ومخرجيها وممثليها مفعمة بأشواك الخوف والتخاذل والانتهازية. ها هي روحك المقاومة السابحة فوق أنهار الدم والدموع في وطني تبثّ أنفاسها أناشيد التضامن والمساندة. ووعداً يا معلّمي يا مدرستي يا رفيقي لن أشرب السمّ مبتسماً كما سقراط. سأبصق السمّ في وجه صانعيه. ولن أغفر للذين رجموا بولس فارحاً. وسأبقى ومسرحي وشعري مؤجّجاً حقدي على الذين قتلوا فرج ألله الحلو مُذاباً بالأسيد. وعلى قتلة نيرودا ولوركا وغيفارا، وعلى الحجاج بن يوسف الثقفي المجرم. وعلى أبي جعفر المنصور قاتل ابن المقفع، وعلى ذلك القذر الملك هيرودوس الذي قطع رأس القدّيس يوحنا المعمدان استجابة للعاهرة الراقصة الفاجرة سالومي، وعلى أولئك السفلة الحثالة التكفيريين الظلاميين والوهابيين الذين بلغت بهم الهمجية والذئبية لأن يقطعوا رؤوس الآباء من أبناء سورية العظيمة وينهشوا اكبادهم أمام أولادهم. وعداً وعهداً سأبقى تلميذك وكجواد مسرحي سوري أرتعي في فيافيك زرع تعاليمك الإبداعية الجمالية الملحمية.

وإني لعلى يقين أن روحك تسمع الآن أنّات روحي تفجّعاً وحزناً عليك. سيظلّ صوتي يسبح إليك في خلودك يلقي في كل صباح التحية عليك.

فيا مسارح بيروت ويا دروب حواريها ويا شطآن بحرها اهمسي لي ولو على حفيف ورود أصائص شرفاتك بطاقة تعزية، وعلى نغمات قيثارة الموج أنّات الحنين… أواااااه يا بيروت ما أبلغ حزني!

كاتب ومسرحيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى