الشاعر الفلسطيني جهاد الحنفي: نحتاج نقداً يغوص في عمق الكلمة ويترفّع عن الشكليّات

حاورته: رنا صادق

الحلم لا يسبقه، والعوامل لا توقفه عن التفاني من أجل الرسالة. يعمل بجدّ على إبراز الهوية الشعرية الخلّابة من خلال المزج بين الطفولة وحبّ الوطن والعشق الحقيقي. يُهويه كلّ ما حوله، ينثر الأمل والحبّ أنّى حلّ، يعيش في بؤرة الحقيقة ويواجهها، يكتبها، ينساب من دون الأنانية، بل ينساب بكلّ تواضعٍ وعمق.

من رحم النكبة الفلسطينية ولد، لذا عاش متقلّب الأماكن والزمان، صارعته الحياة فحاربها، عاكسته الظروف فدهسها، واستطاع أن يلمع ويبرز في الحقل الشعري المتميّز، وأبدع إلى الآن خمسة دواوين شعرية. الشاعر الفلسطيني جهاد الحنفي من مخلب النكبة ولد، وصاغ حياته عبر الكلمة، لكنّ الكلمة في ظلّ الظلم والحرمان لا تكفي أحياناً.

جهاد الحنفي شاعر فلسطينيّ ولد في لبنان عام 1979، طفولته هي ولادة طويلة من رحم المعاناة والتشرّد، فقد كانت هذه الطفولة رحلة في مخيمات اللجوء في لبنان. أمّا رحلة الدراسة فكانت في مدارس «أونروا» بين صور وصيدا، تخرّج من «معهد سبلين» قسم دار المعلمين ثم أكمل دراسته الجامعية وحصل على إجازة في آداب اللغة العربية.

الكتابة بالنسبة إليه هي الرئة التي يتنفّس من خلالها الحياة، والسماء التي يتنشّق النور من رحابها. بدايته معها كانت على مقاعد الدراسة وتحديداً المرحلة المتوسّطة .وقد كانت هذه البداية ككلّ البدايات، التجربة فيها سيّدة الحدث.

لكن البداية الحقيقية كانت في المرحلة الثانوية حيث بدأت تنضج كتاباته، وتأخذ شكلها الموزون العمودي، وكذلك صارت لقصيدته ملامح مضمونية واضحة .

خلال هذه المرحلة كانت تجربته الشعريّة تحتضن بعيون المعلّمين والغيورين إذ أولوه اهتماماً ورعاية .

«لن أكتب السطر الأخير»، عنوان قصيدة في ديوان الحنفي الأخير، هذه القصيدة تلخّص جهاد الحنفي في أفكاره وأبعاده كلّها، ووحدة زاوية اتجاهاته العاطفية والإدراكية والواقعية مختزلة بذلك روح الشاعر بأسطرها .

«لعينيك سأحمل المدى»، ديوانه الأكثر عمقاً، لأنه خلاصة تجربة أكثر نضجاً يختلف بتنوّع قصائده، ويختلف بجرأته، خصوصاً في قصائد الغزل، ويختلف بملامح جديدة على صعيد الخطاب الشعري الوطني .

يعتبر بعض الشعراء أنّ صدق إحساس الكاتب هو العمل الأبرز في القصيدة، أما آخرون، فيرون أنّ الإحساس بحدّ ذاته قادر على الوصول بشتّى الطرق إلى القارئ. وبالنسبة إلى الحنفي، فإنه يرى أنّ إحساس الكاتب هو السمة البارزة التي تميّزه عن سواه، إذ لا يستطيع أن يخرجها من «أناه»، وإنّ فعل، فسيعيش في غربة سوداء عن ذاته وكلماته. والقارئ مهما كان مستواه الثقافي يستطيع أنّ يتلمس الصدق ويعيش الكلمة إذا آمن بها بناءً على ما يقرأ، لذلك من المفيد جداً أن يبقى الشاعر ساكباً «أناه» على ورقه ليعبر إلى كلّ «أنا» سواه.

ويقول الحنفي إنّ الشعر أوسع من مفهوم المدارس الأدبية، وإنّه ينتمي إلى الإنسان ويعبّر عنه، عن خلجاته، آلامه وأحلامه، يقتبس من خيالاته فكرة، وينحت من دمعه صورة، ويقطف من ثغره حديقة، ويصوغ من صمته احتمالات ملوّنة .

يرى الحنفي أنّ مقوّمات الكتابة اليوم لم تعد هي ذاتها مقوّمات الكاتب البديهية المعروفة سالفًا، لأنّ هذه المقومات تختلف من زمن إلى آخر، مع اختلاف الظروف والظاهر، ولكن تبقى البواعث ذاتها الإنسانية، العاطفية، الاجتماعية والوطنية. والكاتب يلتقط الأنفاس ليبتكر منها أغنية وموالاً منطلقاً من مقوّمات عصره التي تختلف بمظهرها ولا تختلف بجوهرها.

الأزمة السورية ولّدت فنانين في شتى الميادين، حيث يعتبر الحنفي أنّ هذه الأزمة القاسية كانت محرّضاً حقيقياً لإعادة إشعال المواهب لأن العالم العربي عزيز جدّاً، تماماً كما ولّدت النكبة الفلسطينية شعراء وفنانين رائعين. ويعتقد أنّ جرح الوطن يؤجّج المواهب ويحفّز الطاقات لترتقي لشموخ الوطن.

بطبيعة الحال، يؤثر الشعر في الذات الإنسانية والحبّ والسلام، كما بمقدوه صناعة ثورة ما، ففي البدء كانت الكلمة وما زالت، هي إشارة البدء للإنسانية وهي السمة المميزة لها، حينما نتخلّى عن إيماننا بالكلمة نفقد ايماننا بالله .فالكلمة ترجمان القلوب وخارطة الخطى في الدروب ترتقي بالنفوس وتصنع حضارتها وتميزها. نعم قادرة على صنع ثورة، قادرة على تحصين الأمم، قادرة على اجتراح المعجزات لأنها ببساطة تصنع الإنسان بحسب ما يشيره الحنفي في حديثه إلى «البناء».

لكلّ شاعر خفايا، ولكلّ شعر ألغاز. وللقصائد أبواب وأسرار، الحنفي يعتبر أنّ ما يخفيه الشاعر قد لا يستطيع هو ذاته التعبير عنه، وتبقى حكاياته دفينة طيّات روحه. هناك عاصفة من الجنون، ثورة تجتاح العروق حينما تلقي الفكرة بظلالها على مخيلة الشاعر. فالليل واحة من الأسرار يغرق بها الشعراء، والحلم الدائم بوابة عبوره إلى غيبيات ومستحيلات.

وأضاف: إن كان من سرّ أبوح به، هو أنني حين أكتب على الصفحة لا أحتاج للسطور وأكتب بخطٍّ مائلٍ لأجتاز تنظيم السطور، فأنا ببساطة أكره القيود.

الشعر يولد نتيجة حالة نفسية عاصفة كالحزن الشديد والسعادة الكبيرة، فالشعر بالنسبة إليه وليد لحظة، وليد اختزان، وليد صدفة، وليد تجربة، وليد قراءة، كلّ هذه المخاضات تخلق النصّ الأدبي، من همسة، قبلة، نظرة، آه، نزف، وجع وبسمة. كلّ هذا وسواه يختمر في ذات الشاعر لتكون القصيدة .وأجمل القصائد ما تكون سلّة من الظلال والأبعاد والألوان والآمال والأحلام .وأجمل القصائد تلك التي يعتبرها القارئ أنها كُتبت له وحده.

ينظر الحنفي إلى جدلية النقد والكتابة الإبداعية حالياً على أنّ النقد أساس لتقويم أداء الشاعر في فضاء السطور، ولا يراه إلّا دافعاً للأفضل لأنه يردع التفلّت ويقيّم التجارب.

ويشير الحنفي إلى أنّ ما نحتاجه، نقد يغوص في عمق الكلمة ويترفّع عن الشكليّات يبني المضمون، ويساعد الشاعر في النهوض بنصّه. ما نريده نقد ينطلق من أدبيات الشعر العربي وخصوصياته. ولا يجوز إسقاط النظريات النقدية الغربية بكاملها على القصيدة العربية لأنه ـ الإسقاط ـ يثقلها بتفاصيل لا تعنيها، لأننا أمام ظروف مختلفة وتجربة بعيدة عمّا بنيت له هذه النظريات .

ويقول: صراحةً، يهمنا أنّ نفيد من كلّ التجارب النقدية شريطة أن تكون قادرة على تنقية الوعي وملائمة القصيدة العربية .

الأبواب المثلى التي يدخل الحنفي عبرها إلى القصيدة هي، الوطن والقلب.

عند الكتابة، ينصت جهاد الحنفي إلى قلبه، إلى حبّة تراب تئن تحت أقدام المحتل في فلسطين، إلى طفل ينادي على أبيه في سورية واليمن، إلى عاشق يُودِع القمر أسراره، إلى حلم يغفو بين أهداب الزهور، إلى عصفور يبحث بين الغصون عن عصفورته الجميلة. هذه باختصار ما ينصت إليه الشاعر حين يذوب حبر قلمه.

بعد إصدار ديوانه الخامس، يعمل الحنفي على إعداد ديوان جديد وقد يحمل عنوان «متى تغضب؟»، وقبل ذلك يفكر كيف يكون هذا النتاج أجمل وأعمق ممّا سبق .

مختارات

وفي ما يلي، مختارات من قصائد ضيفنا الشاعر جهاد الحنفي:

أحِنُّ إلى ياسمينِ يديكِ

إلى خمرةِ الفجرِ في شفتيكِ

إلى عطرِ صدرِكِ والشَّامتيْنِ

سلامي… سلامي إلى شامَتَيكِ

أحِنُّ إلى اللَّيلِ يغمُرُني

بشوقِ الرَّحيلِ إلى مُقلتيْكِ

أحِنُّ الى الدَّربِ يزرعُ ظلِّي

بوردٍ تَناثرَ من قَدَميْكِ

أحِنُّ إليَّ نسيماً شقياً

طفولتُه في مَدى راحتيكِ

مراهَقَتي فيك لا تنتهي

وكلُّ المَلامِ عليكِ عليكِ

ألا تعرفين انهيارَ سمائي

لديكِ حنيناً إلى ما لديكِ

أحبُّكِ… كلُّ جهاتي قلوبٌ

عناوينها النبض فيك إليك

لأنسى

أننا شعبٌ ظُلمنا

علِّقونا في جدارِ الصَّمتِ أزمنةً

ليأكُلَنا غبارُ الرَّاحلينَ من السَّرابِ

إلى حقيقةِ فجِرِنا الأَزَلِيْ

لأنسى

أنَّ لي داراً هناك

تعالَ كي تمحو

تجاعيدَ الحجارةِ في سماءِ يَديْ

لأنسى

أن لي حقلاً يناديني

سأمشي في شراييني

مسافاتٍ من الأكوانِ والأزمانِ

كي أحظى بذاكرةٍ تروِّضُني

على نسيانِ ذاكرتي

تدرَّبُني على وصفِ النِّهايةِ أو كتابتِها

أو الإيمانِ أني لستُ مني

لستُ مني إن نسيتُ

أنا الوفيُّ

لكلِّ ما تُـمليه سُنبلتي عليَّ

وفيْ

لأنسى

ما لديَّ من الحكاياتِ الجميلةِ عن بلادي

أحرقوا كتبي الحبيبةَ

سوف ينبعثُ الرَّمادُ

يعيدُ تشكيلَ الحكايةِ من جديدٍ

إنها جدُّ ومفتاحٌ وطفلُ

حبُرها

ذاك الرمادُ

يطيرُ مني كي يعودَ إلَيْ

فراشةُ وشْوَشَتْها النارُ لا تَقِفِي

على حدوديَ أو فلتقبلي أَسَفي

لكنَّها رَقَصَتْ للنَّارِ ضاحكةً

لا ضيرَ حارقتي، لا ترحمي شَغَفِي

فالموتُ عشقاً، فضاءٌ حين نحضُنُه

تغدو نهايتُنا بعضاً من التَّرَفِ

تعبْتُ منَ الحلمِ يا صاحبي

كانَ دربي الوحيدَ إليَّ

يَشي حينَ أهربُ منْهُ عليَّ

تُرى منْ سيعرفُني

إنْ تخلَّيْتُ عنهُ

وإنْ تبرَّأتُ منهُ

ومنْ سوفَ يغمرُ ليلي اليتيمَ

بضوءِ يديهِ

ويحنو على خطواتيَ

من قسوةِ الدّربِ

مَنْ سيقولُ لمنفايَ إرحلْ

ومَن سيقولُ لذاكرتي

لا تزالينَ عرسَ السّنابلِ

يا صاحبي

قدْ تعبْتُ منَ الحلمِ

مذْ قالَ للطّينِ

كُنْ صورةَ اللهِ

في الأرضِ… أحلمُ

لكنَّني قدْ تعبتُ، تعبْتُ، تعبْتُ

تعبْتُ منَ الحلمِ

يا صاحبي

لا ليسَ بعدُ

جراحاتُنا لمْ تزلْ وجهَ أيَّامِنا

وَهبْ قدْ تعبْتَ منَ الحلمِ

ماذا تقولُ لجائعةٍ

كسرةُ الخبزِ موّالُها والنَّشيدْ

وماذا تقولُ لعصفورةٍ

لمْ تجدْ قشّةً

لبناءِ ربيعٍ جديدْ

وماذا تقولُ لعاشقةٍ

لمْ يمدّ لها راحتيهِ الضّياءُ البعيدْ

تعبْتُ منَ الحلمِ

لا ليسَ بعدُ

وفي الشّامِ يبكي على أهلِهِ الياسمينْ

وفي اليمنِ

الآهُ تحفرُ خدَّ التُّرابِ

وفي أرضِ بابلَ

جرحُ النَّخيلِ كدجلةَ

والقدسُ

زيتونةٌ صُلِبَتْ

والتّرابُ يسطِّرُ منْ دمِها

صرخةَ العائدينْ

تعبْتَ منَ الحلمِ

أمْ تعبَ الحلمُ منكَ

هوَ التّوأمُ الأبديُّ لروحِكَ

نبضُ رؤاكَ

رسولُ خطاكَ

هوَ المتبقّي

فرفقاً بروحِكَ رفقاً

ولا تكُ إلّا وفيّاً

لها ولما قدْ تبقّى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى