السياسات المتهوّرة مقابل المتغيّرات الكبرى
د. رائد المصري
إذا أمعنَّا النَّظر وأجْرينا مقاربة بسيطة في السياسات الأميركية وأداءاتها الخارجية والحركة الديبلوماسية التي كانت تتميَّز بها هذه الدولة، منذ الحرب العالمية الثانية على أبعد تقدير الى اليوم، لوجدنا أنَّها سياسات مضطربة ومتوتِّرة ومحكومة بالانفعالات الشخصية أكثر بكثير ممَّا كانت عليه سابقاً، من دون أن نُسقط منها وعنها مشاريعها الاستعمارية الدائمة وعولمتها النَّهِمة لكلِّ ما يُحيط بها وما قد تنتجِه الشعوب والدول من إمكانات مادية وثروات وخيرات، مضاف إليها استمرار الدعم للمشروع الصهيوني واغتصابه أرض فلسطين وتدنيس مقدّساتها، وهو ما رفع علامات استفهام دوليّة وإقليمية مثيرة للاستغراب، وعكس اضطرابات متسارعة في مواقف الدول وفي تحالفاتها، خصوصاً تلك التي خرجت من الرَّحم الأميركي والغربي والرأسمالي العالمي، ونقصد به هنا منظومة دول الخليج العربية ومواقفها ومقارباتها للنزاعات في المنطقة التي تشكِّل الحَلَقة الأضعف في سلسلة النظام الرأسمالي المعولم والآيل إلى الأفول…
بديهي ومعلوم أنَّه كلَّما تدخَّلت السياسة الأميركية الجديدة ومنذ عام 2011 في مقاربة أيٍّ من الموضوعات الدولية والإقليمية، تقابلها زيادة في الانهيار لمنظوماتها الرأسمالية ولتحالفاتها التاريخية والاستراتيجية، ذلك أنَّ متغيِّرات قواعد قانون الإنتاج العالمي وتقسيم العمل قد تغيّرت تغيّراً جذرياً، ولم يعدْ تنفع معها الرافعة الرأسمالية الاستعمارية التي كانت مستخدمة سابقاً، فأصبح العالم اليوم في تعدّد لأنماط الرأسماليات العالمية، وبعيداً عن الاحتكارات التي كانت تستحوذ عليها أميركا ومشروعها المعولم، والتي من خلاله عمَّمت وتعمَّمت ظواهر الفساد والتكتُّلات الاقتصادية الكبرى والمالية العالمية، إذ أنَّ هذا الاحتكار الرأسمالي بصبغته الوحيدة عمَّم ظواهر الفساد وأفقَد الشعوب حقوقها الإنتاجية وحقوقَها التمثيلية في التعبير عن الرأي، وباتوا أمام نموذج واحد أوحَد تفرضه هذه المنظومات، وبعكس تعدُّدية الرأسماليات المتنافسة التي لا تفسح في المجال إلاً قليلاً في توسُّع دائرة انتشار الفساد العالمي، بسبب إقامة الحدود بين هذه الرأسماليات المنتجة، ممَّا يعطي المواطن وكلَّّّّّّّّّّّ الشعوب حقَّ الاستفادة من هذه الخلطة الإنتاجية للنظام العالمي، الذي بدأ يرسو بقواعده الجديدة من حيث البَدء بالتسليم الأميركي التدريجي لمكانتها في المنطقة وفي إدارة النزاع وطرح المبادرات وتجميع الملفات، تخلَّله استثناء واحد هو قضية فلسطين والقدس والإعلان الأميركي من دون حسابات لنتائجه، وهو ما عكس أزمات الاضطراب الكبيرة في السياسات الأميركية التي انتزعت منها قواعد الإنتاج العالمي، وهو الأمر الحتميّ التاريخيّ في حركة تطوّر الوعي البشري والاجتماعي بصيغه كافة.
الجنون والاضطراب الأميركي ظهَرا من خلال كلمة المندوبة في مجلس الأمن والجمعية العمومية، في كلام يفتقد لأدنى المسؤولية الدبلوماسية وقواعد عمل القانون الدولي، من خلال إطلاق التهديدات بحقِّ الدول والشعوب والهيئات الأممية بقطع المساعدات والمحاسبة على التصويت ضدَّ أميركا و إسرائيل ، وهي بالمناسبة سابقة خطيرة أدركت الإدارة الأميركية المهزوزة قيمتها، فاستبقت العالم بإعلان القدس عاصمة أبديَّة للكيان الصهيوني، وفتحت الصراع المبكِّر مع الصين ولا زالت مستمرَّة به لوقف مسيرتها الإنمائية واندفاعتها الاقتصادية، وطرحت القرارات على مجلس الأمن لفرض العقوبات على كوريا الشمالية التي باتت دولة نووية ودخلت النادي النووي من الباب العريض، وأرادت إلغاء الاتفاق النووي الإيراني مع الخمسة زائداً واحداً والقيام باستقطابات إقليمية ودولية لعزلها ومنعها من توسيع نفوذها وضرب تقدُّمها الإنتاجي والاقتصادي، وليس آخرها المحاولات اليائسة لفرض عقوبات وعزل روسيا بعد أن تأكَّد حضورها الفاعل في الميزان الدولي، وفي تقرير شؤون أزمات المنطقة من سورية الى العراق واليمن ومصر وليبيا وغيرها، وبالتالي فإنَّ الولايات المتحدة اليوم بفقدانها تقريباً معظم أوراقها في المنطقة عادت الى النغمات القديمة التي جرَّبتها الإدارات السابقة وأخرجت ملفات غير صالحة للاستعمال، بل ومنتهية الصلاحية، كإعلان القدس أو الملف الأوكراني وإعادة تسليح أوكرانيا من جديد لإبقاء روسيا محاصرة ومنعها من تمدُّد نفوذها، وهي باتت ملفات عاجزة عن تحقيقها بسبب تفلُّت حلفائها وتحرُّرهم من السَّطوة الأميركية التي خدمت جنديتها ولم تعدْ تصلح بعد.
محاولة ترامب تطويق الصين وعزل روسيا واحتواء أوروبا التي خرجت من تحت العباءة الأميركية، تُظهر حجم كِبَرِ الملفات التي أراد حملها في الوقت نفسه، وهو ما يُخالف منطق التاريخ وبناء العلاقات الدولية. وإدارة العالم بالشراكة أو بالمنافسة، هي قواعد عمل دولية جديدة يخلقها ترامب لا تُظهِر معها إلاَّ الفشل والانكسار، فلا عادت أوروبا ومنها ألمانيا وفرنسا، وكذلك بريطانيا، تُعطي الثقة للأميركي. وهو ما نشهده من خلال سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالدخول على خطِّ أزمات المنطقة في سورية ولبنان والسعودية وأفريقيا، ولا بالنسبة لألمانيا واعتراضاتها على سياسات العقوبات الأميركية على روسيا، ولا بالنسبة لبريطانيا التي فتحت باباً جديداً للتعامل مع موسكو، وهو ما يخالف قواعد العمل السياسي والدولي المتوتِّر الذي أنتجته الإدارة الأميركية الحالية…
إنَّنا أمام مشهد عالمي جميل ومتميِّز، وعَظَمته أنَّك تشهد هذا المخاضَ بنفسك، وليس بحسب رؤية كونداليزا رايس، لتكتب في السطور حقيقة ما يجري…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية