الآن في زمن الاشتباك… أين المثقف العربي!؟
نصار إبراهيم
هذا زمن الاشتباك الثقافي السياسي الاجتماعي الشامل الذي يُغطّي مساحة العالم العربي بكامله…
في زمن الاشتباك هذا أنظر حولي وأتذكّر آلاف الأسماء المثقلة بالألقاب، نساء ورجالاً: البروفيسور، العالم، الدكتور، رئيس كرسي كذا… وكذا… المفكر، الفيلسوف، المنظِّر، الكاتب، المبدع، العبقري، الجهبذ… أتذكّر وأتذكّر… ثم يدوّي في رأسي السؤال… أين كلّ هؤلاء…!؟ فإذا لم يكن دورهم الآن، حيث الاشتباك الضاري على مساحة الوعي والعقل العربي في مواجهة ثقافة التجهيل والتدمير والتكفير والتمزيق والتقسيم والتشويه والاستلاب والخضوع والغزو السياسي والثقافي والعسكري والاقتصادي، فماذا ومتى سيكون دورهم!؟
إذا لم ينهض المثقف والمفكّر والعالم والكاتب العربي الآن لحماية وحراسة الوعي وتحصينه، وإطلاق جدل الفكرة في الواقع، إذا لم ينهض كلّ هؤلاء الآن ويخوضوا الاشتباك ضدّ القوى التي تستهدف، وبلا رحمة، تاريخ وحضارة وهوية ووعي الإنسان العربي… فمتى سيأتي دورهم يا ترى!؟
الآن زمن الاشتباك… الآن نحن بحاجة لذلك المثقف الذي كنا نحترمه ونستمع إليه وندّخره كالقرش الأبيض لمثل هذا اليوم الأسود… فإذا لم نجده الآن في دائرة الاشتباك الثقافي الممتدة على مساحة الوطن العربي كلّه منذ سنوات… فلأيّ شيء إذن نريده بعد ذلك!؟
الآن زمن الاشتباك… حيث تتعرّض الأوطان والإنسان للقهر والتدمير من قبل جيوش الظلام والجهل والثقافة الأنانية القاتلة طائفية أو قطرية أو جهوية… أو…، الآن حيث الفكر الظلامي الصاعد كجيوش الشياطين من عالم البشرية السفلي بكلّ ما فيه من نذالة وقهر وظلم واستعباد… الآن نحن ننتظر ونبحث عن المثقف الحقيقي ليقول لنا، كي يعمّق رؤيتنا ويفجّر عنفوان أرواحنا…
فإذا لم نجد ذلك المثقف العربي الآن، أيّ في زمن الاشتباك هذا، وفي دائرة الاشتباك هذه.. فمتى سنجده!؟
الآن في زمن الاشتباك… كلّ الأسماء والألقاب لم ولن ولا تعني شيئاً إذا لم ينهض أصحابها ليعطوا لألقابهم الفخمة تلك قيمة ومعنى حقيقياً وليس افتراضياً…
في زمن الاشتباك… حيث رحى المواجهة يدور بكامل قوته، سيهزّ غربال الاشتباك الواقع بصورة عاصفة، سيفرز الغثّ من السمين، وسيُفرز المثقف الحقيقي من الوهمي، سيفرز المثقف الجريء الشجاع من المثقف الهشّ والملتبس… حينها لن يحمي أيّ مثقف لقبَه، مهما كان صاخباً إذا لم يبرّر ذاته ويبرهن على ذلك في لهيب المواجهة الثقافية الممتدّ… وسينكشف على أنه مجرد قطعة حلوى رخيصة مغلّفة بورق ملوّن برّاق لا أكثر.
من أخطر مظاهر تهافت الكثير من المثقفين العرب في هذه المرحلة هو انخراطهم بوعي أو بدونه في عملية تكيّف تشبه «التكيّف الدارويني» نسبة إلى تشارلز داروين صاحب كتاب «أصل الأنواع» وفق تعبير الكاتب البريطاني جون هاريس، أيّ كالنباتات الصحراوية التي تقوم بتكييف ذاتها بناء على واقع الظروف الصحراوية والجفاف، إنها لا تعمل على تغيير تلك الظروف المجافية، كما لا تعمل من أجل مغادرة الصحراء، إنّ كلّ ما تقوم به هو التكيّف معها لا أكثر… أو كالحرباء التي تغيّر من لون جلدها كي تتماهى مع البيئة المحيطة بها، إنها تقوم بتغيير ذاتها وليس تغيير البيئة. هذا لا يعني أنّ مهارة التكيّف هي أمر سلبي دائماً، فهو قد يكون الخيار الوحيد أمام تلك الكائنات، أو في مرحلة وظروف محدّدة، ولكن حين يتعلق الأمر بالمثقف، فإنّ قبوله بالتكيّف مع الواقع ببناه الثقافية السياسية والطبقية المهيمنة، أو القبول بالمساومة على الفكرة، أو الانتظار كي ينجلي غبار المواجهة في محاولة للتغطية على الضعف أو العجز أو الإخفاق، سيذهب به طوعاً أو كرهاً نحو الموت أو الغيبوبة.
ذلك، لأنّ هذا السلوك يتناقض جذرياً مع دوره ووظيفته العميقة كمثقف، بما هو الانشغال بأسئلة الواقع بما يحمي وعي الناس من جانب، وصدّ هجمات التشويه والتدمير الثقافي من جانب آخر.
حالة التمزّق والجهل والعشوائية تجاه ما يجري في مجتمعاتنا العربية تشير إلى أنّ معظم المثقفين والكتاب يميلون للمثاليات والوعظ والفكر الغيبي أو الانتقائي أو الرغائبي وكأنه الحلّ… أو يذهبون لشتم الواقع وشتم الذات وكأنّ ذلك هو الردّ والطريق للتغيير… بينما المطلوب ممارسة ثقافية تخوض المواجهة لحراسة الوعي وتحصينه وهزيمة الفكر أو الثقافة التي تحاول هزيمة الوعي واحتلاله.
ذلك لأنه «من الضروري تجنّب طرح القضايا طرحاً عقلياً محضاً بدلاً من طرحها طرحاً سياسياً تاريخياً، وإلا ستبقى مجرّد استبصارات وتأمّلات شخصية تمثل نوعاً من «رؤية الأحداث بعد وقوعها» غرامشي ص 123 ..
الآن في زمن الاشتباك، حيث تجابه الأمة والمجتمعات العربية ومن ضمنها الشعب الفلسطيني الأهوال والويلات الاجتماعية والسياسية والثقافية والسلوكية يغيب الكثير من المثقفين والمفكرين الذين كان من المفترض أن يكونوا عند خط الواجب الأوّل…
الآن في زمن الاشتباك لا يعود هناك مجال لأيّ مهادنة أو مساومة ايديولوجية مع الغيبيّات والتكفير والتجهيل والشعوذة «الدينية» أو الاجتماعية، أياً كان مصدرها… إنها مواجهة تستدعي أن يغادر المثقف سياسة الدفاع… والانتقال للهجوم الثقافي… فالمواجهة الفكرية الثقافية من أصعب وأعقد المواجهات… ذلك لأنها صراع على الوعي…
هذا التحدي الثقافي يواجه اليوم مجمل المثقفين العرب والفلسطينيين، الذين عليهم أن يعيدوا النظر في دورهم ووظيفتهم العميقة، ومغادرة مصيدة «الفكر اليومي» وفق تعبير مهدي عامل.. ذلك «لأنّ الفن الرديء الذي يروّج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أيّ شعار كان، لا يقلّ ضرراً عن السلاح الرديء»، كما يقول محمود درويش.