هاجس الحرّية لدى عنترة بن شدّاد
أحمد الشيخاوي
معجزٌ حدّ الخيال ما تنسجه الأقدار، وليس كلّ العصر الجاهلي متاهات للتخبّط الروحيّ وانحسار للعقل في أدغال الغشاوة والغيّ والظلام.
بل لتاريخ الجاهلية مروءة ـ ربما ـ نفتقر إلى نظيرها اليوم، في إنجاب شخصية أسطورية وعملاقة من طينة شاعر السيف والقلم بامتياز، العبسيّ عنترة، كاسمٍ لأطياف لم تزل تثير الرعب في المخيّلة، وتستعذب تجلّيات الفصاحة والقوّة، وتغازل الذاكرة، وتذكّي فتيل المفخرة والانتماء إلى التراث العربي المتجذّر في الوعي الإنساني إلى أجل غير مسمّى ولا محدود.
إن العلاقة غير الشرعية والمتغذّية من نتانة الكواليس وسلطة التقاليد والتقيد بالأعراف القبلية، ولحظة النزوة العابرة ـ إن شئنا ـ والحميمية الحذرة التي أثمرت قدوم عنترة إلى الوجود، كمزيج لدم نبيل وثانٍ متّهم بالجذور الحبشية في شتّى دوالّ المفهوم المحيلة على الدونية والعبودية والامتهان. أنا هاهنا من منبري هذا، أدحض وبأريحية افتراءات من يتأوّلون الظاهرة على أساس عرضيّ صرف، من غزْل الصدفة وإملاءاتها، لأجزم أنه صناعة لأنامل سماوية علوية لا تدع مسافة للثغرة أو الخطأ أو الحظّ.
لكن العلاقة بين النوعين، سيمنحها شاعرنا لاحقاً وبمعيّة بنت عمّه عبلة، صبغة القداسة والمثالية المنقوصة بسبب واقع العبودية المذكور، وثقل الحمولة الوجودية بنبض هاجس الحرّية واستحواذه الكبير.
ولعلّ ما يهمّنا أيضاً، الجوانب الخارقة للعاديّ والطبيعيّ، ونحن بصدد النبش في سيرة فارس الحبّ والحرب عنترة كشخصية حديدية تتباهى بعنصر القوّة واستعراضاتها لفرض الذات، وجني الاحترام، ضمن مرام شموليّ وغرض كامن يجسّده منال الحرّية والفكاك من الأسر الروحي أساساً.
سيتدرّج، لا بل سيختصر المسافات، إلى نخاع النهج السياسي المهيمن آنذاك، ليغتدي الساعد الأيمن لزعيم عبس. وقد أظهر حنكة نادرة في استثمار الطاقة الجسدية الهائلة التي يمتلكها هذا البطل، لاستقواء لافت ونزعة توسعية إمبريالية كونها نهضت على سفك الدم بغير حقّ في كثير من الأحيان، كما محفّزات الثأر والانتقام، تبعاً لرؤى أنَوِيّة مقيتة مثلما تمليها زعامة تروم ضمّ عددٍ من القبائل تحت راية واحدة، وتتشرّب إيديولوجية النظام الملكي كسابقة لم يعهدها العرب.
يحقّق صاحبنا جلّ مآربه وأهدافه التي خطّط لها على امتداد عمر طافح بهاجس طلب الحرّية، وداخل جغرافية يتناغم في رسم ملامحها حدّ السيف وجمالية الحرف، لكن… تستعصي لحظة الظفر بعبلة من حيث إلحاح وضغوطات الاشتهاء والغواية الجسدية ليمكث الوصل عذرياً إلى الأبد.
بيد أنّ المثير في القضية برمّتها، نكهة اجترار سيناريو لا يتأتّى لسوى صفوة ممّن طالتهم دوخة البرزخ ودغدغة الخيط الرفيع الفاصل بين نعمة التوحيد ووثنية الجاهلية الأولى.
ثمّ ملمح البطولة والمشهد الاستطيقي في رصد طقوس نهاية ومصرع قامة تاريخية هلامية حَوَت معاني الفحولة في قرانٍ جهنميّ للسيف والكلمة.
شاعر وناقد مغربيّ