مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
عندما ألقى وزير الخارجية جبران باسيل كلمته خلال انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب بعد قرار ترامب المشؤوم الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، أكبرناه وأثنينا على موقفه، لا من موقع الإعجاب بمضمونه السياسي في لحظة تتطلب الجرأة والشجاعة الأدبية والعملية فحسب، بل من جهة التزام لبنان بقضية شعب سُرقت أرضه وانتُهكت مقدّساته وشُرّد أبناؤه. وباسيل نفسه يؤمن بأنّ مواجهة المشروع «الإسرائيلي» بالمقاومة هو التعبير والتفسير الطبيعي الحقيقي الوحيد. فيقول: «نحن في لبنان لا نتهرّب من قدرنا في المواجهة والمقاومة حتى الشهادة.
نحن من هوية القدس لا نعيش إلا أحراراً وننتفض بوجه كلّ غاصب ومحتلّ». لكن ما سمعناه منه خلال مقابلة على قناة «الميادين» أصابنا بالصدمة. فوجدنا أنفسنا أمام شخصيتين ووجهين وموقفين وخطابين أحدهما نقيض للآخر. فعندما ينفي أن يكون لديه «قضية أيديولوجية»، وأنّه لا مانع لديه من «أن تكون «إسرائيل» موجودة، ولكن المشكلة في قبول «إسرائيل» لنا كشعوب عربية»، وكان قبلها قد قال: «القدس ليست قضية بل هي القضية، لأنها عنوان هويتنا العربية»، فيعني ذلك أننا أمام إشكالية فكرية بدرجة أولى وإشكالية سياسية خطيرة في المرتبة الثانية. إذ كيف لا تكون لديه قضية أيديولوجية وقد تحدّث عن فلسطين العربية والقدس العربية! أوليس هذا الإيمان بعروبة القدس وفلسطين أيديولوجيا؟ فكيف يريدهما عربيتان وهو يقبل بـ شعوب تعيش بأمان وتعترف ببعضها البعض . معنى ذلك أنني كلبناني عليّ أن أعترف بـ الشعب اليهودي – إنْ صحّ هذا التعبير – في فلسطين! وكيف أعترف به شعباً وهو مؤلف من عصابات وجماعات إرهابية محتلة غاصبة تمارس العدوان والقتل والفساد والإجرام؟ أم أنّ القضية التي تزعجه فقط هي إعلان الإدارة الأميركية القدس عاصمة لـ إسرائيل ، وهذا يتعارض مع الصيغ المطروحة لتسوية الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» بإقامة دولة لفلسطين في القدس الشرقية!! فإذا كفت «إسرائيل»، ومَن يدعمها، أيديهم عن هذا المخطط، فحينئذ لا مشكلة في تطبيع العلاقات والاعتراف بـ«إسرائيل» و«شعبها»، ولا أسف على فلسطين التاريخية ولا حزن على الضحايا وهم بمئات الآلاف، وأهلاً وسهلاً بالغاصبين والمحتلين وقاتلي الشعوب!
لا أدري كيف تُقاس الأمور؟ أو ما هو الذي يدور في خُلد من يتبوأ موقعاً حساساً كالوزير جبران باسيل. ما سمعناه صادم نفسياً وأخلاقياً وسياسياً ودينياً. إذ كيف يمكن أن يتحوّل شخص خلال أسابيع قليلة من وزير مقاوم إلى وزير يدعو إلى التطبيع والسلام مع المعتدين والغاصبين؟ ومن أين؟ من بلد المقاومة والشهادة والتضحيات! من بلد، أفشل شبابه المؤمنون، كلّ مشاريع تصفية القضية الفلسطينية وتحويل لبنان رأس جسر للعبور إلى «إسرائيل الكبرى».
فلسطين يا سعادة الوزير، هي قضية وهي أيديولوجيا وهي الحرية والعدالة وهي الحق وهي تلك التي دعوتنا جميعاً لنحميها وندافع عنها حين قلت: «تعالوا ننتفض لعزّتنا ونتجنّب لعنة التاريخ وأسئلة أحفادنا عن تخاذلنا، لأنّ الانتفاضة وحدها تحفظ ماء وجهنا وتعيد حقوقنا، فإما أن نتحرك الآن، وإلا على القدس السلام ولا سلام». يا سعادة الوزير النشيط الذي نجلّ ونحبّ. فلسطين بكلّ شبر منها ليست أرضاً قابلة للهبة والتنازل والمساومة والإيجار، و«إسرائيل»، بكلّ جغرافيتها المفتعلة بقوة القهر والعدوان والاغتصاب، لن نرفعها إلى رتبة دولة، وعصاباتها إلى درجة شعب. وهذه الدولة المصطنعة لا تملك حقاً بالعيش حتى يكون لها حق بالأمان. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام «مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ». وهذا ما يُخيفنا لو كان ما ظهر في فلتات لسانك هو ما تريده حقاً! لا نريد توضيحاً فقط. نريد حقيقة موقفك وما أنت به مؤمن لنعرف إنْ كنتَ مقاوماً مبدئياً أم سياسياً يقرأ الأمور من جهة التوازنات!