عن الرقابة والمراقبين والمتراقبين!
أيمن عبيد
عن أيّ رقابة بعد يأخذ الحديث مداه في دنيا العرب ويستطيل؟ وأيّ عقلية تلك لا تنفكّ تقدح زناد فكرٍ مغلقٍ، وتنبش في أضابير أزمنة سالفة لاستحضار ما بلي من وسائط الإخضاع، وتشييد جزر عازلة لنفي ملكات الإبداع، ودفن المتمايز من تجلّيات جسورة تصدح بانشقاقها عن ثقافة القطيع، في أجواف بلا قرار.
نكاد لا نصدّق أنّ ذهنيات إلغائية كهذه، بما تنطوي عليه من نزق وطبائع سلطوية، ما فتأت تضرب بقبضة من حديد، في زمن اجتياح عارم لثورة جذريّة في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، جرفت في سبيلها، إلى ما جرفته من مفاهيم ومناهج ونظريات كانت حتى أمس قريب أشبه ما تكون بطوطم مقدّس، كل طرائق وخطوط وميكانيزمات الإذعان والحجب والتعتيم، وهوت بفأس عملاقة على حدود وأسلاك دامية قامت لتفصل بين البشر، فإذا العالم يستحيل إلى قريّة كونية، تهتك في ربوعها خزائن الأسرار، وتجري أحاديث المعارف على كل لسان، وتسقط من شاهق جثث متحلّلة لأنظمة ومسارات وإدارات سادية، لطالما اعتاشت على صيد العيون التي تبصر في الظلام، وإضرام النيران في بساتين الأفكار الحبلى في أثمار التغيير. إلى أنّ انبلج تاريخ جديد، قالباً الموازين رأساً على عقب. وكان من أعمق تجلياته أثراً في حياة الإنسان المعاصر، شيوع منصّات كوكبية تسبح في فضاءات التواصل الرقمي، وعلى متنها محمولات معرفية مفتوحة الزمان والمكان، في مختلف جوانب وأبعاد وألوان النشاط الانساني، من علوم ومعارف وفنون، تجوب ليلاً نهاراً في أربع زوايا الأرض، بلا حدود مانعة، ولا رقيب زاجر يدسّ أنفاً غليظة في كل شاردة أو خاطرة. وغداً من السهولة بمكان، عبر ذلك الفضاء السرمدي، ومنصّاته الثورية العابرة للقارات، أن يعبر، في طرفة عين، إلى عموم الدنيا، إنتاج ابداعيّ وفكريّ يواجه أصحابه حرماناً من الساحات الجغرافية الأساسية لنشاطاتهم، من قبل سياسات حكومية مغفّلة، ما برحت تنطلق في نظرتها إلى حرّية الإبداع، من قواعد تحنيطية لزمن غابر بعيد، مفارق للواقع ولمعطى تكنولوجي ثوري راح يفرض نفسه بقوّة حركة التاريخ، فنراها تمعن في تأبيد القديم، وإقامة المتاريس بوجه رسالات الحداثة، والإيغال في اعتماد أدوات وآليات الهيمنة، لتكريس إطباقها على نبض المجتمع، وتركيب وعي جمعي مطواع في مختبرات التهجين، والسهر على عزل أمزجة وحساسيات ثقافية وفكرية مغايرة، تنهج عكس التيار وتتعهد تشريح ظواهر اجتماعية وسياسية مسكوت عنها، قازفة زنخ المياه الكاسدة بحجر فوار، فتنهض للتوّ من المحابس سؤالات مقموعة، وتنفتح نوافذ عريضة على ما هو شائك وجدليّ لتقليبه نقداً وتفكيكاً في بساط التداول.
الأفلام السينمائية الثلاثة المصادرة حديثاً في مصر، ليست بعيدة عن المضمون ذاك. فقاسم خطابها المشترك، على ما كشفت عنه تسريبات صحافية من كواليس جهاز الرقابة المصري، ينحو بجلاء، رغم اختلاف معالجاتها الدرامية، نحو تعرية الأفكار والشعارات والأقنعة التي طالما زيّفت، ولا تزال، وعي الاجتماع المصري، في كثرته الساحقة، وتسهم في حرفه بعيداً عن التفاعل إزاء قضاياه وشواغله الحقيقيّة.
والحال، إنّ محاولات فنيّة كثيرة ما زالت تعامل معاملة المحرّمات بين المشتغلين بالسينما المصرية خاصةً، والعربية بنحوٍ عام. صحيح أنّ بعض هذه المحاولات يسمح لها بالمرور أحياناً، والإطلالة على جمهور واسع، لكنّها لا تعدو، في نهاية المطاف، عن كونها جرعات محسوبة تعطي بناء على حسابات دقيقة، غالباً ما تعكف على وضع خطوطها الرئيسة أجهزة أمنية متغوّلة، بمعزل عن جهاز الرقابة المعني بالمصنّف الفنيّ، الذي يندرج دوره لاحقاً في تصريف هذه الحسابات وجرعاتها المحكومة، تحت عناوين وشعارات فضفاضة تتيح له التحكّم في مجرى العملية الفنيّة وضبط تفاعلاتها، وإخضاع ما يحيد من أعمال عن جادّة اللاءات الحمراء إلى جلسات تقليم وتشذيب، لترويض طروحاتها المشاكسة، وجعلها تسلك مدارج الاستئناس، وإذا ما استعصت، فسلاح المصادرة دائم الحضور.
وهكذا تمضي الرقابة الفنيّة، كما سواها من رقابات مموهة أو مكشوفة تثقل على صدور مجتمعاتنا المأزومة، في ترجمة المهام الموكولة إليها، فتغلّب الأمن على الفنّ، وتقود دفّة القافلة علي خطى ما يرسم لها في غرف سرّية، يرفدها في أداء دورها المركّب هذا، إلى أكذوبة حماية الذائقة الجمعية من شرّ الابتذال، وتنقية خارطة الفنّ من مثيري الغرائز والانحلال والمستوى الهابط، تشريعات سيّئة السمعة تحاك خصّيصاً للنيل من مساحات الفعل الإبداعي المستقل، وفسح المجال لوصاية بغيضة يراد لها أنّ تبقى مسلّطة دوماً على عقل المجتمع وأنظمته الحيوية. خلاصة القول، لم يعد جهاز الرقابة الفنيّة في معظم بلدان العالم، جهازاًَ للمنع أو التصريح، بل مجرد لجنة لتصنيف الأفلام بحسب أعمار المشاهدين. فإلى أيّ مدى يطوّق أعناقنا ذلكم الاستثناء المعيب، حيث الرقابة في صوَرها وميادينها وأشكالها المختلفة، لا تلبث أن تتغوّل على أكثر من صعيد، في ربوع بلادنا السعيدة، وتتمدّد وتثير كثيراً من الغبار والأسئلة التي تستمر قيد المقاربة والتجاذب، بينما سفينة الآخر المتقدّم تواصل إبحارها، متحديّةً الأنواء والأمواج، لاصطياد الوافر من المكتشفات والاختراعات العلمية والتكنولوجية التي ترسّخ يومياً لمفهومات الانفتاح الإنساني، ومدّ شبكات التواصل الكوني، وكسر السدود، الحقيقي منها والمصطنع بين سكّان الأرض جميعاً، بما يجعل من الحديث الدائر والممتّد عن الرقابة والمراقبين والمتراقبين، في العالم العربي أقرب إلى أحاديث النوادر والطرف المضحكة حتى البكاء، فمتى يفيق الغافلون؟
كاتب مصري