«هنا الوردة» لأمجد ناصر رواية الإرباك النقدي

ليندا نصّار

يربك أمجد ناصر تلقّينا الروايةَ العربيةَ في «هنا الوردة» الصادرة عن «دار الآداب» ـ بيروت، ليس فقط من حيث طبيعة اللغة الروائية وشاعريتها، بل حتى في طرائق بناء المحكيّ في هذا العمل، الذي أتخيّل كم سيكون صعباً بالنسبة إلى الناقد العربيّ الذي تعوّد نمطاً معيّناً من الحكي.

إن الرواية تعمل على نسج خيوط رفيعة في منطقة الاحتمال بين ما هو شعري وما هو سردي إلى درجة أن الشعر يصبح ملازماً للجملة الروائية، وراصداً عميقاً لنفسيات «يونس الخطّاط»، الشخصية التي تعود لتظهر من جديد بعدما أربكتنا في الرواية الأولى «حيث لا تسقط الأمطار»، وما صاحبها من تشكيل لمتخيّل الخط، وهوسه بالانفصام التاريخي لهذه الشخصية. هل هذه العودة مرتبطة برؤية عميقة في النفس البشرية من حيث طرحها لمفهوم الإنسان بمعناه الفلسفي؟ أم أنّ طبيعة السرد الروائي الذي يقترحه أمجد ناصر في تجربته الروائية يفجّر الحدود بين ما هو شعريّ وما هو سرديّ، لصالح رواية يمكن أن نطلق عليها رواية النثر الحرّ، الذي يتطلب جهداً نقدياً كبيراً من أجل تفكيك بنياته، لا سيّما أنّ الكاتب خبير بهذه الحدود التي سبق أن جرّبها في دواوينه الشعرية. هذه الشاعرية تستقرّ في السرد المتواصل عبر تقريب الأحداث من القارئ، إلى درجة تصير أكثر حداثة من حيث اختراق الشعر لبؤرة السرد.

إن التنويه الذي يصدّر به الروائي روايته يفتح المتخيّل على تمثيلاته المتعدّدة، خصوصاً أنّ الإشارة تبعد أحداثها من الواقعيّ في أيّ بلد كان. كما لو أنّ الكاتب يصرّ على اعتماد التخييل بوصفه شكلاً من أشكال كتابة هذا المحو، الذي يتهدّد المجتمعات العربية على اختلاف توجّهاتها السياسية والأيديولوجية، في ظلّ تحكّم المؤسّسات، ما يدفع إلى طبيعة التسميات التي تتنوّع بتنوّع البيئات المصاحبة لها. قد نفهم في السياق ذاته، أنّ المتخيّل الذي يعمل على بناء تصوّراته في هذا العمل الروائي لا يرتبط بالحكاية، بقدر ما يرتبط بطبيعة التأويلات التي يمكن أن تكون مفتاحاً لهذه القراءة. ثمّ نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع عنوان الرواية بعده كعتبة أساس، خصوصاً أنه مستوحى من عبارة لماركس «هنا الوردة فلنرقص هنا». هل هي وردة الثورة التي ذبل معها الإنسان العربي، وتحوّل بموجب رقصها إلى شظايا في جغرافيات المكان؟ أم هي الوردة التي قُطفِت من حديقة الإنسان العربي، وحوّل عطرها إلى سمّ قاتل لوأد الإنسان بكل أشكال الهيمنة؟ لهذا فالرقص الملازم لهذه الوردة هو حكي لتاريخها المنسي في زجاجات هذا الزمن الذي يحرم الرقص؟ إنه تعبير عن زمن ولّى، ودعوة إلى التمسّك باللحظة الحاضرة بما تختزنه من مفاجآت. هل هي وردة تمّوز؟ أم وردة تقول الممكن الذي يمكن استشراف مظاهره من خلال عودة شخصية يونس الخطاط مجدّداً إلى فضاء الرواية، بوصفه نقطة انطلاق تتمحور حولها الأحداث، عبر متخيّل يجعل من العجائبي أداة لبلورة رمزية دالّة على واقع غريب، سواء من ناحية مغامرات يونس الخطاط وعلاقاته بالشخصيات التي تتناوب معه حول الأفعال، وتخضع بموجب السرد إلى ردود قوية تجعل القارئ يشعر بقشعريرة من جرّاء قوة الوصف الذي تتخلّله شاعرية كاشفة لهذا الداخل الملتبس بالخيانات التي تعرض لها التنظيم السرّي، وما رافقه من تدمير وهتك لكل الشعارات التي كان يتم رفعها، عبر استراتيجيات سردية مُحكمة تساهم في معقولية السرد التي ينهجها أمجد ناصر، ليصبح معها «يونس الخطّاط» فارساً حالماً بزمن لم تعد فيه الفروسية تعطي للإنسان العربي وضعاً اعتبارياً معيّناً.

إنها إدانة كاشفة للزائف الذي تم تغليفه في جسدية المناضل الثوري الذي استكان إلى عزلته بعد موجات النفي والاغتيالات والقتل الرمزي.

يحاول الكاتب أن تكون الشخصية نقطة محورية من خلالها تتوزع الرواية لترتبط ببعضها عبر هذا الخيط الذي يبدأ منذ بدايتها وحتى نهايتها تاركًا الفضاء الدلالي مساحة تتسع للأحداث المتشعبة والمتعاقبة زمنياً.

تجدر الإشارة إلى زوايا الرواية التي تتضمّن ملامح لماضٍ اتخذ له مكانة مهمة في الذاكرة التي تعيد إلى الشخصية التمسك بهدفها وتوجهها نحو قرارات معينة، فيأخذنا الكاتب إلى عالم أكثر واقعية. ويجعلها تعيش حالات قلق وانتظار وتفكير. ولا ننسى الراوي الذي يتدخل فجأة في الرواية وكأنه يمد خيطًا يساعد القارئ على اكتشاف الأسباب والمسببات، ويعطي الأعذار للشخصية الرئيسة «يونس الخطاط» التي تتصرف بتسرع في معظم الأحيان، هذا الأمر يشكل لدى القارئ رؤية معينة أو توقعات تجعله مشاركاً في السرد وتدخله في العوالم السردية.

يمكننا ربط هذه الرواية على مستوى التجربة بـ«دون كيشوت» من حيث التجربة الإنسانية التي تسكن عقلها عمارات من الأحلام وما تلبث أن تعود إلى حقيقتها وتتبدى كأوهام لا وجود لها من الأساس. فتعبر عن فلسفة حياتية لإنساننا المعاصر بوصفه عاجزاً إزاء الأحداث التي يعيشها وسط هذا الدمار الذي يغلفه سطح من الأوهام.

يبقى أن نذكر تميّز الكتابة السردية لدى أمجد ناصر بالقدرة على بثّ العناصر الجمالية، بحيث لا يتوانى الكاتب في ربطها لثقل السياق الاجتماعي الذي يشكل المادة الأساس للرواية. يعالج الكاتب حالات اجتماعية فُرض عليها وضع معيّن كما يرصد تحولات هذا المجتمع فتمر الرواية بعدة أزمنة تتواكب والأمكنة. ويعود بنا الكاتب بالتاريخ إلى أصل «يونس الخطّاط» ولقبه لينقلنا إلى أماكن تمثل فيها الشخصيات أدواراً مختلفة من دون أن يخضع المتلقي إلى خواتيم متوقعة. كما تبتعد الرواية عما هو مألوف، فالكلام فيها مستحدث ويتسم بلغته السهلة والواقعية، ونجد فيها تلميحات لشعرية معيّنة، إذ إنّ الكاتب قد صنع لنفسه عالماً شعرياً لا بدّ من أن تظهر آثاره في رواياته أيضاً.

شاعرة وكاتبة لبنانيّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى