خلفيات التناقض بين السياستين التركية والأميركية

إبراهيم ياسين

لا يزال الموقف التركي من مسائل الصراع في المنطقة يثير التساؤلات لدى الكثير من المراقبين والمحللين، فكيف تكون تركيا حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية وعضواً أساسياً في حلف الناتو ذراع الغرب العسكرية لتحقيق أهدافه الاستعمارية، وفي الوقت نفسه تتخذ مواقف على النقيض من السياسة الأميركية الغربية في سورية وفلسطين وإيران وروسيا، حيث يبدو من الواضح أنّ تركيا اليوم تتخذ موقفاً ضدّ الاستراتيجية الأميركية الداعمة للأكراد في سورية والعراق وتعزّز علاقاتها الاقتصادية مع كلّ من روسيا وإيران فيما الولايات المتحدة تفرض عقوبات اقتصادية على هاتين الدولتين.

أما في فلسطين فإنّ الموقف التركي حتى ولو كان لفظياً، فقد عارض قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة كيان الاحتلال الصهيوني. وهل تؤدّي مثل هذه الخلافات إلى تبدّلٍ جذريّ في السياسة التركية وانتقال تركيا من تحالفها الاستراتيجي مع أميركا والغرب إلى التحالف مع روسيا ومنظومة دول منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس؟ أم أنّ هذه الخلافات إنما تندرج في سياق الخلافات التكتيكية المؤقتة التي لن تؤدّي إلى حصول تبدّل استراتيجي في موقف تركيا وتموضعها؟

الواضح أنّ مثل هذه الخلافات لم تظهر إلا عندما شعرت تركيا أنّ مصالحها وأمنها القومي قد يتضرّران من التكتيكات الأميركية الغربية، فمثلاً الموقف الأميركي من الأكراد في سورية والعراق والذي يعزّز طموحاتهم ويشجّعهم على التصادم مع الدولتين السورية والعراقية انطلاقاً من الاستراتيجية الأميركية التي تسعى إلى استخدام الأكراد ورقة ضغط وابتزاز لكلّ من دمشق وبغداد، من أجل الحصول على مكاسب وتنازلات سياسية تمسّ استقلالهما الوطني لصالح فرض نفوذ أميركي في الداخل السوري والعراقي عبر إدخال بعض الجماعات المرتبطة بالسياسة الأميركية في تركيبة الحكم داخل الدولتين.

هذا الموقف يستفزّ تركيا ويثير قلقها، لأن تنامي قوة الأكراد في المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا يقوّي النزعة الاستقلالية للأكراد في تركيا نفسها، والذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان تناهز الـ 20 ، ويتركّز وجودهم جنوب شرق الأناضول وهم يكافحون منذ عقود للحصول على حقهم في إقامة حكم ذاتي، وهو ما ترفضه تركيا وتعتبره خطراً يهدّد وحدتها، وظهر هذا الموقف التركي في رفضها الاستفتاء الذي أجراه مسعود البرزاني في إقليم كردستان العراق للانفصال وإقامة دولة كردية. وهذا الموقف التركي هو ما دفع بالرئيس رجب طيب أردوغان إلى التقارب من روسيا وإيران وأخيراً الحكومة العراقية والتنسيق معهما لمواجهة أيّ محاولة كردية مدعومة أميركياً لإقامة كيان كردي في سورية أو انفصال إقليم كردستان العراق عن الدولة العراقية، كما أنّ تركيا اضطرت إلى توطيد علاقاتها الاقتصادية مع إيران وروسيا لأنّ الاتحاد الأوروبي يرفض الموافقة على انضمام تركيا إلى الاتحاد، وبالتالي يَحْرُم منتوجاتها الاقتصادية والصناعية من الدخول إلى دول الاتحاد من دون قيود عملاً بالنظام القائم في التبادل التجاري بين الدول الأعضاء في الاتحاد. ولذلك لم يكن لدى تركيا من خيارات سوى الانفتاح على كلّ من روسيا وإيران لتأمين أسواق لمنتجاتها، وهذا ما حال دون وقوع أزمة اقتصادية واجتماعية في تركيا. فالتبادل التجاري بين تركيا وكلّ من إيران وروسيا يبلغ عشرات المليارات من الدولارات، ومن المتوقع أن يناهز المئة مليار في السنوات المقبلة مع روسيا وحدها، كما أنّ هذا التبادل بدأ يتخذ اتجاهاً جديداً لناحية التخلي عن إجراء العقود والصفقات التجارية بالدولار واعتماد العملات الوطنية، وهو ما يعزز قوة هذه العملات ويحدّ من التضخم. طبعاً فإنّ هذا التوجه يثير غضب أميركا لأنه ينعكس سلباً على قوة الدولار، وقد ردّت واشنطن على انتهاك تركيا للعقوبات الأميركة على إيران باعتقال أحد رجال الأعمال الأتراك بتهمة خرق نظام العقوبات.

وفي موضوع فلسطين فإنّ موقف الحكومة التركية في رفض قرار ترامب، إنما يعود في أسبابه الحقيقية إلى رمزية القدس بالنسبة إلى الشعب التركي وهو ما يفرض على أردوغان اتخاذ موقف رافض لتهويد القدس لا سيما أنّ تركيا شهدت تظاهرات شعبية واسعة مندّدة بقرار ترامب، وبالتالي فإنّ موقف أردوغان لم يتجاوز حدود التنديد واتخاذ الموقف في الأمم المتحدة الداعم للموقف الفلسطيني، لكنه لم يُقدم على أيّ خطوة عملية، إنْ كان لناحية قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، أو استدعاء السفير الأميركي في أنقرة وإبلاغه احتجاج تركيا ورفضها لقرار الإدارة الأميركية.

يبدو إذاً أنّ العلاقات التركية الأميركية الغربية محكومة حتى الآن بالموقف من هذه القضايا الخلافية وسعي تركيا إلى حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية من أيّ ضرر نتيجة السياسات الأميركية الغربية، ولذلك لا يمكن القول إنّ العلاقة الاستراتيجية التي تربط تركيا بأميركا وحلف الناتو قد تبدّلت طالما أنّ تركيا لا تزال جزءاً أساسياً من حلف الناتو، وطالما أنّ القواعد الأميركية موجودة على الأراضي التركية، وطالما أنّ تركيا لم تتخذ أيّ موقف عملي من كيان الإحتلال الصهيوني وتدعم الانتفاضة الفلسطينية بالمال والسلاح. لكن المصالح الاقتصادية وأمن تركيا القومي اللذين يتسبّبان بهذا التناقض، ويجعل تركيا مجبرة على التعاون مع روسيا وإيران في الملف السوري يبقى هو الأساس الذي سيحكم العلاقات التركية الأميركية الغربية. فاستمرار أميركا في تجاهل مصالح تركيا وأمنها القومي يدفع تركيا إلى التعاون أكثر مع روسيا وإيران وصولاً إلى الانفتاح على سورية ورفع الغطاء نهائياً عن الجماعات المسلحة في إدلب لدرء خطر نشوء كيان كردي في شمال سورية، لا سيما أنّ الحرب في سورية توشك على نهايتها، ولا أمل في تحقيق أيّ هدف من أهدافها التي أرادتها حكومة أردوغان، فيما مصالح تركيا الاقتصادية تُملي عليها أيضاً إعادة النظر في سياستها من سورية، وإذا كانت تريد الإستفادة من إعمار سورية وزيادة منسوب التعاون والتبادل الاقتصادي مع كلّ من روسيا وإيران اللتين تحسنان بشكل واضح الاستفادة من الخلاف التركي الأميركي ورفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إليه، وهما تربطان روسيا وإيران أيّ تطوير للتعاون الاقتصادي وإعطاء تركيا المزيد من الحوافز بتعاونها في تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه في أستانة وسوتشي. لذلك فإنّ السياسة التركية ستبقى محكومة بارتباطها الاستراتيجي مع أميركا وحلف الناتو من جهة، ومصالحها الاقتصادية والأمنية التي تفرض عليها إقامة علاقات التعاون مع كلّ من روسيا وإيران، وأخيراً العراق وسورية بعد فشل أهداف الحرب الإرهابية فيهما.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى