العين الأميركية ترعى «سعودية» الأمير الواحد!
د. وفيق إبراهيم
تنطلق «السعودية الجديدة» بقيادة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان نحو مزيد من الإمساك الدكتاتوري الفردي بالقرارات السياسية والاقتصادية والدينية. فتواصل إبعاد عشرات آلاف الأمراء عن مواقع القرار المتعدّدة بما يغيّر شكل الحكم في مملكة الرّمال من شركة عائلية يقودها كبيرها، إنّما بمعونة آلاف الأمراء الذين يتوزّعون المواقع العامّة والخاصة على أساس أنّهم شركاء يملكون «السعودية» بمفهوم «الوراثة الإقطاعية» العائدة للقرون الوسطى.
أمّا الساهر الدائم على نمط السعودية «الشركة»، فكانت السياسة الأميركية التي ترعى الآن تحوّلها المعاصر إلى دكتاتورية الأمير الملك المتسلّل من خارج نظام المداورة بين الأشقاء والأحفاد، منصِّباً نفسه ملكاً بما يشبه الانقلاب الصاعق على الوراثة السعودية التقليدية، ومؤسّساً لمملكة محمد بن سلمان وأبنائه من دون شركاء القرابة والنسب والتاريخ.
تثير هذه الوضعية مئات الأسئلة التي تنطلق بداية من قدرة محمد بن سلمان على إنتاج مثل هذا التغيير الاستراتيجي العميق في مملكة تخضع منذ 1945 للنفوذ الأميركي الذي يعتبرها قلب الجيوبوليتيك الخاص به، ما يعني صعوبة هذا التغيير من دون تشكّل أمرين مترابطين: امتلاك قوة داخلية سعودية ضاربة تستطيع إقصاء آلاف الأمراء وتوفير تأييد أميركي واضح.
ويبدو أنّ هذا التأييد هو الوحيد القادر على تغطية الزلزال السياسي الكبير الذي ينفّذه محمد بن سلمان، الذي يتموضع على مقربة من والده الملك الحالي سلمان بن عبدالعزيز، فهو وليّ عهده، وهذا يبيح له استعمال مصادر القوة العسكرية والأمنيّة والدينية والاقتصادية للإمساك بالوضع الداخلي، مدعوماً من التغطية الأميركية الضرورية، التي من دونها يتحوّل هذا التغيير مجموعة حروب داخلية من شأنها تفتيت هذه المملكة إلى عشرات الكيانات.
أمّا لماذا هذا الاهتمام الأميركي بهذا التغيير؟ فهذا عائد إلى الأهميات التقليدية للسعودية على مستوى امتلاك أكبر احتياطات نفطية في التاريخ، بالإضافة إلى إمكانية وجود «غاز» ومصادر معادن أخرى في مساحة هذه المملكة التي تُناهز 2 مليون كيلومتر مربع، وهناك أيضاً الحَرَمان الشريفان في مكة والمدينة، اللذان يمسكان بمليار وخمسمئة مليون مسلم يتوزّعون على مئات الدول، مشكّلين النفوذ الديني للسعودية، وبالتالي النفوذ السياسي. ويمكن أن يتحوّل نفوذاً اقتصادياً لو كانت السعودية دولة صناعية، لكنّها تكتفي بتجيير هذه المهمة الاقتصادية لراعيتها السياسية الأميركية، مع اقتطاع جزء للعالم الغربي، وسهم بسيط للزوم المصالح السياسية لآل سعود في ما تبقى من العالم لإرضاء زعيم هنا وقائد هناك… ودول عربية يُراد استتباعها.
لكن النفط والإسلام أصبحا من الأهميات التقليدية، ولا يكفيان لتغيير مملكة آل سعود إلى مملكة محمد بن سلمان. ولا بدّ من وجود أسباب إضافية تفرض على الأميركيين تأمين تغطية كاملة لهذا التحوّل الذي تقدّمه وسائل الإعلام تحايلاً على أنّه من إنجازات أمير طموح يريد احتكار الملك خارقاً تقليد عائلته.
هنا يذهب المنطق السويّ نحو مسؤولية الأميركيين الذين يعتبرون بموجب تفاهمات عالمية سابقة ولاحقة على أنّ الخليج جزء من الجيوبوليتيك الأميركي الذي لا مزاح فيه مطلقاً أي أنّه واحد من مناطق قليلة في العالم لا تتورّع واشنطن عن خوض حرب من أجل استمرار الإمساك بتلابيبه.
لذلك يجب وضع هذا التغيير السعودي في إطار الحاجات الأميركية فقط… فما الذي استجدّ لديهم؟
كان مشروعهم الذي عبّرت عنه وزيرة خارجيّتهم السابقة كونداليزا رايس في 2006 هو «الشرق الأوسط الكبير»، وتبيّن من الأدوات التي استعملوها أنّها لتفتيت الدولة الوطنية العربية المعاصرة لكيانات متعدّدة، مستغلين احتكارهم أُحادياً مصادر القوة في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989. ولمزيد من المنطقية، فإنّهم استعملوا الفتن المذهبية سنّة وشيعة وطائفية إسلاماً ومسيحيين وعرقية عرب وأتراك وأكراد وإيرانيون في تنظيم حروب داخلية أدّت إلى تأسيس أكبر إرهاب في التاريخ، لا يزال مدعوماً حتى اليوم من السياسات الأميركية والسعودية والقطرية و»الإسرائيلية» والتركية والغربية عموماً. وهذا ليس مجرّد اتهام، بل يستند إلى اتهامات الأميركيين والغربيين والأتراك لبعضهم بعضاً في محاولات للتنصّل.
ألم يتّهم ترامب سلفه أوباما برعاية الإرهاب؟ ألم يعترف القطريون بمسؤوليتهم إلى جانب السعودية بدعم الإرهاب «بأمر أميركي»؟
ويتّضح أنّ واشنطن كانت تريد تفتيت المنطقة إلى ولايات صغيرة تستطيع ضبطها قبل صعود قوى دولية أخرى قد يكون لها المقدرة على تقاسم العالم معها.
إنّ الخلافات الأميركية التركية دليل على كشف أنقرة للمشروع الأميركي الذي تبيّن أنّه يستهدفها أيضاً، وهي الحليفة للأميركيين في إطار حلف الناتو والقواعد الأميركية المنتشرة على أراضيها. وهل جرى تقسيم السودان من دون الموافقة الأميركية؟ وماذا يجري في أفغانستان والسيرك الدموي الصومالي المستمرّ وسورية والعراق واليمن وتونس وليبيا ومصر وباكستان؟
وهذا يوضح أنّ المشروع الأميركي أراد الانتهاء من «الشرق الأوسط» القديم وعالمه الإسلامي. وهذا يتطلّب كسر دوله الوطنية التي تحمل على الرغم من «ضعفها» قضاياه التاريخية. إلا أنّ الحسابات الأميركية تهاوت الواحدة تلو الأخرى بواسطة تحالف سوري إيراني روسي نجح في إلحاق الهزيمة بأدوات الإرهاب المدعومة أميركياً وسعودياً في سورية وغيرها، متيحاً للعراقيين فرصة تحرير بلدهم ولليمنيين الصمود، بالإضافة إلى حزب الله الذي تمكّن من لجم التيارات اللبنانية «المتسعودة» والمتأمركة، زاحفاً للمشاركة الأساسية في أكثر حروب القرن فتكاً ودموية على مستوى الإقليم.
أدّى هذا التقهقر الأميركي إلى سقوط مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، بما فيها آخر نقطة تحرّك ممكنة وهي إيران، فأُصيب بذعر على مركز ثقله الاستراتيجي في الخليج، خصوصاً السعودية، قلب نفوذه التاريخي وعصاه الإسلامية.
لذلك تطلّب التراجع الأميركي إعادة إنتاج «سعودية جديدة» تستطيع مجابهة تضعضعه بالمزيد من الإجراءات الدّاعمة للسياسات الأميركية. ومع أنّ الرياض كانت تطبّق هذه الوضعية الاستتباعية منذ تأسيس دولتها، إلا أنّها كانت تراعي شكلاً الحقوق العربية والإسلامية، ولا تخرج عن الإجماع العربي الإسلامي إلا بالحيلة أو المكر أو المعونات المالية المشبوهة، لكنّها لم تتجرّا يوماً على الخروج عن الإجماع حول قضية فلسطين والانحياز السطحي إلى العرب في صراعهم مع «إسرائيل».
وبدا أنّ المطلوب أميركياً، هو «سعودية» غير «ملتبسة» في القضايا التي تشكّل قلب المشروع الأميركي في فلسطين «والشرق الأوسط» والعالم الإسلامي. والاقتصاد هنا عامل جوهري جداً.
هذا ما جعل «سعودية» سلمان وابنه محمد تستعمل نفوذها لاتهام حزب الله العربي بالإرهاب، وهو الذي انتصر على «إسرائيل» والإرهاب؟
وهذا أيضاً ما فرض على السعودية تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية؟ سورية التي تقاتل «إسرائيل» والإرهاب منذ 1948، وهي عضو مؤسس لهذه الجامعة.
ولماذا تناهض الرياض بغداد لأسباب أميركية فقط تتعلّق بمحاولات تقسيمه لكيانات مذهبية وعرقية؟ ألم تتحالف مع البشير حاكم السودان عندما انتقل من الرعاية الإيرانية إلى الرعاية الأميركية «الإسرائيلية»؟
وهكذا يتّضح أن خشية واشنطن من تراجع نفوذها في «الشرق الأوسط» مع الصعود الروسي ونجاة الدول الوطنية من التفتيت، لهي في المسببات التي تُرغم واشنطن على إنتاج «سعودية» لا تساوم على المطالب الأميركية في المنطقة.
وشروط إلغاء سياسة الالتباس تتطلّب تكيّفاً سعودياً داخلياً يحتكر القرار الداخلي من مستوى التعددية الواسعة، نظراً لتعدّد الشركاء إلى مستوى المالك الواحد لشركة المملكة العربية السعودية.
وبدلاً من آلاف الأمراء الذين يديرون السعودية في حكوماتها وولاياتها ومديرياتها ودبلوماسييها، وقطاعها العام والخاص، ويستنزفون نحو 30 في المئة من ناتجها الوطني، فلماذا لا يكون هناك موظفون لا ينتمون إلى آل سعود، يديرون هذه المرافق بنظام الرواتب ولا يؤسسون لسياسات خاصة بهم؟ لذلك، فإنّ المطلوب أميركياً توحيد القرار السياسي الداخلي والاقتصادي السعودي عبر ثلاث وسائل: الأجهزة الأمنيّة العسكرية، المؤسسة الدينية والدعم الأميركي.
وهذا ما يجري على قدم وساق بشكل سريع، وصل إلى حدود اتهام أمرار بالتمرّد، لأنّ الملك فرض عليهم دفع فواتير الكهرباء. وبهذه الطريقة تنجح واشنطن بإزالة المعوقات الداخلية التي كانت تمنع الملك السعودي حتى من الاندماج التحايلي في إطار الإجماع العربي والسعودي، بدليل أنّ بوسع محمد بن سلمان الالتقاء بالمسؤولين «الإسرائيليين» وضرب أيّ إجماع عربي أو إسلامي، وقيادة الطموحات الأميركية مهما تناقضت مع العرب.
وأصبح بوسعه أيضاً توفير نفقات هائلة يضعها في خدمة الأميركيين، أي ينتزعها من أولاد أعمامه لمصلحة السياسة الأميركية وليس الشعب السعودي، فيحتوي بذلك انخفاض أسعار النفط من جهة، ناجحاً في كسب رضى المعلّم الأميركي، ومبدياً استعداده لتدمير القواسم المشتركة بين المسلمين والعرب، ومحوّلاً الحرمين الشريفين ومواقع الخلفاء والأئمة في الحجاز ونجد إلى مراكز سياسية لزوم الانتعاش الاقتصادي الأميركي.
ولعلّ من أهميات ابن سلمان أنّه قد يدفع دول المنطقة بسياساته المغامرة إلى تشكيل محور قوي يمنع إسقاطها في السلّة «الإسرائيلية» قبل فوات الأوان، وهذا ممكن على قاعدة حلف يجذب روسيا نحو المنطقة الممتدّة من إيران إلى لبنان… ويجمع بين السياسة والاقتصاد. فهل هذا ممكن؟