«بشير عبيد… قائد نهضويّ»… أضواء على سيرة ومسيرة
اعتدال صادق شومان
في كتاب يعيد طرح السيرة من جديد من ركن الولادة في بيت شباب إلى مقام القضية والمكانة النضالية في أعلى مراتبها، حتى المثوى الأخير شهيداً في ثلاثية دم رموزها بشير عبيد وكمال خير بك وناهية بجاني، الذين ارتقوا في جريمة غدر مروّعة. جريمة في لحظتها، كان وقعها قاسياً وموجعاً وما زال قاسياً وموجعاً، وما زلنا نستعظم هول الخسارة وفداحتها، الخسارة التي وقعت على «غفلة» وهزّت الساحتين الوطنية والقومية.
رمزان لم يستشهدا في معركة، بل اغتيلا غدراً، لكنهما لم يغفُوا يوماً إلا والمعركة في بالهما، وبين جفونهما عاشا أوجاع الوطن بجوارحهما.
للشهيد بشير عبيد، مكانة كبيرة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وسيرته النضالية تستحق الكثير، وفي هذا السياق جاء كتاب «بشير عبيد… قائد نهضويّ»، الذي حقّقته زهرة حمود، والصادر عن «دار الفرات للنشر والتوزيع»، ووقّعته في معرض بيروت العربي والدولي للكتاب 61، لينال المرتبة الثانية ضمن الكتب الأكثر مبيعاً عن فئة «سِيَر وتراجم»، وقد كتب مقدّمته عميد الثقافة والفنون الجميلة السابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور خليل خير الله.
«بشير عبيد… قائد نهضويّ»، يضيء على مسيرة مناضل متعدّد المهامّ والمسؤوليات الحزبية والسياسية والثقافية والأدبية، تميّز برجاحة العقل وصلابة الموقف، وشغف واسع بالأدب والكلمة يوازي مهارته في القيادة العسكرية. فبشير عبيد المثقف والأديب والشاعر والخطيب، هو نفسه الذي اختار أن يكون مناضلاً ومقاوماً بامتياز، متسلّحاً بمقولة «إنّ القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره».
قد نكون لم نسمع كلماته الأخيرة، لكنّنا نستطيع استقراءها من مسيرته التي لم يهن فيها يوماً، ولم يحبط، ولم يتزعزع إيمانه في أشدّ المراحل قسوة. وقد وثّقتها زهرة حمود بمهنية عالية تُسجّل لها.
أضاء الكتاب على الشخصية الفكرية والخطابية لدى الشهيد عبيد، عبر مقالات وأبحاث فكرية ورسائل سرّبت من السجن على إثر الثورة الانقلابية، ونُشرت بأسماء مستعارة في جريدتَي «النهار» و«الشمس»، إلى جانب مقالات ومواقف ما بين عامَي 1980 و1975، كانت قد صدرت في كتاب بُعيد استشهاده. فيتبدّى لنا من خلالها بشير عبيد أديباً وناقداً سياسياً بامتياز.
من كنف الكهنوت الكنسيّ، إلى مؤمن «سرّي» بعقيدة أنطون سعاده، على خطى شقيقته عفيفة وأخيه أسعد، وكوكبة لامعة من الرفقاء في بلدة بيت شباب. حين كان الحزب كلّه يعيش أوج عودة سعاده من مغتربه القسريّ إلى وقع أزيز الرصاص في الثامن من تمّوز الذي هزّ وجدان الفتى، فكان الانتماء والقَسَم، ومن السرّية إلى العمل العلنيّ متدرّجاً في المسؤوليات بدءاً من مذيع مديرية بيت شباب، إلى عميد للدفاع إبّان الثورة الانقلابية، وصولاً إلى رئاسة المجلس الأعلى في الحزب.
كما برز عبيد على الساحة الوطنية اللبنانية قائداً عسكرياً وسياسياً في المراحل الصعبة، ما دفع كمال جنبلاط إلى طرح اسمه رئيساً لجمهورية لبنان، قائلاً: «إذا كنتم تريدون رئيساً مارونياً، نحن لدينا رئيس مارونيّ وغير عاديّ ونعتبر أنّه يمثّلنا، إنه الأستاذ بشير عبيد».
هنا بعض من بشير، محطات، قبسات من تاريخه الثري، بموقعه الحزبي والنضالي بمعايشته شخصيات وأحداث تاريخية لم يتسنّ له أن يدوّنها كما وعد في مذكّرات بما تختزنه تجربة حزبية مميّزة في مراحل مختلفة، ومتباينة، فيها الانتصارات، وفيها الانكفاء، وفيها الخطأ وفيها الصواب. وهو الذي خاض أحداثها المفصلية خصوصاً في أواخر خمسينات القرن الماضي. وسطع نجمه في أوائل الستينات، حيث دفع النظام اللبناني الطائفي بألف جنديّ وطائرة مروحية لاعتقاله في منطقة المكلّس، وهو الخبر الذي أبرزته جريدة «النهار»، مرفقاً بصورة «للشاب ممتلئ الجسم، ووسيم الوجه».
وقفت زهرة حمود على شهادات كثيرة عن تلك الحقبة التي اتّسمت بالقسوة والاضطهاد بحق القوميين الاجتماعيين، والتي أجمعت على صلابة الأمين بشير عبيد خصوصاً مع بدء المحاكمات، حيث واجه المحقّقين بتحمّل المسؤولية بشجاعة قلّ نظيرها، حين قال جملته المشهورة: «أنا عميد الدفاع أوكل إليّ تنفيذ الانقلاب وقد قمت به إرضاء لوجداني القومي، وتعبيراً عن إرادة الألوف من رفقائنا وأنصارنا… وأنا أتحمّل المسؤولية إيماناً منّي بعقيدة هي كلّ إيماني وحفاظاً على رجولة تجسّد هذه العقيدة».
ورغم الحكم عليه بالإعدام، حرص على توجيه الرسائل الخطّية إلى رفقائه في المناسبات الخاصة والحزبية، أشدّها إثارة للمشاعر القومية النبيلة، رسالته التي وجّهها إلى الرفيق الملازم علي الحاج حسن الشهيد لاحقاً يقول له فيها: «ما أشدّ آلامك، وما أشدّ صبرك عليها، وما أثقلها على قلوبنا، ما أعظم جراحك… بل ما أعظم اعتزازنا بك أيها العظيم… تحبّك قلوبنا يا علي… وليس لها في ذلك منّة وتهواك وليس على هواها مظنّة».
غير أنّ الرفيقة عفيفة كلّفت المحامي موريس غارسون أحد أبرز أقطاب المحاماة في فرنسا، الدفاع عن شقيقها، وقد اعتبر غارسون الأحكام التي صدرت بحقّ القوميين «مخالفة للقانون وللإنسانية».
أما وقد صدر العفو العام عن القوميين الاجتماعيين «المدنيّين» دون العسكر… فعزّ عليه القبول بالعفو دون رفقائه العسكريين… فبكى بشير ألماً، وهو الذي لم يوهنه طغيان جلاديه ولا حكم الإعدام وتحمّل مرارة الأسر وجور الانفراد بصلابة أسطورية أجمع عليها «رفقاء الأسر» وخجل حتى من وداعهم فأتوا إليه مودّعين.
بشير عبيد هذا المتصوّف بحبّ بلاده، وهو الخارج للتوّ من السجن، أين له أن يرتاح وقد هبّت رياح الحرب على لبنان وقد قرّر الحزب مع اندلاعها مواجهة أصحاب مشروع تقسيم لبنان والدفاع عن المقاومة الفلسطينية في مواجهة العدوّ الصهيوني، ومن جديد وجد نفسه في جبهة قيادة جبل لبنان في تلك الحرب من موقعه كرئيس المجلس الأعلى في الحزب، وكان في عدادها رئيس الحركة الوطنية كمال جنبلاط.
لم يخض بشير المعترك من خلف مكتبه، بل كان يتحدّى المخاطر وتعرّض لخطر الموت في أكثر «من قذيفة»، وخاض الحزب بقيادته أهمّ المعارك المفصلية في تلك الحرب بدءاً من عاليه، إلى الغرب الساحلي، وصولاً إلى المتنين الأعلى والشمالي، خصوصاً عينطورة وضهور الشوير.
ويوم فقدت المعارك ميدانها، وصارت المواجهة غادرة، وظهر سلاح الزندقة وقد هشّم وجه بيروت الوطني، اغتيل بشير عبيد على درج الطبقة الرابعة من المبنى الذي يقع في شارع يتفرّع من ساحة ساقية الجنزير.
إلى الخامس من تشرين الثاني 1980 يوم التفّ القوميون بالحداد وألغيت كلّ الاحتفالات لمناسبة ذكرى تأسيس الحزب في تلك السنة، حداداً على الدم الغالي المسفوح غيلة، وبكى القوميون السوريون حيث البكاء في تلك اللحظة معذور فالمصاب جلل. والقوميون في جلجلة عظيمة. يستولي عليهم الأسى والمرارة.
إلى هناك، تعود زهرة حمود، إلى بيت القصيد من الكتاب حيث القصة الكاملة، تقصّياً وتفنيداً ونبشاً في الغامض والصامت في نسق من المعطيات تعيد طرح الأسئلة المستعصية لأجوبة غير وافية، أو ملتبسة في إماطة اللثام عن «سرّ» ذاك المساء، وغموض رافق تلك اللحظة بتفاصيل لم ترحل، مع رحيل شهود كثر، وتباعد السنوات.
في تلك الفترة، كان الحزب القومي مطمئناً إلى أمنه في المناطق «الوطنية»، ولم يكن في الحسبان اغتيال اثنين من كبار مناضليه على غير يد العدوّ الصهيوني. والقوميون الاجتماعيون مارسوا أعلى درجات الانضباط رغم سيطرتهم العملية على معظم بيروت الغربية إزاء الجريمة وبشاعة الاستغلال الطائفي. وأبدوا حرصاً عالياً على أمن البلد ونزع فتيل التفجير، وهو الحزب الذي طالت يده العدوّ في الساحات كلّها.
في 380 صفحة من القطع الكبير، رصدت زهرة حمود سيلاً من حكايات سجلّ البطولة للقائد النهضويّ، ولملمت شذرات الذكريات بحروفها المتناثرة عند حدّ الذاكرة ممّن عرفوا الشهيد، رفقاء درب وأفراد عائلة، ورجال دولة وسياسة، وقادة عسكريين، وأصدقاء وغير أصدقاء، ونبش بالصحف المبعثرة في المكتبات القديمة، وأهمّ معطياتها المباشرة معرفتها شخصياً بالشهيد بشير عبيد إلى جانب معايشتها تلك الفترة عن قرب.
في كتاب «بشير عبيد… قائد نهضويّ»، تقدّم زهرة حمود تفاصيل جديدة لا يتّسع لها المجال هنا، لكنها تستحقّ القراءة.