«ماري أنطوانيت»… سردياً لعب «زفايج» بين خطَّي الدفاع والإدانة!
محمد رستم
لا نستطيع إلّا أن نذكّر أنّ قلم القدر وحده هو الذي خطّ باحترافية فائقة التأثير المتفلّت لمروية الحقيقية، التي تجلت بشخص «ماري» وحفر أحداثها المؤلمة على خطّ الدهر في ترابط بنيويّ عجيب بين المقدّمات والنتائج.
ولعلّ ما قام به الروائيّ النمسويّ الكبير ستيفان زافايج لا يتعدّى من إعادة سرد الحكاية برؤية فنيّة مع ما يقتضي بنائياً لجبر خواطر العملية الكتابية ببعض الماكياجات الزخرفيّة وبهلوانيات الشطارة التي برع في التقاط الجزئيات الهامّة من الحدث، ليندرج هذا كلّه في الخواتيم تحت سقف المعنون العريض: «ماري أنطوانيت»، لأنّها المحور الأهمّ في المرويّة، ولا بدّ من التنويه أنّه من الصعوبة بمكان أن تكتب رواية أحداثها مفضوحة. لكنّ عبقريّة الكاتب الفذّة أحالت البعد النفسي والسيكولوجي ودقائق التفاصيل وروعة السرد هيّأها شباكاً وفِخاخاً ليوقع القارئ في لجة الغواية، وتفرض عليه الاستسلام للتيار الحكائي. وحسناً فعل حين اتّكأ على سلّم التاريخ متلمّساً حضور أحداثه كهيكل أساس في المرويّة، بينما تمدّدت الرواية بكاملها على سرير العمق النفسيّ.
هذا وقد بنى الكاتب عمله على عقدة نقص جعلها خلفيّة فاقعة اللون في مسرح الأحداث. فعجز الإمبراطور الجنسيّ انعكس سلباً على شخصيّته، بل أنّ لويس السادس عشر بدا في المرويّة. معتوهاً مختلاً فكريّاً ونفسيّاً، هو مصاب معنوياً بخجله… وربما كان السبب العميق لخجله هو ضعفه الجنسيّ ومستواه الفكريّ هزيل، القيام بمحادثة هو جهد معنويّ بالنسبة إليه لأن تفكيره بطيء . ويؤكّد الكاتب أنّه لا يصلح للعرش، لقد هيأته الطبيعة لكلّ شيء ما عدا العرش . وهو بطيء الترجيع بارد الأعصاب بل عديم الارتكاس، أعصابه لا تستطيع الاهتزاز أو التوتر كأنّها بلا نوابض . ولا يتفاعل مع أحداث الواقع مهما كانت خطيرة فهو يظلّ دائماً خارج نطاق التغطية. حتى أن نبضاته عندما هاجم الثوار قصر التويليري بقيت كما هي من دون أن تزيد نبضة واحدة . ولأنه خامل فقد صار ألعوبة بيد امرأته ووزرائه، ولشدّة سيطرة امرأته عليه بات يسمح لها حتى بعشيق آخر.
ولا يدع الكاتب صفة سلبيّة مثبّطة لشخصيّته إلّا ويلصقها به. فهو ثقيل خامد بليد… متردّد… عنصره النوم يطيع دائماً بخضوع، أخرق وهو ككلب أليف ضخم تحلو مداعبته لأنّه لا يزمجر ولا يستاء وبدل أن يكون عوناً للملكة يصبح الملك المسكين كرة حديدية ربطت إلى رجل ماري . وإذا كان وضع الملك بهذا الوهن فماذا عن ماري؟ وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تذبذب موقف الكاتب واضطرابه، لا بل تناقضه في الكثير من الأحايين. فهل تاه الكاتب في المسافة الفاصلة بين حقائق التاريخ الناصعة ووشوشات رغباته الخاصة في تبرئة ماري؟ أم أنّه التقصّد في نصب شرك الإشكاليّة. حيث المخاتلة والإكثار من الاحتمالات في أجواء من ضبابيّة الرؤيا والدفاع عن الشيء ونقيضه في آن؟ فالكاتب يضع ماري في خانة أقرب إلى المرض النفسي. فهي دائمة القلق لا يهدّئ من روعها وقلقها العصبي إلّا التبدل الدائم في حلبة الملذّات.
وبغمزة، كطبيب نفسيّ، يعيد ذلك إلى السرّ الكامن في المخدع الملكي وعجز زوجها الجنسيّ، ولأنّ القناع يفسح لها مجالاً للتمادي في غرامياتها. كان الرقص المقنّع وحده ملذّتها المفضلة حيث يمكّنها من المغامرة بنفسها على شفا هوّة الغرام . ويوضح أنّ توترها العصبي التعيس وعدم اكتفائها المستمر وجريها المحموم وراء الملذات، ذلك كلّه لم يكن إلا نتيجة تقليدية لهيجان جنسيّ ظامئ. فهي مصابة بتعطّش عصبيّ مرضيّ للملذّات.
لقد انعكست الأزمة الجنسيّة ضعفاً وخمولاً وسلبية لدى لويس السادس عشر وهياجاً جنسياً ولوباناً لدى ماري، وهنا يبدو الكاتب كمختصّ عالي الجودة إذ يعيد كل حركة من ماري إلى تهرّؤ في عالمها النفسي مرده نقص في إشباع غرائزها الجنسية.
ولكي ينفض عنها أيّ غبار قد يلوّث سمعتها، يصفها بالبراءة «تمتاز ضمناً بصراحة فطريّة وطبيعة عفويّة مستقيمة». وفي إدانة لها يقول: «هي في مشاغلها التافهة تناست كلّ شيء في مملكتها، زوجها، الزمن، الكون، حتى أنّها أبعدت عنها كل ذي مشورة فتجمع حولها أسوأ من في باريس». وللغمز من باب شرفها يبيّن أنّ حديقة القصر باتت مسرحاً للمغامرات الغزليّة «وتصبح في صحبة رفيق أو رفيقين في حمى الظلام تلهو على هواها بشرف ولا شكّ». ونلاحظ كيف تناقض الكاتب مع نفسه، فبعد الاتّهام العلني والواضح يتراجع بتأدّب فيضع بين قوسين عبارة بشرف ولا شكّ .
ولعلّه في عبارته إنّ حديقة القصر باتت جنّة الدعارة في باريس. يقطع قول خطيب في إثم ماري وفي معرض دفاعه عنها يقدّم دليل تورّطها، يقول: «من المؤكّد أنّ ماري بدأت علاقتها الحميمة بفرسن من المؤكّد أنّها فصمت عرى علاقتها الجسديّة مع زوجها». وكأنّ الزنا يعني الجمع بين العشيق والزوج. وحول مثليّتها يثبت الكاتب عليها التهمة من حيث يبغي الدفاع يقول عن غرامها بالكونتيسة بوليناك، ولكنّه كان شغفاً مفاجئاً وحبّاً من النظرة الأولى. لقد استخدم دوالّاً من مطبخ العشق بعيداً عن الصداقة البريئة، وفي معرض دفاعه عنها يقول إنّها تمثّل الاعتدال «فلا هي قديسة ولا هي عاهرة». وفي حالة إشكاليّة يعود ليدافع عنها ولو بشكل ضعيف، يقول: «لقد وقى ماري من التفريط بالشرف الزوجي تهذيب المعجبين بها». وفي هذا الدفاع نتلمّس الطعن بشكل خفيّ. وفي معرض الدفاع عنها يجعل من انحرافها تلبية لحاجة الطبيعة «إنّ الطبيعة تتطلّب حقوقها لدى هذه المرأة». ولتخفيف عبء الخطأ عنها يتّهم الحاشية بتضليلها وذلك بتضخيم الأنا لديها «كلّ ما تقوله بديع وكلّ ما تفعله شريعة». وفي حمأة دفاعه عنها يصوّب سهام الشكّ على نزاهة المحكمة «الجمعية الوطنيّة لا تتطلّب منهم حكماً عادلاً». ويبين أنّ المحاكمة برمّتها سخيفة وتقوم على وقائع باطلة. وتناقض الكاتب مع نفسه في نظرته إلى الثورة. فيراها حالة إيجابيّة ونتيجة للوعي الناهض، ثم يعود ليتهجّم عليها إذ يقول: «إنّ هيبر كلب الثورة المقيت كان ما يزال ينبح».
هذا، وقد أجاد الكاتب رسم الشخصيات التي تحضر أمامك نابضة بالحياة من دون أيّ ماكياجات، عارية من كل شيء إلّا مشاعرها وهواجسها، فكشف أعماقها وردّ فعلها وتأثيرها في سيرورة الحدث الدرامي، فمثلت ماري دور البطولة اللاإراديّ، بينما تلبّس الملك صورة البطل الإنسحابي السلبي، كما خلقت الشخصيات المضادّة حركة الصراع ودفعت الحدث الدرامي إلى التنامي حيث أبدع الكاتب حبك خيوطه بما لا يجافي الواقع، فأسلمنا بالتالي إلى نقطة الحسم النهاية الختاميّة المؤلمة.
ولعلّ التألق السرديّ شكّل علامة فارقة في المروية «إنّ الفراشة ترفرف وهي تقترب شيئاً فشيئاً من اللهب الذي يجتذبها، ولكنّ رفّة جناح طائشة ولا مناص من وقوعها في النار المدمّرة».
أخيراً نقول: ماري يداها أوكتا وفوها نفخ. وكما أنّ البذار لا تنتج ثماراً أخرى، ولأنّها لم تكترث لتنظيم خطوط دفاعها في حين كانت الحياة حولها في درجة الغليان، بل انصرفت إلى تبديد ثروة البلاد حتى سمّيت «سيدة العجز الماليّ». ولأنّها لم تأت بأيّ حركة فاعلة بل وقفت مثل مسمار الوقت الصدئ، فقد ودّعت الحبّ مكرهة، إذ كانت على موعد مع الحرب ولم تكن سوى المقصلة ثالثتهما.
كاتب سوريّ