«لبننة» العراق تنسف أدواره
د. وفيق إبراهيم
هناك من يريد احتواء الانتصار العراقي الكبير على الإرهاب والأميركيين والأتراك والسعوديين معاً، ويعمل على تحويله مشيخات نفط وتمر متقاتلة تمتصّ قوّته فيصبح كالمارد المصاب بشلل والمتكوّم على قارعة الطريق يندب حظّه العاثر.
أصحيح أنّ هذا ما يجري في أرض الرافدين؟
بعد عجز الحلف الأميركي السعودي التركي من تسليم العراق لخلافة «داعشيّة» مزعومة، دعموها بكلّ ما أوتوا من قوة وتسليح وتمويل وتواطؤات وإيديولوجيات شيطانية كانت أعقبت الاجتياح الأميركي لهذا البلد في 2003، استطاع اللاعبون الدوليون والإقليميون والخليجيون التوصّل إلى سلاح جديد يؤدّي أهداف الإرهاب والاحتلال والاجتياح نفسها… إنّها الانتخابات النيابية وفق قانون بعمق طائفي يبعثر العراق العظيم إلى أجنحة ومذاهب وطوائف وقوميات، أي مشروع تفجير داخلي للنسيج الاجتماعي وفاقاً للانقسامات التقليدية التي تسود عادةً مرحلة ما قبل تشكل الدولة الحديثة، وعوضاً عن مئات آلاف الجنود الأميركيين والأتراك ورجال المخابرات السعودية والقطرية المتنكّرين بلبوس بعض قادة العشائر والسياسيين العراقيين الدمى.
تستطيع هذه الانتخابات تحقيق انقسامات عمودية خطيرة في نسيج العراق الاجتماعي، تتقاتل بما يؤدّي إلى استنزاف ديناميكيتها فتنهمك أرض السواد بمصائبها الداخلية وويلاتها، مع تعميق ولاءات مكوّناتها المتناحرة لدول الخارج، ما يجعل من قدرات العراق عاجزة عن إنتاج قوة وطنية مضافة وموحّدة، بوسعها أداء أدوار كبيرة على مستويات الداخل والخليج والإقليم… وإلا فما نفع بلد تعداده 35 مليون نسمة، ويحوز على نفط وغاز وتمر ومياه وأرض خصبة ورجال قُدّت من صخر وعقول علمية وتاريخ يربط بين «بابل» والدولة العباسية، مروراً بمئات الإمارات والولايات والجمهوريات والانقلابات التي لا تُعدّ ولا تُحصى… ما نفعه إذا تحوّل إلى «قطر» أو «كويت» أو حتى «سعودية»؟
يفترض أنّ الفارق كبير ونوعي، باعتبار أنّ دولة ما بين النهرين تشكّل جزءاً دائماً من تاريخ هذا المشرق من الآشوريين والبابليين والكلدان وعرب الفتوحات، وصولاً إلى عهد المالكي والعبادي.
لذلك، فإنّ الانتخابات الحالية التي تجري بخلفيات طائفية ومذهبية سنة شيعة مسيحيون صابئة إيزيديون وعرقية عرب وأكراد وتركمان ، لن تؤدّي إلى ما يطلبه العراقيون من وطنهم، ولا ما ينشده العرب من العراق، ومن شأنه تعطيل نهوض دولة حديثة تستطيع قيادة الرحلة نحو الحداثة والتقدّم.
ما يجري إذاً يبدو وكأنّه صراع بين أجنحة شيعية تنتمي إلى حزب الدعوة أو على مقربة منه، وتتأثر بمجملها بالتحالف مع الجارة إيران. هذا التحالف الذي أدّى إلى تحطيم خلافة «داعش» وتحرير العراق، والانتصار على المخططات السعودية التركية.
تحاول هذه الأجنحة الأربعة الحصول على أكبر قدر ممكن من التحالفات مع أطراف سنّية وكردية ومسيحية، على أن تبدأ بمحاولة التقارب بينها، وهي مساعٍ لم يُكتب لها النجاح حتى اليوم. فرئيس الوزراء العبادي رئيس تحالف «النصر والإصلاح» يرفع الانتصارات على الإرهاب التي تحققت في ولايته كجواز مرور فاعل «للتحالف تحت رايته» مع رئيس الوزراء السابق المالكي والحشد الشعبي وقوى سنّية فاعلة، ويريد الدخول إلى الانتخابات على أساس تمثيل حصري لحزب الدعوة. هذا يعني إصراره على الاستمرار رئيساً مقبلاً للوزراء، ما يفرض عليه البحث عن حلفاء بشكل مسبق يوافقون على طموحاته، وهذا لا يناسب أبداً رئيس الوزراء السابق المالكي، رئيس ائتلاف دولة القانون الباحث بدوره عن حلفاء يؤيّدونه في أحلامه.
لكن القائد في الحشد الشعبي هادي العامري تمكّن من بناء تحالف متين ضمّ 19 فصيلاً من فصائل الحشد الشعبي، علماً أنّ العامري كان يقود كتلة بدر القوية في الحشد الشعبي في التحرير من الإرهاب. وتعمل هذه الاتجاهات الثلاثة على جذب الحكيم والصدر وقوى سنّية وازنة مثل الجبوري والمطلك، بالإضافة إلى قيادات أخرى مسيحية وكردية. والمهمّ هنا القدرة على نسج تحالفات عابرة للمذهب، بوسعها دفع الطامحين إلى رئاسة الحكومة.
أمّأ المنافس الشيعي لهذه القوى من خارج حزب الدعوة، فهو رئيس التجمّع المدني للإصلاح ورئيس الوزراء السابق إياد علاوي، الذي يعمل على جذب أكبر كمية ممكنة من القوى السنّية والمسيحية والكردية، ما يدفعه إلى أن يصبح رئيساً شيعياً لمجلس الوزراء بدعم من قوى مذهبية وطائفية وعرقية أخرى.
وتعمل القوى السنية والمسيحية والكردية من جهتها للفوز بمقاعد نيابية تجعلها وازنة في عملية اختيار رئيس الحكومة.
الأجواء إذاً شديدة الطائفية والمذهبية، وتعتمد على هذه العناصر لتوسيع عمليات التحشيد والجذب. ما يعطي صانعيها أصواتاً ومقاعد، لكنّها تؤدّي أيضاً إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية في العراق وتعميق الطائفية، الأمر الذي ينتج عراقاً شديد «التلببن» يقع فريسة التجاذبات الدولية والإقليمية.
ولكشف مدى انتهازية القوى الطائفية في العراق، يمكن في إطارها تفسير زيارة وفد كردي قابل العبادي في بغداد منذ يومين، مطالباً بإدارات مشتركة للموانئ والمطارات والمعابر في كردستان بين الكرد والقوى الأمنية الرسمية.
أليس غريباً أن يتزامن الطلب مع موعد الانتخابات النيابية المقرّرة لهوية رئيس الوزراء؟ لجهة التأثير الخارجي، فهناك ثلاث قوى تدير الانتخابات الأميركيون وتركيا وإيران، مع تأثير نسبي للسعودية، بما يدفع إلى الجزم بأنّ هؤلاء يسيطرون على الحياة السياسية في العراق ممسكين بتلابيب العملية الانتخابية، تنفيذاً أو تأجيلاً، باعتبار أنّ هناك ضغطاً لإرجائها ستة أشهر بدعوى أنّ هناك نازحين خارج العراق تجب إعادتهم إلى البلاد ليشاركوا في الانتخابات ومحاربة الفساد، وإلغاء الحشد الشعبي وتأثيره ونفوذه، وهي مطالب تطرحها القوى السنّية وبعض الكرد، وهناك مَن يهمس أنّ قسماً من حزب الدعوة ليس بعيداً عنها.
إلا أنّ الأميركيين المتخصصين بخفايا الوضع السياسي في العراق، يرون فيها فرصة للمزيد من تأجيج الوضع الطائفي وخلخلة الاستقرار الداخلي لامتصاص قدرات هذا البلد المختزن أكبر الإمكانات بين بلدان المنطقة، وتعطيل أدواره العربية والخليجية والإقليمية. فواشنطن تعرف أنّ الشخصية المرتقبة لرئاسة مجلس الوزراء لن تخرج عن خيارات حزب الدعوة المتحالف مع إيران، لذلك فتعمل على الدوام لإنجاح الشخصية الأضعف العاجزة عن تأمين الانسجام الداخلي، في حين أنّ المرجعيات الشيعية مثلاً المتقاطعة مع الانتخابات، تدأب على توفير أرضية خصبة لتحالفات شيعية سنّية وكردية، تستطيع قيادة سفينة الاستقرار، إنّما في إطار التحالف بين طوائف ومذاهب.
ويبدو أنّ المشروع السياسي القادر على إلغاء الفوارق المذهبية والطائفية والعرقية ليس موجوداً في الوقت الحاضر، أي مشروع تحويل الشيعي والسني مواطناً عراقياً في إطار الدولة الوطنية… تماماً كما حدث في أوروبا قبل أربعة قرون وأميركا قبل قرنين.
إنّ نجاح العراق في تأمين وحدته الوطنية الداخلية شرط أساسي لتمكّنه من أداء أدوار إقليمية أساسية تحميه وتدافع عن كامل محيطه الخليجي والعربي.
فهل هذا ممكن؟ يحتاج الأمر إلى بروز قوى وطنية تستفيد من تأزّم هذه المرحلة واشتداد الأدوار الخارجية التي تخنق العراق، لتحدث آنفاً تأثيراً داخلياً يقترع في صندوقة الانتخاب للعراق المعبّر عن طموحات أبنائه والمتحالف مع سورية بالضدّ من مشاريع السعودية وتركيا وواشنطن.