أعين القوى في العالم شاخصةٌ نحو شرق آسيا حيث ترتسم معالم دروب حريرٍ جديدة هل تضغط الصين وروسيا على واشنطن للخروج من أوراسيا؟
إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
لا يخفى على أحد أنّ الحضارة الصينية ضاربةٌ في التاريخ، وإلى جانب الميتولوجيا البوذية، والشاولين، وصراع الجبابرة، وما إلى ذلك من المتعلّقات بالحضارة الصينية، هناك ما يعرف بـ«درب الحرير»، وذلك ليس إلا مجموعة من الطرق المترابطة، كانت تسلكها القوافل والسفن وتمرّ عبر جنوب آسيا، رابطةً تشآن التي كانت تعرف بتشانغ آن في الصين، مع أنطاكية في سوريه، إضافة إلى مواقع أخرى. كان تأثيرها يمتدّ حتى كوريا واليابان.
أُخذ مصطلح «درب الحرير» من الألمانية زايدنشتراسه Seidenstra e ، إذ أطلقه الجغرافي الألماني فريديناند فون ريتشتهوفن في القرن التاسع عشر. كان لطريق الحرير تأثير كبير على ازدهار كثير من الحضارات القديمة مثل الصينية والحضارات المصرية والهندية والرومانية، حتى أنها أرست القواعد للعصر الحديث.
تمتدّ درب الحرير من المراكز التجارية في شمال الصين حيث تنقسم إلى فرعين شمالي وجنوبي. يمرّ الفرع الشمالي من منطقة بلغار ـ كيبتشاك وعبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم وحتى البحر الأسود وبحر مرمرة والبلقان ووصولاً إلى البندقية. أمّا الفرع الجنوبي فيمرّ من تركستان وخراسان وعبر بلاد ما بين النهرين وكردستان والأناضول وسوريه عبر تدمر وأنطاكية إلى البحر الأبيض المتوسط أو عبر دمشق وبلاد الشام إلى مصر وشمال أفريقيا.
هذا في التاريخ القديم، أما في التاريخ الحديث، فيبدو أن العملاق الصيني في هذه الأيام، يتطلّع إلى إعادة إحياء درب الحرير، بالشراكة مع العملاقين الروسيّ والألماني، وذلك بعد سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على خطوط تجارة الطاقة العالمية خلال ما سمّي «أحادية القطب». أما اليوم، فلا أحادية ولا هم يحزنون، بد ثمّة دول تستعيد مكانتها روسيا والصين ، وثمة دول بدأت تعي دورها ألمانيا ، وأخرى يطيب لها الصعود إيران ، وأيضاً هناك دول تعشق مناصرة الحق في وجه الطغيان الأميركي سوريا ودول أميركا اللاتينية .
في المقال التالي، أو بالأحرى التقرير، تفنيدٌ من مختص في التفنيد والتفصيل،
للتراجع الأميركي وخروجه القهقرى من أوراسيا، أمام التوّاقين إلى «درب الحرير».
بيبي إسكوبار، كاتب هذا التقرير، مراسل متجوّل لـ«تايمز» الآسيوية في هونغ كونع، محلّل للـ«RT» و«TomDispatch regular». وسيصدر كتابه الجديد «إمبراطورية الفوضى» في تشرين الثاني المقبل عن «Nimble Books».
كتب بيبي إسكوبار:
يطارد شبح الشيخوخة «العصر الأميركي الجديد»: احتمال تطوّر تجاري واستراتيجي مستقبلي بين بكين ـ موسكو ـ برلين. أُطلق عليه تسمية «BMB».
احتمالات تناقَش على محمل الجدّ، ووفق أعلى المستويات في بكين وموسكو، ومثيرة للاهتمام في برلين، نيو دلهي، وطهران. لكنها لم تُذكر في أروقة واشنطن أو مقرّات الناتو في بروكسل. إنه نجم اليوم والغد أسامة بن لادن الجديد: الخليفة ابراهيم، المعروف بِاسم أبو بكر البغدادي، بعيد المنال، الذي نصّب نفسه نبياً على رأس دولة جديدة، أصبح اسمها اختصاراً «ISIS/ISIL/IS»، سبّبت نوبات ضحك هستيرية في واشنطن وفي كل مكان من العالم.
على رغم حرب واشنطن العالمية على الإرهاب، فالصفائح التكتونية الأوراسية الجيوسياسية لا تزال تتقلّب باستمرار، ولن يوقف ذلك رفض القبول، النخب الأميركية بتراجع حدّة اللحظة الأحادية القطبية. فبالنسبة إليهم، إن إغلاق عهد طويل من طيف الهيمنة الكاملة، كما يحلو للبنتاغون تسميتها، أمر لا يطيقون حدوثه. وبعد كل شيء، يبقى الأهم لهذه الأمة العمل على السيطرة عسكرياً، ثقافياً، تكنولوجياً، وخارجياً، وعلى القليل من العقيدة الدينية. فالمبشرون المختلفون لا يُنادون بالمساواة، وأفضل ما يمكن أن يقوموا به تشكيل تحالف يضمّ أكثر من 40 بلداً، لمحاربة «ISIS/ISIL/IS» فضلاً عن التصفيق والتآمر والخبث، كمثل إرسال طائرة مقاتلة أو اثنتين باتّجاه السعودية والعراق.
الناتو، وعلى عكس بعض أعضائه، لن يعلن عن محاربة المتشدّدين. فهو لم يكلّف نفسه حتى عناء الأخذ بالاعتبار مواقف الاتحاد الأوروبي، أو السماح لروسيا بأن تعدّ نفسها «أوروبية»! أما الخليفة، فهو يؤكد أنه مبعوث أُرسل إلى الساحة العالمية، ما يضع الصين وروسيا في عين العاصفة العالمية.
تقسيم وعزل
من الطبيعي ألّا تتحقق الهيمنة الكاملة عندما تتنافس قوتان حقيقيتان على إثبات وجودهما. قد تعتمد مقاربة واشنطن لهاتين القوتين في كل من أوكرانيا والمياه الآسيوية، سياسة التقسيم والعزل. وبهدف الحفاظ على المحيط الهادئ بمثابة اعتباره كلاسيكياً «بحيرة أميركية»، تمحور اهتمام الإدارة الأميركية على العودة إلى آسيا منذ سنوات مضت. وشمل ذلك فقط تحركات عسكرية متواضعة، هدفت إلى الإيقاع بين المُنادين بالقومية الصينية وبين التنوّع الياباني، مع التشديد على تعزيز التحالفات والعلاقات عبر جنوب شرق آسيا والتركيز على تقوية النزاعات على الطاقة في بحر الصين الجنوبي. وفي الوقت عينه، انتقلت إلى إقفال اتفاقية التجارة في المستقبل وكذلك الشراكة عبر المحيط الهادئ.
أوقدت الإدارة الأميركية جذوة تغيير النظام في كييف على الحدود الغربية لروسيا وقد أجّجها القادة المحليون في بولندا ودول البلطيق ، وشكّل ذلك خطراً واضحاً وتهديداً وجودياً بالنسبة إلى فلاديمير بوتين والقيادة الروسية وموسكو. وعلى عكس واشنطن التي تتمتع بقوة ونفوذ وقواعد عسكرية عالمية، فإن روسيا لم تستطع الاحتفاظ بأيّ تأثيرات خارجية كبيرة، لكن حين يرتبط الأمر بكييف، فالمسألة ليست خارجية على الإطلاق.
وقد بدا لموسكو، أن كل من واشنطن وحلف الناتو قد أسدلا ستارةً حديديةً على بلادهم من البلطيق إلى البحر الأسود، والأزمة الأوكرانية خير دليل على ذلك. ووفقاً لحسابات بكين ـ موسكو ـ برلين أو «BMB»، فقد بدا أنها محاولة لعزل روسيا وتقوية علاقاتها مع ألمانيا. والغاية الأساسية تقسيم أوراسيا، ومنع أيّ إمكانية مستقبلية لقيام عمليات تعاون تجاري أو تكامل تجاري ما لم يكن تحت أنظار واشنطن.
أما من وجهة نظر بكين، فإن الأزمة الأوكرانية قضية افتعلتها واشنطن بتجاوزها كلّ الخطوط الحمراء التي يمكن تخيّلها بهدف إحراج روسيا وعزلها. وبالنسبة إلى قادتها، فإن هذا يبدو محاولة منسّقة لزعزعة الاستقرار في المنطقة بما يخدم المصالح الأميركية، مدعومة من قبل مجموعة كاملة من نخب واشنطن من المحافظين الجدد ومن حرب الليبراليين الباردة، إلى التدخلات الإنسانية التي قامت بها سفيرتا واشنطن في الأمم المتحدة على التوالي سوزان رايس وخليفتها سامانتا باور. وبالطبع، فإن متابع قضية مثل قضية الأزمة الأوكرانية من واشنطن، يبدو كمن يطّلع على مسألة ترتبط بالمريخ أو تتعلق بالفضاء الخارجي. غير أن العالم كلّه يظهر مختلفاً من قلب أوراسيا، خصوصاً مع بروز نجم الصين كقوة صاعدة تناضل لتحقيق «الحلم الصيني» زونغو منغ .
وكما نصّ عليه الرئيس الصيني زي كين بينغ، بأن هذا الحلم يتضمن شبكة علاقات منظمة لدروب الحرير المستقبلية والتي ستخلق تجارة عابرة للحدود من آسيا عبر أوراسيا. فإذا شعرت الصين، على سبيل المثال، بالضغط من واشنطن وطوكيو باتجاه واجهتها البحرية، فإن جزءاً من ردّها سيكون عبر الكتلة القارية الأوراسية من مدخلين، أحدهما عبر سيبيريا، والآخر من خلال آسيا الوسطى.
ومن هذا المعنى، وعلى رغم أنك لا تعرف إذا كنتَ قد اتّبعت الإعلام الأميركي أو «النقاشات» في واشنطن، فنحن أمام احتمال ولوج عالم جديد. ففي وقت ليس ببعيد، أغوت القيادة الصينية فكرة إعادة صوغ اللعبة الجيوسياسية/الاقتصادية جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، بينما لمّحت موسكو بوتين إلى إمكانية الانضمام إلى الناتو يوماً ما. لكن ليس بعد الآن، فرغبة هذين القوتين واهتمامهما بإقامة علاقات مستقبلية قوية مع ألمانيا وضع حدّاً لأمنيات واشنطن في هذا المجال.
وقد شاركت موسكو في فترة زمنية لا تقلّ عن نصف قرن في حوار استراتيجي مع برلين والذي نتج عن تعاون صناعي وزيادة في ترابط الطاقة. ففي كثير من أماكن العالم الجنوبي، تعرض ألمانيا نفسها على أنها «القوة السادسة في البركس» بعد البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا .
وفي خضمّ الأزمة العالمية من سورية إلى أوكرانيا، فإن مصالح برلين الجيوـ استراتيجية يبدو أنها تحيد عن خط واشنطن. فالصناعيون الألمان على وجه التحديد، متعطشون للقيام بصفقات تجارية غير محدودة مع روسيا والصين. ما يضع بلادهم على مسار القوى العالمية المنتشرة أوسع من حدود الاتحاد الأوروبي، وسينهي الحقبة التي تعاملت فيها ألمانيا ـ بكلّ تهذيب ـ مع سيطرة الأقمار الصناعية الأميركية.
إنها طريق طويلة وصعبة. فـ«الباندستاغ»، أي البرلمان الألماني، لا يزال ملتزماً بشروط قوية مع الأجندة الأطلنطية، فضلاً عن طاعته العمياء لواشنطن. فهناك عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين لا يزالون على الأراضي الألمانية. وتتردّد المستشارة الألمانية آنخيلا ميركل للمرّة الأولى عندما يتعلّق الأمر بفرض عقوبات أقسى على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، فأكثر من 300.000 ألماني يعتمدون في وظائفهم على العلاقة مع روسيا. وقد دقّ القادة الصناعيون وخبراء المال ناقوس الخطر، خوفاً من أن تأتي هذه العقوبات بنتائج عكسية تماماً.
دروب الصين الحريرية لاجتماعات الولائم
تتشابه لعبة الصين في القوة الجيوسياسية في أوراسيا، قليلاً مع التاريخ الحديث. فقد ولّت تلك الأيام التي أصرّ فيها «الربّان الصغير» دنغ زيابونغ على أن بلاده «لا تزال موجودة على الساحة العالمية». وسيختلف الأمر حكماً عندما يتعلق بعدم التوافق والصراعات الاستراتيجية المتضاربة في إدارة المناطق الساخنة في البلاد: تايوان، هونغ كونغ، التيبت، شينغيانغ، وبحر الصين الجنوبي، والمنافسَين القويين الهند واليابان، والمشكلات مع الحلفاء كما في كوريا الشمالية والباكستان. والاضطرابات الشعبية التي تهيمن على بعض أطراف بكين والتي قد تنمو إلى مستويات حارقة.
وتبقى الأولوية الأهم في البلاد تنفيذ إصلاحات الرئيس زي الاقتصادية، والعمل على زيادة الشفافية ومحاربة الفساد داخل الحزب الشيوعي الحاكم. أما الأولوية الثانية فتنحصر في مدى القدرة على الإحاطة التدريجية بـ«محورية» مخطّطات البنتاغون للمنطقة ـ من خلال تراكم قوة بحرية زرقاء، غواصات نووية، وقوة جوية متطورة تكنولوجياً ـ مع الحرص على ألّا يبدو كل هذا وكأنه يشكل تهديداً صينياً للقوّة الأميركية.
وتسيطر البحرية الأميركية في الوقت عينه على الممرات البحرية العالمية، من منطلق الاستمرار بالتخطيط للسيطرة على دروب الحرير عبر أوراسيا. وينبغي أن تثبت النتيجة النهائية انتصاراً متكاملاً للبنية التحتية طرقات، سكك حديدية عالية السرعة، خطوط أنابيب، موانئ تصل الصين بأوروبا الغربية والبحر المتوسط، والإمبراطورية الرومانية القديمة، وذلك بكلّ السبل المُتاحة.
وفي رحلة معاكسة لتلك التي اتبعها ماركو بولو، وإعادة مزج خريطة «غوغل» العالمية، فإن درباً حريرية ستنطلق من العاصمة الإمبراطورية السابقة شيان إلى يورومكي في مقاطعة شينغيانغ، ثم منها إلى آسيا الوسطى، إيران، العراق والأناضول التركي، لتنتهي في البندقية. أما الدرب الحريرية الأخرى، فتبدأ من مقاطعة فوجيان وتذهب باتّجاه مضيق ملقا، المحيط الهندي، نيروبي في كينيا، وصولاً إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس. وبِجمع هاتين الدربين معاً، تكون الصين قد حاكت لنفسها حزاماً اقتصادياً حريرياً متكاملاً.
تعتمد استراتيجية الصين على خلق شبكة من العلاقات المترابطة في مناطق خمس على الأقلّ: روسيا صلة الوصل بين آسيا وأوروبا ، آسيا الوسطى، جنوب غرب آسيا مع أدوار مهمة لإيران، العراق، سورية، السعودية وتركيا ، القوقاز، أوروبا الشرقية بما فيها بيلاروسيا، مولدافيا، وأوكرانيا بالاعتماد على نسبة الاستقرار فيها . ولن ننسى أفغانستان، باكستان والهند، التي قد تشكل درباً حريريةً أخرى.
تربط هذه الدرب الحريرية المُضافة الممرّ الاقتصادي ببنغلادش ـ الصين ـ الهند ـ ميانمار، بالاقتصاد الصيني الباكستاني، وقد توفّر للصين أفضلية الدخول إلى المحيط الهندي، مع التركيز على بناء بنية تحتية قوية تربط هذه المنطقة بالصين.
ترتبط رؤية الصين لأوراسيا الجديدة بفكرة النقل والمواصلات والتي عبّر عنها بوضوح الباحث وانغ جي سي في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في جامعة بكين، في مقال نشر عام 2012 بالقول إن فكرة الزحف غرباً، تهدف إلى إعادة التوازن الجيو ـ استراتيجي للصين.
أفضل ما يمكن أن تقوم به الإدارة الأميركية حيال هذا العلاقات الأوراسية، احتواء مائيّ يمتدّ من المحيط الهندي إلى بحر الصين الجنوبي، مع شحذ الصراعات والتحالفات الاستراتيجية حول الصين من اليابان والهند. في الوقت الذي تبقي فيه الولايات المتحدة مهمة احتواء روسيا في أوروبا الشرقية منوطة بمهام حلف شمال الأطلسي.
ستارة حديدية مقابل دروب الحرير
إن «معاهدة الغاز لهذا القرن» التي وُقّعت في أيار الماضي بين الرئيس بوتين والرئيس زي، تضع الأسس المتينة لبناء شبكة أنابيب قوية في سيبيريا والتي لا تزال قيد الإنشاء في ياكوتسك. وسيُضخّ الغاز الطبيعي إلى الأسواق الصينية بكميات هائلة بموجب هذه الاتفاقية، التي لا تشكل سوى البداية للتحالف الاستراتيجي المرتكز على الطاقة بين البلدين.
ويشير رجال الأعمال والصناعيون الألمان في الوقت الحالي إلى واقع آخر: فبقدر ما تشق المنتجات الصينية طريقها إلى أوروبا عبر دروب الحرير الجديدة بقدر ما تقوم أوروبا بالمقابل ـ بالمثل. ومن المقرّر أن تصبح الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا بحلول العام 2018، أي أنها ستتفوق على الولايات المتحدة وفرنسا في هذا المجال.
لكن ثمة عائقاً محتملاً لمثل هذه التطورات، مرحبٌ به من قبل واشنطن، وهو استشراف قيام حرب عالمية باردة ثانية، والتي بدأت مفاعيلها بالظهور في تمزيق الناتو وكذلك الاتحاد الأوروبي. وإذا أردنا أن ننظر بوضح أكثر إلى الصورة التي يقف فيها الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظة سنرى: معسكراً معادياً لروسيا يتضمن بريطانيا، السويد، بولندا، رومانيا، ودول البلطيق، وكذلك إيطاليا والمجر من ناحية أخرى. بينما لا يمكن التنبؤ بموقف ألمانيا والتي يُنتظر أن تحسم أمرها، بين أن تبقى في المعسكر الغربي أو «الذهاب شرقاً». هنا تكمن أهمية أوكرانيا، فإذا ما اتُبع معها نموذج فنلندا مع الإبقاء على جزء كبير من منطقها خاضعة للحكم الذاتي، كما تفترض موسكو ـ وهو اقتراح ترفضه واشنطن بشدّة ـ فإن خيار «الذهاب شرقاً» سيبقى احتمالاً قائماً. وإذا لم يحصل ذلك فسيبقى مستقبل «BMB» ضبابياً.
لكن لا بدّ لنا من ذكر رؤية أخرى لا تزال تلمع في أفق مستقبل أوراسيا الاقتصادي. تحاول واشنطن فرض شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي «TTIP» في أوروبا، وشراكة مماثلة عبر المحيط الهادئ في آسيا. والهدف الواضح عرقلة صعود اقتصادات دول البركس كما الأسواق الناشئة الأخرى، في الوقت الذي يترسّخ فيه الاقتصاد الأميركي العالمي أكثر فأكثر.
هناك حقيقتان صارختان لوحظتا في موسكو وبكين وبرلين، تشيران إلى الجغرافيا السياسية المتشددة وراء هذه الاتفاقيات التجارية. محاولة الشراكة عبر المحيط الهادئ «TPP» إقصاء الصين، ومحاولة «TTIP» أو شراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي إقصاء روسيا. وفي رحلاتي الخاصة الأخيرة، كرّر لي دوماً نخبة المنتجين الزراعيين في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا أن «TTIP» ليست سوى نسخة أخرى من حلف الناتو، والذي اصطلح الرئيس الصيني زي على أن يطلق عليه «النظام الذي عفا عليه الزمن».
هناك رفضٌ واضح لشراكة «TTIP» هذه من قبل عدد من الدول خصوصاً الدول الأوروبية الجنوبية الواقعة على البحر المتوسط ، كما نلحظ هذا الرفض من الدول الأسيوية خصوصاً اليابان وماليزيا لشراكة «TPP». ما يعطي الأمل للصين وروسيا في التمسك بمخطّطاتهما حول الدروب الحريرية كأسلوب جديد من التجارة يعبر قلب أوراسيا مروراً بالاتحاد الأوراسي، في الوقت الذي تراقب فيه ألمانيا ما يجري على الساحة الأوراسية بعين ثاقبة لا تنام.
ومع هذا، فإن برلين لم تظهر قلقاً شديداً على الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي لما عانته من أزمات ثلاث فترات من الركود على مدى خمس سنوات . وانطلاقاً من نظرة ازدرائية لكلّ من البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية، فإن برلين تبقى متربعة على رأس الازدهار الأوروبي، وتشرئبّ بأعناقها بشغف متزايد للتطلّع نحو الشرق.
زارت المستشارة الألمانية آنخيلا ميركل بكين منذ ثلاثة شهور. وبالكاد علّق الإعلام على تسارع المشروع السياسي الذي من الممكن أن يكون فاتحة لإقامة سكك حديدية فائقة السرعة ـ غير منقطعة ـ بين بكين وبرلين. سيجذب هذا المشروع حال انتهائه اهتمام عشرات الدول على طول مساره من آسيا إلى أوروبا. ومروراً بموسكو، فمن المحتمل ان يصبح هذا الدرب الحريري كابوساً حقيقياً لواشنطن.
خسارة روسيا
نلاحظ وسط اللهيب الإعلامي، أن قمة حلف شمال الأطلسي ـ الناتو ـ قد أسفرت خلال اجتماعها الأخير في ويلز عن قرارات متواضعة تمثلت في ردّ فعل عسكري سريع حيال التطوّرات الحاصلة على الساحة الأوكرانية. فقد التقى رئيس منظمة شنغهاي للتعاون «SCO»، في دوشانبيه في طاجكستان نظيره الآسيوي في الناتو. وكان الأجدى بواشنطن ودول أوروبا الغربية أن تلحظ اللقاء. فهناك، اتفق كل من الصين وروسيا وأربعة دول من وسط آسيا على إدخال أعضاء جدد إلى مجموعتهم: الهند، باكستان وإيران. قد تكون تداعيات هذا التحالف بعيدة المدى. فالهند ومع رئيسها الحالي نيراندا مودي أُصيبت بهوس دروب الحرير. ما يستدعي إقامة تقارب اقتصادي جديد على مستوى «الهند الصينية» الذي قد يؤدي إلى تغيير الخريطة الأوراسية الجيوسياسية برمتها. في الوقت الذي يدغدغ ملف «الهند الصينية» أحلام إيران.
إذاً، تعتبر منظمة «SCO» وفقاً لهذا المنطلق، من أهم المنظمات العالمية على الساحة الآسيوية. ومن الواضح أن أحد أهدافها البعيدة المدى التوقف عن التداول بالدولار الأميركي، واستبداله باليوان الصيني والروبل الروسي في مجال تجارة الطاقة. ولن تكون الولايات المتحدة حينذاك ـ وبطبيعة الحال ـ عضواً مرحّباً به في مثل هذه المنظمة.
هذا التوقعات مرتبطة بالمستقبل. أما في الوقت الحالي، فيوجّه الكرملين اهتمامه مرة أخرى نحو بدء محادثات جديدة مع واشنطن، بينما لم ترد بكين ان تتوقف البتة عن القيام بهذا. ومع ذلك، فإن إدارة أوباما لا تزال تنظر باهتمام إلى محصلتها الفارغة من كل هذه اللعبة الأوراسية، معتمدة على قوتها التكنولوجية والعسكرية للحفاظ على مكاسب ما في أوراسيا. تمتلك بكين، من ناحية اخرى، الكثير من الأموال النقدية والقدرة على الدخول إلى الأسواق العالمية، بينما تمتلك موسكو الكثير من الطاقة. إن تعاوناً ثلاثياً بين واشنطن، بكين، وموسكو قد يكون في النهاية مربحاً للأطراف الثلاثة، لكن مهلاً أيها القارئ. فلا تحبس أنفاسك.
بدلاً من ذلك، وباستثناء تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، في الوقت الذي تسعى فيه هذه الشراكة باتجاه القوى الإقليمية الأوراسية. فإن بكين تراهن على ان فلاديمير بوتين سيستدير إلى الشرق حكماً بعد ما آلت اليه الظروف مع الولايات المتحدة والناتو بشأن الأزمة الأوكرانية. في الوقت الذي تدرس فيه موسكو ـ بعناية ـ ما الذي يمكن أن تقدّمه لها مثل هذه القوة الاقتصادية.
وقد ترتفع أصوات العقل يوماً ما داخل أروقة واشنطن وتتساءل بصوت مسموع عن كيفية تقديمها روسيا إلى الصين على طبق من فضّة.
وفي هذه الأثناء، وباعتبار الصين عامل جذب مهماً لنظام عالمي جديد في مستقبل القرن الأوراسي. تواجه روسيا السيناريو المتكامل نفسه، فعلى سبيل المثال يبدو ان الهند تجهد مع غيرها من الدول الأوراسية إلى الانضمام إلى هذه المشهدية ومنها إلى ألمانيا المحايدة.
وفي المرحلة النهائية من هذه اللعبة، ستستفيق الولايات المتحدة على واقع أنها تُلفظ تدريجياً من أوراسيا، في وسط لعبة «BMB» التي ستغيّر كل التوقعات.
… سارعوا إلى وضع رهاناتكم، فسيقومون باستدعاءكم بحلول عام 2025.
المصدر:
«TomDispatch regular»