لعبة الأمم تتشبّث بسورية
د. وفيق إبراهيم
ترفض السياسة الأميركية الاعتراف بهزيمتها المدوّية في سورية، فتستبدل ورقةً مستهلكةً بأخرى قابلة بدورها للتلف السريع، في لعبة يبدو أنّ هدفها استنزاف سورية على مستويي الدولة والمجتمع لأسباب تتعلّق بحاجة أميركية لإلغاء الدور التاريخي السوري الذي يربط بين بلاد الشام وجزيرة العرب وتركيا «المستجدّة» والغرب.
لا تنتمي هذه الفرضية إلى فنون المبالغات، فكلّ متابع لتطوّر الدور الأميركي في سورية، يكتشف مدى الجهد الأميركي المبذول لتدميرها، وكميّة الأوراق المستهلكة في هذا السبيل وحجم الدول التي «أمرتها» واشنطن بالتدخّل فيها، مباشرة أو عبر دعم تنظيمات إرهابية، أو أخرى تنتحل صفة «معارضات معتدلة».
تكفي الإشارة إلى الرعاية المباشرة للإرهاب تمويلاً وتسليحاً من قِبل السعودية وقطر وتركيا والاحتلال الأميركي لمناطقها الشرقية، من دون إغفال التورّط «الإسرائيلي» في دعم التنظيمات الإرهابية في الجولان المحتلّ والمناطق السوريّة المحاذية في محافظة القنيطرة، إلى جانب الاعتداءات العسكرية المباشرة التي يستهدف فيها الجيش «الإسرائيلي» مراكز للجيش السوري وحلفائه.
ومع إصرار واشنطن على إلغاء القضية الفلسطينية، باتت حاجة السياسة الأميركية لتفتيت سورية أكبر وأكثر أهمية، وذلك للترابط البنيوي بين هذه القضية والتاريخ السوري، وجاء احتمال وجود كميات كبيرة من الغاز في بحر سورية وبرّها ليرفع درجات الاهتمام الأميركي بتفتيت بلاد الشام والعراق في إطار مرحلة أولى تريد منها أيضاً تمزيق تركيا والعراق، إنّما في مراحل لاحقة.
وما كان موضوعاً على نار خفيفة، جاء زمن تحويله إلى بركان. إنّها ورقة الأكراد في شرق سورية ومناطقهم التي تربط بين جنوبها المطلّ على العراق وشمالها المجاور لتركيا بشكل يحاذي امتداد نهر الفرات في عبوره السوري، الحابس شرقاً لنحو 25 في المئة من مساحة البلاد.
على هذا المدى نشر الأميركيون اثنتي عشرة قاعدة عسكرية حسب معلومات الروس، ونحو ثمانية آلاف جندي أميركي يحاولون فيها إنشاء وتدريب جيشٍ من ثلاثين ألف يشكّل الكرد سبعين في المئة منه، مقابل ثلاثين في المئة من البدو السوريين وأقليات سورية سريانية وآشورية وعربية مختلطة.
وهنا تبدو الأسباب الأميركية ملفّقة كدأب المحتلين، فما عرضه وزير خارجيتها تيلرسون يثير السخرية… قال وهو يكاد يضحك: «سنبقى في سورية لمنع الإرهاب من العودة». مضيفاً بأنّ بلاده تريد تطويق النفوذ الإيراني والتضييق على نظام الأسد، وهذه أسباب تضرب القوانين الدولية بعرض الحائط، لأنّ سورية دولة عضو في الأمم المتحدة، ولديها حكومة شرعية تمتلك ممثلين عنها في المؤسسات الدولية، وهذا يكشف ألاعيب واشنطن التي تصرّ على شرعية عبد ربه منصور هادي في اليمن، الذي فرّ إلى الرياض، وترفض حالة أكثر شرعية منه في سورية. أما عن الإرهاب، فلا بأس من العودة إلى اتهامات الرئيس الأميركي ترامب لأسلافه في البيت الأبيض بدعم الإرهاب، فضلاً عن الاتهامات المتبادلة بين قطر والسعودية وتركيا بدعم منظمات الإرهاب في «داعش» و«النصرة» والقاعدة.
أمّا لجهة النفوذ الإيراني، فإنّ وصول الجيش السوري إلى حدوده مع العراق وانتصاره على «داعش»، لهي من الدلائل الواضحة على نجاح طهران في فتح طريق واسعة بين لبنان وأراضيها. وهذا يدلّ على مدى التلفيق في أسباب تيلرسون. هذا التلفيق الذي يعجز عن إخفاء الأهداف الحقيقية للأميركيين، والمتعلّقة بتفتيت سورية والعراق والمنطقة بأسرها، وبأوراق مختلفة، وآخرها ورقة الأكراد التي تثير غضب الحكومة السوريّة وتحالفاتها، لكنّها تسبّب اضطراباً جنونياً للأتراك المستهدفين مباشرة من التحرك الكردي لسببين: الجوار الجغرافي المباشر لهم، ولأنّ عدد الأكراد في تركيا يزيد عن 15 مليون نسمة ينتشر معظمهم في جغرافيا منيعة خاصة بهم. هي إذاً دعوة أميركية لتفتيت تركيا أيضاً إلى جانب سورية، مع احتمال «عودة الروح» لكردستان العراق، وإعادة تنشيط للذاكرة الكردية لأكراد إيران.
ما يمكن ملاحظته في هذا السياق، وباستغراب شديد، هي المواقف الكردية والتركية. فكيف يقبل الكرد بتكرار أخطاء التاريخ والجغرافيا عشرات المرات، وكيف يوافقون على استعمالهم أدوات لتدمير الدول التي يشكّلون جزءاً تاريخياً أصيلاً في نسيجها الاجتماعي؟ لقد استعملتهم بريطانيا عشرات المرات في مطلع القرن الماضي، تارةً لضرب العثمانيين والفرس، وطوراً لتفتيت العراق وسورية وتركيا، وليتبيّن لاحقاً أنّهم ليسوا أكثر من أدوات للاستعمال في وقت محدّد، قابلة للاستهلاك بعد المساومات الدولية، وهذا ما حدث بين الأتراك والعراقيين والإيرانيين والبريطانيين والفرنسيين، ولاحقاً الأميركيين.
أمّأ الآن، فيلعب الأميركيون بورقتهم محاولين إيهامهم بإمكانية تأسيس دولة لهم شرق الفرات. وهنا نستحضر خطأ الجغرافيا إلى جانب تكرار الخطأ التاريخي، لأنّ دولة في شرق الفرات، لن يكون لها سواحل بحرية وخطوط برية وتستطيع دول الجوار منعها من استعمال أجوائها، ما يجعل منها «دولة ميتة بالولادة».
لذلك، فـ»مشروع شرق الفرات» ليس أكثر من حاجة للأميركيين لتحسين مساوماتهم مع الروس والإيرانيين والدولة السورية في مراحل لاحقة، أي بعد أن يتبيّن ضعف الورقة الكردية وعجزها عن تلبية المآرب الأميركية الكبرى.
إنّما ماذا عن أنقرة؟ استشعرت على الفور هجوماً أميركياً عليها بالهراوة الكردية في شرق سورية، فأعلنت بشكل غريب الحرب على غرب سورية، في مسرحية تكشف أنّ المرحلة هي مرحلة الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من المساحات للمشاركة في الحلول النهائية للأزمة السورية. وهذا ما يكشف لعبة الإمساك بالمساحات بين الأميركيين والأتراك. فعفرين منطقة في غرب سورية، تجاور تركيا، اي أنها مقفلة من جانب التركي ويطوّقها الجيش السوري بدعم روسي، فما هي خطورتها؟
لذلك، فإنّ أسباب الهجوم التركي المرتقب عليها ترتبط برغبة أنقرة في التفاوض مع الأميركيين على مسألتين: ضمانات بتحجيم المشروع الكردي في إطار الداخل السوري فقط، ومنح تركيا دوراً أساسياً في الحلول المطروحة للأزمة السورية.
لذلك يعتمد أردوغان ووزير خارجيته أوغلو على أسلوب التهويل في الموضوع الكردي، لأنهما يعرفان أن ورقة الكرد هي آخر ما يمتلكه الأميركيون لعرقلة الحلول في سورية. هذا من دون نفي مدى الخطورة التي يستشعرها الأتراك من احتمال تمدّد المشروع الكردي إلى مناطق تركية واسعة مجاورة للشرق السوري. وهم لا يريدون إعطاء كميات كبيرة من الدعم السياسي والعسكري لحزب العمال الكردي المنتفض قبالة شرق سورية وشمال العراق قبالة جبال تركيا.
إنّها إذن لعبة الأمم التي تضرب القوميات والأعراق ببعضها بعضاً، وذلك بالتموضع على طموحاتها التاريخية واستغلالها إلى الحدّ الذي يؤدّي إلى نضوب حيويتها، وعندها يتمّ رميها في «مدفن التاريخ»، تمهيداً لاستعمالها مرات جديدة في المستقبل.
في المقابل، تعتبر الدولة السوريّة أنّها غير معنية بلعبة أمم تستهلك أراضيها وشعبها المتضامن، فتتصرف على أساس أنّها تساوي بين الاحتلالين التركي والأميركي، غير أنّها تسجّل «لوماً أبوياً» على القيادات الكردية المتورّطة، باعتبار أنّ سورية اعتبرت دائماً المكوّن الكردي جزءاً بنيوياً محترماً من السوريين، ولا تزال على موقفها.
أمّا على مستوى روسيا، فهي حليف وثيق لدمشق، لكنّها تترقّب نتائج الصراع الأميركي التركي، وذلك في إطار سعيها لحيازة دور في مرجعية القرار الدولي، لأنّها تعتقد أنّ مثل هذه الصراعات تؤدّي حكماً إلى تراجع النفوذ الأميركي. إلّا أنّها في خاتمة المطاف لن تكون إلّا إلى جانب دمشق في معركة استرداد كامل سورية، ولإيران أيضاً مصلحة في كبح الجنون التركي الذي يحاول بالحيلة إخفاء مطامع تركيّة في سورية جغرافياً وسياسياً، وبالتالي اقتصادياً. فتحرير سورية يؤدي حكماً إلى خروج طهران من الحصار المضروب عليها منذ القرن الماضي؟ موسّعاً مداها وتحالفاتها.
يتّضح بالنتيجة أنّ شرق الفرات ومعه منطقة عفرين، هي محاولة أميركية لتمديد الأزمة السورية تمهيداً لبناء أوراق أميركية جديدة بديلاً من الآليات التي انهارت تحت أقدام الجيش السوري. وهي أيضاً محاولة لترميم الطموحات التركية المسحوقة. الأمر الذي يمنح الحلف السوري الروسي الإيراني مع حزب الله، فرصة تاريخية للانتهاء من لعبة الأمم الأميركية في سورية مقابل إعادة إنتاج سورية الجديدة المعبّرة عن طموحات كامل مكوّناتها، بمن فيهم الأكراد.