خلاص قائم على الذكاء والمعرفة وآخر على الفضيلة الدينيّة والأخلاقيّة

جورج كعدي

بقفزة تاريخيّة من الزمن اليونانيّ القديم و«جمهوريّة» أفلاطون و«يوتوبياه» التي كانت محطّتنا الأولى في هذه الأفكار، إلى «يوتوبيّات» عصر النهضة بعد خمسة عشر قرناً، نقع على أفكار مثيرة لفلاسفة ومصلحين دينيّين، فعقل الإنسان لم يكفّ عن الاهتمام ببناء مجتمعات مثاليّة خياليّة تعتمد على المبادئ الأخلاقيّة والدينيّة مثل اعتمادها على الرفاه الماديّ في آن واحد. ومن أبرز ممثّلي هذا الفكر «اليوتوبيّ» في عصر النهضة أغسطينوس وتوما الأكويني، القدّيسان في الإيمان المسيحيّ، وللأوّل مؤلّفه المشهور «مدينة الله»، وللثاني مؤلّفه المشهور أيضاً «أصول الحكم» كتب في القرن الثالث عشر .

أدرك توما الأكويني مثلاً حقيقةً، وإن ذات جوهر «يوتوبيّ»، تنطبق على جميع الأزمنة والعصور وعلى سائر المجتمعات البشريّة ونظم الحكم، تتعلّق بالتأثير المدمّر للتجارة على الجماعة أو المجتمع، قائلاً في هذا المقطع البليغ: «إذا كرّس المواطنون حياتهم لشؤون التجارة فسيصبح الطريق مفتوحاً لرذائل عديدة، فما دام الهدف من التجارة يقود بصفة خاصة إلى كسب المال، فإنّ ممارسة التجارة توقظ الجشع في قلوب المواطنين. والنتيجة هي أنّ كل شيء في المدينة سوف يُعرض للبيع، وتدمّر الثقة، ويُفتح الطريق لأنواع الغشّ والخداع كافّة، وسوف يعمل كلّ فرد لأجل ربحه الخاص فحسب ويحتقر المصلحة العامة … ». لا شيء أكثر تطابقاً مع الجشع الماديّ للشركات والأفراد في زمننا الرأسماليّ المتوحّش الراهن من هذا الوصف الرؤيويّ الصائب الذي يعود إلى القرن الثالث عشر، وإن في قالب طوباويّ أو «يوتوبيّ» لم ولن يجد طريقه يوماً إلى الإلغاء أو التعديل، طالما أنّ الجشع الفرديّ وغير الفرديّ لدينا جشع الدول أيضاً هو من شروط الوضع الإنسانيّ غير القابل للإصلاح، في تقدير كاتب هذه السطور والأفكار المتقاطعة، وأيّ نظريّة مثاليّة في هذا الصدد أو سواه آيلة إلى السقوط الحتميّ.

بنزعته اللاهوتيّة التنسّكية والتصوّفية، المفكّرة والناطقة دوماً بالمثل والمبادئ التي تتلافاها العامّة غالباً، رأى الأكويني أنّ السعادة الإنسانيّة تعتمد على الأخلاق والرفاه المادّي معاً، وأنّ ثمّة شرطين ضروريين ليحيا الفرد حياة سعيدة، أوّلهما وأهمّهما أن يسلك سلوكاً فاضلاً، فالفضيلة تتيح للإنسان أن يحيا حياة رضيّة. أمّا الشرط الثاني وهو ثانويّ ويعتبر أداة أو وسيلة، فهو توافر ما يكفي من الخيرات المادّية الضروريّة لأن يسلك المرء سلوكاً فاضلاً.

في المقلب الآخر العلمانيّ، غير الدينيّ أو اللاهوتيّ، لدينا في عصر النهضة الأديب والطبيب والموسوعيّ الكبير الرائع فرنسوا رابليه 1494 ـ 1553 الذي يعتبر نموذجاً لإنسان عصر النهضة، ذا معرفة موسوعيّة، شديد الإعجاب بالأدب الإغريقيّ، كارهاً للمذاهب المدرسيّة، «وثنيّاً» في مسيحيّته دخل عالم الرهبنة لكن سرعان ما هجره لدراسة الطبّ . اشتهرت لرابليه أعمال كثيرة، خاصة تلك استلهمها تحت عناوين متفرّقة من الحكايات الشعبيّة حول شخصيّة العملاق «غارغانتويا» مازجاً في كتاباته الحادّة والساخرة بين الفانتازيا والواقع، كما لو أن الجنون يقود إلى الحكمة في نظره، مقترحاً حياة مثاليّة قائمة على المعرفة والصفاء والحرية. لكنّ «دير تيليم» Abbayer th l me الذي ابتدعه رابليه في مؤلّفه «غارغانتويا وبانتاغروييل» هو ما يهمّنا هنا في سياق الكلام على «اليوتوبيا»، فهذا «الدير» يضمّ بحسب مخيّلة رابليه الفذّة جماعة علمانيّة مختلطة، مثقّفة ونخبويّة، تُختصر قاعدة حياتها في جملة واحدة: «إفعل ما تشاء». جماعته الخياليّة هذه تجسّد روح النهضة على أكمل وجه. لم يهتمّ رابليه كثيراً بـ«المسائل الاجتماعيّة» إذ كان تمرّده فرديّاً محضاً وغير مرتبط بالتمرّد على النظام الاجتماعيّ. فالنهضة لم تكن في الواقع حركة إصلاح بل حركة تمرّد قام بها أفراد سعوا إلى نيل الحريّة لأنفسهم أوّلاً. «دير تيليم» يعكس «يوتوبيا» الأرستقراطيّة الجديدة في عصر النهضة، القائمة على الذكاء والمعرفة لا على القوة أو الثروة. يصف رابليه كيف ينبغي أن تكون حياة هؤلاء الرجال والنساء في «دير تيليم» متميّزة بالأصل الطيّب والتربية الراقية والموهبة والصحّة، وهم ليسوا في حاجة إلى قوانين أو محامين، ولا إلى سياسة أو مرشدين، ولا إلى مال أو مرابين، ولا إلى دين أو رهبان… كما أنّهم في غنى عن أيّ قواعد تتحكّم فيهم، إذ يحسنون استغلال وقتهم على أفضل نحو، ولا يحتاجون إلى التقيّد بأيّ قيود أخلاقيّة تُفرض عليهم من الخارج، فهم بطبيعتهم أمناء، مفطورون على المشاعر النبيلة، قادرون على الاستمتاع بالحرية والمساواة الكاملتين بين الرجال والنساء…

«دير» رابليه هذا جذّاب، شديد الإغراء، لكن كم هو سهل وعمليّ إنزاله من سماء «اليوتوبيا» إلى أرض الواقع؟!… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى