محمد العتيق… تجربة حاملها الأصالة مجنّحةً بالحداثة
سامر منصور
أنهى الطبيب الشاعر محمد العتيق غربته في بداية العام الثاني من عمر الأحداث الدموية، وعاد إلى سورية ليبدأ رحلته في تصوير معاناة الإنسان السوري. فأنشأ «دار العتيق للطباعة والنشر»، وسرعان ما حزم حقائبه مجدداً وسافر إلى بيروت وبابل وبغداد والإسكندرية وقرطاج والقاهرة والخرطوم.
لكنه لم يكن سفر اغتراب، بل كانت أسفار لقاءات بالشعراء والأدباء العرب الذين جذبتهم قصائده. والسؤال الذي يتوارد إلى الأذهان، متى تشكّل المجموعة الشعرية محطّ اهتمام أجيال ومجتمعات عبر كلّ هذا الامتداد الجغرافي؟
لعلّ ما يميّز العتيق عن غيره من شعراء اليوم، الشعريّة، هو وعيه بالعملية الإبداعية والتي تنمّ عنه، خياراته على صعيد اللفظة والتفعيلات والقوافي والانزياحات وتوظيف التضّاد ومحاورة الموروث، وهناك زخم في الطرح حيث نجد الحُب ورؤيا عن الخلاص ومعاناة الطفولة وعمق قومي وتكريس للقيم على صعيد المجموعة الشعرية وأحياناً في قصيدة واحدة.
ربما لأن الشاعر يمتلك نظرة كلية كونية تجعل تلك الأشياء فسيفساء للوحة ومشهد أكبر من إحداها منفردة، وقد استشعرت الذات الشاعرة التي خطّت هذا الديوان ذلك المشهد حيث تنهار الحدود بين معاني الوجود وتذوب جماليات الجزئي في جماليات الكلّي ومن الأمثلة على اللوحة التشكيلية التي يرسمها العتيق قوله: أدهشيني يا مقاماتِ التصوّف
أدهشيني يا بواكير الرياح
واحصديني سُنبلاً
ينداحُ من قطرِ الصباح
مِنجلاً كالضلع
في صدري مُتاح
ذي مواقيت العبورِ المُشتهى.
عندما نتحدث عن الحداثة في القصيدة العربية نجد كثيرين من الشعراء العرب اليوم ينددون بالاتّباعية لدى شعراء ما يسمّى بقصيدة العمود، ويقعون هم في اتباعية أخرى للشعراء الأجانب البارزين حيث يبتعدون عن المفردات المشهدية والمرئيات اليومية في البيئة العربية وعن الموضوعات والقضايا التي تشغل الإنسان العربي. بينما لفت انتباهي دأب الشاعر العتيق على كتابة شعر ابن بيئته مهما انطلق في فضاءات الفكر والرؤيا الإنسانية ومن الأمثلة قوله:
تنور محبرتي يفور كمرجل
وأيضاً: يعدو صهيل النور من سرج الندى.
فهو لا يستورد مفردات نصوصه من كتاب المشارق والمغارب، على الرغم تنوّع فنّيات النصّ الحداثوي من انزياحات وبنية درامية تعزّز العصف الذهني، فيها أكثر من عتبة فكرية. وصورة شعرية منفتحة على ما قبلها وما بعدها منسجمة في نسيج مشهد دلالي متماسك يستنبت في العقل والوجدان ما يريد أن يبثنا إياه الشاعر، من فكرة وعاطفة، إلّا أنّ ذلك جاء في تجربة الشاعر العتيق موشى بروح المذهب الرومنسي، هذا المذهب الذي كان الأقدر على التعبير عن مدى ارتباط الإنسان بأرض الوطن حيث صاغ فيه الشعراء العرب الحُب كقيمة كلية والتقى فيه حُب المعشوقة بجب العائلة والوطن.
«واحزنَ نفسي كم تموتُ ثواني، تفنى بنوم العاشق الولهان»، «الياسمينُ مُعرِّشٌ ببناني»، «وجدت كلّي فيك يا أكواني»، «كل الشآم من الشآم تراني»، اذ نلاحظ في ما سبق العلاقة البنيوية التكاملية وتماهي الشاعر مع الموصوف، ويُذكر أن الشاعر العتيق تمكّن من تجاوز عيوب مجموعاته الشعرية السابقة حيث تخفّف من الجمل الإنشائية والألفاظ الغريبة المعجمية.
ولا بدّ من التنويه ختاماً بأنّ تجربة الشاعر محمد العتيق في رسم مشهديّات غير مألوفة تحمل مقاصده في خيال المُتلقي.
«خرج الطريق بوجه أقدام الحفاة، ثم اختفى»، «فتحت أبواب السماء بأضلعي، فتشت العاريات من النجوم، وأنا أسافر في مدارات الوجوه، علي أراك اليوم ممتطياً جواد مدينتي، أو جالساً في ركن قهوتنا العتيق».
كاتب فلسطينيّ