«دون كيشوت» الأميركي يعلن الحرب على… العالم!!
د. وفيق إبراهيم
تصاعد النزعة الحربيّة في أوساط الدولة الأميركية أمر يثير ذعراً حقيقياً، لأنّها تقحم العالم في سباقِ تسلّح جديد يستنزف الإمكانات الاقتصادية، ويضع الإنسانية تحت رحمة مجانين عديدين ينظرون مزهوّين إلى أزرار نووية مبعثرة على مكاتبهم، بوسعها تدمير الأرض بما فيها… بلادهم.
ما يدفع إلى هذا الاستنتاج هو المشروع الاستراتيجي الذي أعلن فيه وزير الدفاع الأميركي ماتيس بدء بلاده بناء منظومات تسليح فائقة التطوّر تجمع بين المديات الصاروخية والبرية والجوية، معلناً العزوف النسبي لبلاده عن الاهتمامات السياسية العاديّة في القارات والمناطق، الأمر الذي اعتبره الباحثون بمثابة إعلان عن سباق تسلّح جديد له أهداف تتعلّق بالهيمنة الأميركية على العالم.
لكن هناك مَن يبرّر هذه النزعة بمحاولات من جانب الرئيس الأميركي ترامب للفرار ممّا يعترضه من ضغوط داخلية في بلاده تكاد تطيح به، فيسعى من خلال خطة التسلّح إلى جذب انتباه الأميركيين نحو الأطر الخارجية، فيعيد بذلك تجميعهم عبر نظرية الطموح القومي، باعتبار أنّ هناك قوى دولية تحاول تدمير «النموذج الأميركي» الفريد من نوعه، كما تقدّمه الدعاية الأميركية. ولهذا الاحتمال وجاهته، فترامب هو أولاً رئيس أميركي يرفضه 47 في المئة من الأميركيين بعد مرور سنة على انتخابه، وذلك في استطلاع رأي حديث تبيّن فيه أيضاً أنّ 35 في المئة فقط يؤيّدون سياساته، وهو أيضاً أوّل رئيس أميركي يخضع لفحص طبي حول مستويات ما يتمتّع به من اتزان وإدراك، وكان يتردّد بالإضافة إلى ذلك احتمال إصابته بالخرف «الزهايمر» وقلّة الثقافة، وهذه لا دواء لها في الطب.
العالم إذاً يمرّ اليوم في مرحلة أحادية عالمية أميركية هي الأقوى من نوعها في التاريخ، يقودها رئيس أخرق يحاول تدمير كلّ القوى التي تحاول «منصفة» واشنطن في مبدأ احتكار القوة، أو تعارض هيمنة الرأسمالية الأميركية المتوحّشة على اقتصاد العالم مهما كان صغيراً أو كبيراً، وشعارها «الدفع مقابل الحماية» للصديق والبعيد على السّواء.
ضمن هذين الاحتمالين، تجنح مكاتب الأبحاث إلى اعتبارهما متكاملين وليسا منفصلين، فبإمكان ترامب أن يضع بواسطة الدولة الأميركية الطموحة خطة موحّدة لتدمير المنافسين من جهة، وتؤدّي من جهة أخرى إلى إعادة تعويمه ونزع كلّ الاتهامات الموجّهة إليه والمتعلقة بالغباء والحماقة والجهل والسطحية.
لماذا هذه الخطة التي أعلن عنها ماتيس؟
احتكرت واشنطن العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989، وشنّت حروباً ومؤامرات لتثبيت سيطرة مطلقة على العالم، بدليل أنّ هناك إجماعاً دولياً على أنّ كلّ الحروب والتدخلات في تلك المرحلة كانت أميركية خالصة.
هناك ثلاثة عناصر كبحت نشر السياسات الأميركية في قلب العالم، أوّلها التمرّد الإيراني الذي رفض بعد انتصار ثورته الإسلامية في 1979 الاندماج في هذا النفوذ والاستسلام له، لذلك حاصرها الغرب والخليج و«إسرائيل»… وروسيا يلتسين. أمّا العنصر الثاني، فيتجلّى في المقاومة التي أبدتها الدولة السوريّة في وجه المشروع الأميركي لتفتيت المشرق العربي المتجسّد بـ «الإرهاب الإسلاموي» الذي دمّر معظم دول المنطقة العربية.
بيد أنّ العنصر الذي قلب المعادلات، محطّماً موازين القوى، فهو التدخّل العسكري الروسي في سورية، الذي اعتبر أنّ عودة بلاده إلى النظام المرجعي الدولي يفترض أولاً حماية سورية، ممّا يُصيبها من الهجوم الأميركي الخليجي «الإسرائيلي».
وبالفعل، نجحت روسيا بالتحالف مع إيران والدولة السوريّة وحزب الله في إيقاع هزيمة مدوّية في مئات آلاف الإرهابيين ترعاهم الأقمار الاصطناعية الغربية والتمويل الخليجي والتسليح والرعاية التركيين… والدعم «الإسرائيلي»، مُتيحين للعراقيين الفرصة الهائلة للانتصار على «داعش» في مناطقهم، فكان أن تلقّى مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الأميركي ضربة قاسية أدّت إلى تراجع الدور الأميركي في المنطقة.
هناك إذاً، انتصار كبير أصاب واشنطن بذعر لإحساسها بأنّ الطرف الروسي على وشك مشاركتها في مرجعيّتها الأحادية، الأمر الذي يحوّلها إلى ثنائية مفتوحة على ثلاثيات ورباعيات «قوة» في العالم. فإلى جانب روسيا، هناك الصين التي تريد استثمار هيمنتها الاقتصادية في امتلاك مرجعيّة قوة دولية ذات طابع عسكري إضافي، وأوروبا التي تتهيّأ للمطالبة بإطلاق سراحها من السجن الذي حبسها فيه الأميركيون منذ العام 1945، الذي يؤرّخ انتصار «اليانكي» في الحرب العالمية الثانية.
لجهة البدائل الأميركية في «الشرق الأوسط»، فهي أكثر ضعفاً من ورقة الإرهاب المستهلكة. فالأكراد مشروع يصيب الأتراك بجنون، واستخدام «إسرائيل» مباشرة يُعيد تحشيد العرب والمسلمين، كما أنّ ورقة التدخلات العسكرية الأميركية لا تنتج إلا المزيد من الاستنزاف البشري والاقتصادي، الأمر الذي يعيد زعزعة الطبقة الوسطى الأميركية عمود الاستقرار الأميركي. وكان الرئيس السابق أوباما أوقف التدخلات العسكرية الأميركية المباشرة بعد تراجع عديد الطبقة الوسطى في بلاده مقابل ارتفاع ثروات الأغنياء إلى الحدّ الذي كان يؤشّر إلى اندلاع ثورات كبيرة، فكيف يمكن لترامب أن يعاود اقتراف الأخطاء نفسها، وهو الذي يستشعر خطراً على استمرار ولايته؟!
ضمن هذا الإطار، ارتأت الدولة الأميركية ضرورة ابتكار خطة تشبه الخطة التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وهنا تعتقد مراكز الأبحاث أنّ القيادة الأميركية التاريخية لأميركا وأوروبا والخليج، أخضعت روسيا لسباق تسلّح وحرب نجوم لمدّة عقدين متواصلين من الزمن، أدّت إلى تصدّع الاقتصاد السوفياتي المنهمك أصلاً في الدفاع عن أنظمة متقاربة معه إمّا في الإيديولوجيا الصين، فيتنام، كوريا الشمالية وفنزويلا أو في السياسة مصر، سورية، العراق وليبيا . وكان قسم من الموازنة السوفياتية يذهب إيديولوجياً، والقسم الأكبر سياسياً. إلى جانب أكلاف سباق التسلّح…
وهكذا أسقطه الأميركيون بالضربة القاضية، ناشرين ثقافة الحروب بين 1990 2017، وهي أكثر مرحلة دموية في التاريخ، كما يرى المؤرخون المعاصرون، واتّسمت بدكتاتوريّة مطلقة تراجعت مع وصول الجيش السوري المدعوم إيرانياً وروسياً إلى البوكمال عند حدوده مع العراق. هذا ما يدفع واشنطن إلى تكرار المحاولة، وهي إنهاك روسيا بسباق تسلّح واستنزافها لمنعها من المشاركة في إنتاج القرار الدولي… ولإجهاض التدرّج الصيني المتدحرج الذي يريد بدوره حصة من مرجعية القرار الدولي، وبذلك تقلّص واشنطن إمكانية تحرّر أوروبا من الهيمنة الأميركية التاريخية عليها، وتمنع ارتفاع الهند الساعية بدورها إلى أدوار عالمية في الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية.
ولا شكّ في أنّ دخول الروس الآن في سباق تسلّح، من شأنه تحطيم الدور الروسي نهائياً، لأنّ موسكو لا تتمتّع حالياً بقدرات اقتصادية متميّزة، وتتموضع على إمكانات اقتصادية تكاد لا تعادل إمكانات دولة معتدلة في أوروبا كفرنسا وإنكلترا وإسبانيا.
لكن لروسيا من الإمكانات العسكرية ما يجعل منها مصدر قلق كبير للأميركيين، فهي تمتلك كلّ أنواع التسلّح المدمّر للأرض، وبوسعها تطويره بإمكانات متواضعة، لكنّها لن تشارك في حرب نجوم ليست بحاجة إليها الآن، وهذا ما يفرض على الأميركيين التعامل معها استناداً لما تمتلكه من قوة تدميرية، ونفوذ سياسي واسع بدأ بالتوسّع من البلطيق وأوروبا الشرقية نحو أميركا الجنوبية و«الشرق الأوسط».
ولن يكون عجيباً ولادة مشاريع روسية صينية مشتركة تنافس الأميركيين في سباق التسلّح، فالحاجة أمّ الاختراع، والإحساس بالخطر من الأميركيين من شأنه تجميع المتضرّرين.
وهكذا يتبيّن أنّ محاولات واشنطن للمحافظة على هيمنتها الأحاديّة، لن تؤدّي إلا إلى مزيد من التوتّر العالمي، وتوحيد المتضرّرين في إطار حلف روسي صيني إيراني، قد تجد أوروبا نفسها قريبة منه إلى جانب الهند. وهذا ما يؤدّي إلى مزيد من تقهقر الإمبراطورية الأميركية وولادة نظام مرجعي جديد فيه قوى متكافئة، تجد نفسها مضطرة للعمل على إنجاح السلم العالمي ومنع الحروب، والقتل وتفتيت الدول للزوم المزيد من الهيمنة.