خروج إيران من المنطقة…
سعدالله الخليل
لماذا توقفت أحداث الشغب فجأة في إيران؟ وكيف تحوّلت الاحتجاجات التي استحوذت على مساحات كبيرة من التغطية الإعلامية الغربية والعربية، والتي روّجت لآمال وسقوف عالية لم تقف عند حدود الرئاسة الإيرانية، من الخبر الأول من حيث الاهتمام إلى غياب تامّ خلال أقلّ من شهر؟ وما الدافع والدور الأميركي والإسرائيلي وراء إشعال وتضخيم الاحتجاجات وتصويرها كأنها «ثورة وربيع إيراني جديد»؟ وهل انقلب السحر الإيراني على الساحر الأميركي معمّقاً خيبات سيد البيت الأبيض، الذي لم تطابق حسابات حقل واشنطن ما جناه في بيدر طهران؟ أسئلة أطاحت الإجابات عنها بما سعت له واشنطن منذ مطلع الثورة الإسلامية في إيران بإخراج إيران من دورها الإقليمي الذي تعزّز ونال اعتراف عالمي.
«لا نريد ثورة في إيران بل نريد تغيير سلوك النظام»، موقف أطلقه دينيس روس مساعد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط، مختصراً رؤية بلاده لما يجري في إيران من أعمال شغب، أراد مفتعلوها لفت الانتباه إلى الداخل الإيراني في ظلّ دور طهران الفاعل على الساحة الإقليمية والعالمية، والذي تنامى وأخذ موقفاً أكثر وضوحاً بعد الاتفاق النووي مع السداسية الدولية عام 2015، فبالرغم من تأكيد طهران أكثر من مرة عدم الربط بين الملف النووي وملفات المنطقة، فقد بدت طهران بعد التوقيع على الاتفاق أكثر ديناميكية في ملفات المنطقة الرئيسية والمصيرية من سورية إلى اليمن مروراً بالعراق وفلسطين.
كلام روس وهو الديبلوماسي المحنّك وراسم سياسات «الشرق الأوسط» أثناء ولاية إدارة كلّ من جورج بوش الأب وكلينتون، والذي عمل عن كثب مع وزراء الخارجية جيمس بيكر ووارن كريستوفر ومادلين أولبرايت، ولعب دور الوسيط للوصول إلى الاتفاق الموقت عام 1995 بين السلطة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، وكذلك اتفاق وادي عربة بين الأردن والعدو «الإسرائيلي»، يتعدّى كونه مجرد رأي لخبير يتوقع مسار الأحداث، بل كلام عارف بماهية السياسات وكيف تدار الأمور داخل مراكز صنع القرار الأميركي، والذي لم يجد حرجاً في الإعلان بأنّ ما تريد أميركا رؤيته في إيران هو تغيير في سلوك النظام في الخارج، ووقف دعمه لدول وحركات المقاومة والممانعة بمبالغ مالية طائلة تؤدّي إلى التسبّب بالمشاكل الاقتصادية في الداخل، وبناء على هذه الرؤية ركّزت الحملات الدعائية المرافقة على الشق الاقتصادي في الداخل الإيراني وربطه بحجم إنفاق الجمهورية الإسلامية على جبهات المواجهة الإقليمية في سورية والعراق واليمن، وحسناً فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاندفاع المتسرّع للتعبير عن دعمه الاحتجاجات، متجاهلاً كلّ نصائح خبراء السياسة الأميركيين من حلفاء وخصوم، بأنّ أفضل طريقة لتمرير المشروع الأميركي في إيران تعمّد الرئيس الأميركي، عدم التضامن مع الاحتجاجات نظراً للحساسية المفرطة لدى المواطن الإيراني تجاه أميركا بغضّ النظر عن انتمائه السياسي، ولقناعته بأنّ أيّ رئيس أميركي لا يمكن أن يضمر الخير لإيران، ولذلك فإنّ الحماس الأميركي وما تبعه من اندفاعة «إسرائيلية» وسعودية في السياق الأميركي لعبت دوراً في إضعاف حجة الاحتجاجات وانكشاف اللعبة الأميركية السعودية الإسرائيلية.
اندلاع الاحتجاجات قبل أيام من استحقاق بت الرئيس الأميركي بالاتفاق النووي الموقّع مع طهران، ترك إشارات استفهام عديدة، فبالرغم من موقفه الواضح الرافض للاتفاق فإنّ اقتراب موعد توقيع وثيقة تجميد العقوبات على طهران والتي تجدّد كلّ 120 يوماً، وضع ترامب في مأزق بين رفض التوقيع وإلغاء الاتفاق، وهو ما يحمّل واشنطن تبعات لا تحمد عقباها ويضعها في مواجهة القوى الكبرى، وبين توقيع يخالف سياسات ترامب العدائية لطهران وللاتفاق، وبالتالي يعدّ افتعال حدث جلل داخل إيران مناسبة للتنصّل من الاتفاق من بوابة التغيير في الداخل الإيراني، ومع فشلها اضطر ترامب للتوقيع على الاستمرار برفع العقوبات للمرة الأخيرة والإعلان عن مطالب بإصلاح الأخطاء في الاتفاق النووي مع إيران.
السعودية الغارقة في ملفاتها الداخلية وحملة الابتزاز التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان لكبار أصحاب رؤوس الأموال في المملكة، وما رافقها من سخط دولي حيال أسلوب تعاطي المملكة مع سجناء فندق «الريتز» الذين وافق جلهم على تسوية مالية مقابل إطلاق سراحهم، غَرَقٌ أضيف إلى ما تعانيه في المستنقع اليمني الذي بات جبهة حرب مفتوحة ضدّ المملكة، في حين كانت تنظر إليها كساحة تصفية حسابات وتحصيل حاصل، وفي ظلّ مرارة الموقف قرأت نتائج الاتفاق على طهران، والتي بالرغم من انخفاض أسعار النفط العالمية وضعف تدفق الاستثمار الأجنبي، تحرّكت المؤشرات الاقتصادية الإيرانية في الاتجاه الصحيح مع رفع العقوبات بنموّ الناتج المحلي الإجمالي بمعدّل سنوي يفوق 4 ومستوى نمو وصل إلى 12.5 وبقاء التضخم عند مستوى 10 ، ما يمثل تحسّناً قوياً مقارنة مع الوضع قبل رفع العقوبات، وهي مؤشرات بالطبع تغضب الرياض التي وجدت الفرصة المناسبة للمضيّ في حربها ضدّ إيران في ظلّ وجود رئيس أميركي كترامب، وتقارب بات واضح المعالم مع تل أبيب ما جعل الفرصة سانحة لإطلاق مشروع تخريب في الداخل الإيراني، فقد بريقه بعد أيام وعاد إلى نقطة الصفر بعد توقيع ترامب قرار التمديد لرفع العقوبات.
فشل ثلاثي العداء لإيران بإحداث خضة أمنية وسياسية في الداخل الإيراني، ترغم طهران على التراجع إلى داخل حدودها، ومع الفشل الذريع تثبت الجمهورية الإسلامية مكانها كلاعب استراتيجي فاعل وأساسي في الساحة الإقليمية والدولية يصعب سحبه بسهولة من مسرح الأحداث في المنطقة.