«امرأة على أجنحة الرغبة»… توارب حارسها الضمنيّ!
طلال مرتضى
من دون مواربة، يتلمّس قارئ المغاربية سلمى بو صوف، أنها أرادت ومنذ المطلع الأوّل لمرويتها الجديدة «امرأة على أجنحة الرغبة»، التي صدرت عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» ـ بيروت، مراوغة قارئها عبر السلطة التي مُنحت لها، وقت ذهبت بناصية المروية العليا ـ العنوان ـ نحو فتنة الإيهام وهو الحقّ المشروع بسنن النقد لصالح الكاتب، ويرد ذلك في مدوّنات جان جينيه النقدية، حيث برّر للكاتب اجتراع عنوان مخاتل ذي دلالات قد لا تشي بمضمون المرويّة أو المطبوع، وذلك لأسباب عدّة أوّلها إيقاع القارئ تحت تأثير العنوان من النظرة الأولى. هذا من ناحية، ومن ناحية تالية لعلّها أرادت منه عنواناً تسويقياً، وفي كلا الحالتين هذا مُجاز لها.
وبما أنّ ما وقّعته الكاتبة بو صوف يندرج تحت ما يسمّى «السيرة الذاتية» التي ولد من تحت عباءتها ما يطلق عليه المدوّنات أو اليوميات، والتي تعدّ من الأدبيات المعمول بها عالمياً، إذ إنّ مرتكبها يقوم بتدوين يوميات متّصلة منفصلة تأتي على شكل رسائل أو توثيق ما هو يوميّ!
وهنا، لا بدّ من الوقوف لبرهة لتبيان أمر هامّ في بنيان مثل هذه المرويّات التي تتخفّف السيرة، ألا وهو صيغة المتحدّث. فالمتعارف عليه أن جلّ ما هو سِيَريّ يدوّن عن الذات الكاتبة بعينها، أي يكتب المرء سيرته هو، وهنا تبقى سيرة المتحدّث مرتبطة بـ«الأنا» الكاتبة: عدتُ، ذهبتُ، عملتُ أكلتُ إلخ…
وهذا كثيراً ما يقتل السرد الشيّق لدى الكاتب، لا لعيب في المقدرة الكتابية بالمطلق، بل ينصاع الكاتب في هذا المجال لأوامر الحارس الضمنيّ في داخله والذي يدخل إلى ذات الكاتب من أبواب شتّى، بداية من المعتقد والاتجاه والعرق وغيرها وهي بحدّ ذاتها تقف أمام المبدع مثل مقصّ الرقيب الذي نجده يقف على رأس أيّ نصّ إبداعيّ، وتحت سلطة مطالبة الكاتب بأن يكتب الحقيقة كلّها من دون تزييف، أو يقوم بتقييده للذهاب في نصّه نحو مآرب أخرى. وهذا ما يجعل النصّ السِّيَرِيّ جافاً أو في كثير من الأحيان يقترب من الابتذال. فقول الحقيقة كما هي، يعني تدوين الحالة من دون زيادة أو نقصان، وفي حال النحو نحو المواربة نجد المادة مركّبة على شكل قطع، ما أن حاول أحد ما سحب قطعة واحدة ينهار مبناها الكلّي. وتلك هي علّة النصّ السِّيَرِيّ بكلّ شفافية.
وكي أتوقّف عند أوّل السطر، لا بدّ من قول فصل، بأن جلّ النصوص والكتابات السِّيَرِيّة تفقد الكثير من حرارتها التشويقية، وتبتعد عن الشعرية نظراً إلى معالجتها حالات توثيقية معاشة وقد تصادفنا في اليوميّ المعتاد!
في مدوّنة سلمى بو صوف «امرأة على أجنحة الرغبة»، أستطيع القول إنها أجادت في رسم خطّ متّزن لمرويتها منذ المطالع الأولى وصولاً إلى سدرة الخواتيم، حين عملت أوّلاً على تحرير الشخصيّتين الرئيستين للإدلاء بما لديهما كلّ على حدة، تحت فصول صوتية يعبرها القارئ تحمّل نفسَيْ، هو وهي.
وهذا ما أتاح لها بالاستفاضة لتبيان حجة كل منهما، وبالتأكيد كان هذا نابعاً من شعور داخليّ للكاتبة، والتي تخضع لسلطة الرقيب الضمنيّ بأن تقول هي كل ما حدث وكل ما تريد، وأن تتيح لندّها أيضاً أن يقول ما له وما عليه، وهذه سمة كثيرين من كتاب السّيرة، يتخفّفون بها للهروب من مواجهة أسئلة القارئ.
وفيما يسجل لها، أي الكاتبة، دمج قصة صديقتها الرسامة والتي تعاني من مرض نفسيّ أودى بها في نهاية المروية نحو الانتحار. كان تمرير حدث القصة التالية ضمن سياق مرويتها رافداً ومتّكأ أصيلاً، وأراه الداعمة الثالثة التي وقفت عليها المروية، حيث برزت هنا كلّ ممكنات الكاتبة لتوجّه من خلال تلك الممكنات معظم رسائلها والتي أشارت من خلالها إلى عملية الإقصاء القسرية للأنثى بحجّة الدين والعادات ووو… إلخ.
أشي هنا بأنها اتّخذت من تلك القصة ربما المتخيّلة متنفّساً، أو جعلت منها النافذة التي تستمدّ منها رحيق القوّة الكتابية، والتي ـ وبحسب طبيب زميلتها الذي جعل من الكتابة وصفة طبية ـ يمكن للمريض مزاولتها للخروج من مأزق ما وذلك حين يسرّ إلى روحه في الورق، فيما لا يستطيع الادلاء به أمام الآخرين.
بالتأكيد، كانت مرويّة بو صوف دليلاً أوّلياً نَهَج عبر فتنة الكتابة نحو ساحة التمرّد على ما هو طاغٍ.
وعوداً على ذي بدء، حيث تحدّثتُ عن سلطة العنوان الموارب، أجد أنني كنت مصيباً في ما قلت بعد معالجتي القرائية أحداثَ المدوّنة، وذلك حين وجدتها تقترب من روحها في حالات حميمية ظامئة لدرجة الحريق ،وذلك في خلسة أو في لحظة استغفال الحارس الضمنيّ، وذلك حينما ذهبت لمقابلة «عماد» حبيبها، نجد أن حارسها الداخليّ استفاق من غيبوبته، وهو ما أربك أصابعها كلّياً ليدخلها في حالة خَرَس تام ساهم المدقّق أو دار النشر في إتمام المشهد حينما لم يكلّف خاطره على الأقلّ بوضع نهاية الجملة ثلاث نقاط على السطر احترماً للقارئ الذي دأب في رسم هذا اللقاء في المتخيّل، لا لشيء بالمطلق، بل التنويه بأن هناك كلاماً نتركه في سرّك أيّها القارئ مثل كود مطلسم، وعليك كشريك فكّه بسلطة القراءة التي أتيحت لكَ.