التشكيليّة المغربيّة عائشة عرجي اللبار… فنانة تتجاوز المفاهيم الكلاسيكيّة
محمد البندوري
تلجأ التشكيليّة عائشة عرجي اللبار إلى تشخيص صور واضحة المعالم، وفق التتابعات التشكيليّة الواقعية في تحوّلاتها المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والبيئية والثقافية، تنجزها حسب المسلك الفنّي الذي ترغبه، فهي فنانة واقعية تعتمد تشكيل الفضاء، انطلاقاً من تثبيت الملمح التشخيصي للواقع، مروراً بالإسكابات التي تضفيها على منجزها، وصولاً إلى إدراك الحقيقة الفنّية والمعرفية التي تهدف إليها من خلال مختلف عملياتها الإبداعية.
لهذا تبدو أعمالها في مواجهة إيجابية مع القارئ، تتفاعل معه وتتجاوب بتلقائية، لأنها تقاربها بالواقع الاجتماعي والثقافي والبيئي، ولأنها تحمل مشاعر رقيقة، فتُتبدى ملأى بالمعاني والمغازي والدلالات العميقة. إنها سمات تغذّي أعمالها الفنّية، فهي تحاكي الواقع وتعبّر عنه بمشاعر صادقة. تحمل في عمقها رسائل واضحة إلى المتلقي.
إنّها تتخطّى ببراعة الواقعية الكلاسيكيّة في مشروع تصوري ينبني على أسس فنّية معاصرة، تروم معاني الانسجام بين الفكر والثقافة والفنّ، وفق مسلك التكتّل والتجمّع وتمثيل الواقع، ووفق التشكيل الحداثي الذي يسعى إلى تجاوز مجموعة من المفاهيم التي لم تعد تحيل إلى الأوصاف الصامتة، إلى إنجاز تمثُّل واقعي متكامل الأوصاف بآليات التعبير الفنّي والجمالي الحق، التي تسمح بمرور المادة الفنّية في قالب تعبيري دال، بإضفاءات فكرية وجمالية، تجعل القارئ أمام فهم سليم يخضع إلى التأويل وإنتاج المعاني.
وهو ما يحيل إلى المشروع الذاتي للفنانة عائشة عرجي اللبار، فأعمالها تتواشج على نحو تفاعلي جدليّ بين مختلف المكوّنات والمفردات الفنّية، وعملية التوظيف الإبداعي المتحرّك الذي يعتمد تدفّق اللون المعاصر وتكثيفه. إنه في واقع النقد التشكيلي انزياح إيجابي نحو المادة التشكيليّة الواقعية المعاصرة، وإرتماء في التعبير وفق طقوس ومفردات فنّية عالمة، إنها تقوم على أبعاد تشكيلية تفضي إلى اكتمال البعد الجمالي في صيغته النهائية التي تسمح ببناء قيمة الفضاء.
إنّ كلّ هذه الاستعمالات في منجز عائشة تقود إلى أسلوب تعبيري خارج عن المألوف، حيث إن التعبير هو أحد المكوّنات الرئيسية في الثقافة التشكيليّة، لذلك ينفّذ العمل الواقعي التعبيري إلى أعماق المشاهدين، عبر الرؤية البصرية والحسّ التفاعلي، الذي يؤجّجه الشكل التشخيصي والأسلوب الرائق الذي يعتبر أداة فنّية تستحوذ على النفس، وتؤطر مجال التفاعل بين القارئ والمادة الفنية المعاصرة.
وتلعب التقنيات المعاصرة والمؤهلات الكبيرة والقدرات العالية للفنانة عائشة عرجي دورا كبيرا في بلورة تصوراتها الفنّية، ما يؤهلها إلى سلك نهج الحداثة والمعاصرة من الباب الواسع، خصوصاً أنّها تتبنّى في حركتها الفنّية الحلول الواقعية، والأمل المستشرف لواقع أفضل.
إنّ ثمة روحاً من الواقع المعاصر لصيقة بالفنانة لا تقبل الانفصال عنها. فهي تأتي كطرح في سياق أعمالها الفّنية في إيجاد رؤية تشكيلية إبداعية تقاربها بالجمالية الواقعية الملفوفة ببعض من الرؤى المنبثقة من المشاهد الاجتماعية ومشاهد الطبيعة، حيث تحاول إعادة تشكيلها وفق بناءات فنّية جديدة، ووفق صيغ فنية بديعة، الشيء الذي يفضي إلى وجود حيز إبداعي يدحض البناءات الكلاسيكية إلى تشكيل أرضية فنّية بالطلاء الجزئي باللون المنفرد، أو بالطلاء الجزئي بالألوان المتناسقة التي تبث من خلالها نبرات المشاعر اتجاه الواقع، بموسيقى وحركة وموتيفات تنوعية لكن بمتعة الفنانة التي تجيد الرقص بالألوان والشكل بتحويلات فنّية وجمالية، وبسحر فنّي عميق الدلالة يُحقق نوعاً من الإيحاءات والمغازي والدلالات الجديدة، التي تُخرج المادة التشكيلية إلى حيز وجودي واقعي مغاير، يباشر العين والإحساس، كما يصنع دوراً فعّالاً لعملها الواقعي الواضح المعالم، في الابتكار وإحداث الجديد.
إنه أسلوبها الخاص في التعبير، ومشروعها الإبداعي الذي تستوحي من خلاله قضايا الإنسان الاجتماعية، وقضايا الطبيعة بإبداعات توازن فيها بين التركيب واللون والمساحة، وتحوّلها بإبداعاتها الخاصة إلى شعور بالدفء، لتخترق إحساس المتلقي بزرع القيم خدمة للرؤية المستقبلية. وهي رسالة الفنانة عائشة تحقّق بها نتاجاً عميق الدلالات، وتلامس بها إلى حد كبير الروح الإنسانية، بل تشعل بها وهجاً تشكيليّاً عميقاً بتصوّراتها الهادفة والموشومة بدفء البحث عن مخارج الأمان والراحة النفسية للجميع.
تُبدع ذلك وترسله بأسلوب تشكيلي جديد، تسعى من خلاله إلى أخذ منه مادة أخرى لاجتياز المستهلك إلى المستجد، إنها فلسفة تلفّ أعمالها الفنّية التي تحظى بالتقدير والاحترام في الأوساط الفنّية والثقافية المغربية والعربية والدولية.