«تحالف الأوهام» الجوي لأوباما: هل تبدأ تعديلات الاستراتيجية من البوابة التركية
سخّرت مراكز الأبحاث معظم إنتاجها واهتماماتها لمعركة عين العرب كوباني، وخيبة أملها من نتائج الغارات الجوية «المثيرة للسخرية» في استهداف مسلّحي «الدولة الاسلامية».
سيستعرض قسم التحليل تقدم مشروع «داعش» على الرغم من استمرار الغارات الجوية، وكذلك تردّد تركيا في اتخاذ موقف فاعل بصرف النظر عن التصريحات النارية لقادتها واستقراء خيارات الرئيس أوباما عقب إخفاق حملته بتحقيق أهدافها، الأمر الذي يستدعي منه اتخاذ إجراءات وتدابير أخرى في المنطقة.
استشراف مستقبل الامبراطورية الأميركية
سعى معهد أبحاث السياسة الخارجية إلى الإجابة على سؤال يتبلور في أروقة النخب الفكرية الأميركية حول قتامة مستقبل الولايات المتحدة، خاصة أستاذ العلوم الطبيعية والرياضيات في جامعة كونتيكت، بيتر تورتشين الروسي الأصل ، وإنتاجاته حول «العصبية» أو النظرية في المنهج التاريخي لابن خلدون مستنداً الى علم الرياضيات وتفسير ابن خلدون لتحويل التاريخ الى علم صارم قادر على التنبّؤ وان «كل عصبية او حضارة تحمل في طياتها بذور سقوطها،» قائلاً: ان الولايات المتحدة مقبلة على اضطرابات أهلية كبرى وعنف سياسي في زمن ما مع نهاية العقد الحالي 2013 . تورتشين صاحب نظرية «دينامية التاريخ،» ومن أهمّ إنتاجاته كتاب «الحرب والسلم والحرب».
وقال المعهد انه ينبغي التقدم بحذر وروية لإحداث التغييرات المطلوبة لمسار معيّن، اذ انّ «رغبتنا المثالية لإحداث قفزات كبيرة تؤدّي الى نتائج فورية عادة ما تفاقم الأوضاع من سيّئ الى اسوأ، وتقتضي جهوداً اضافية، بينما أنصار الواقعية يطالبون بتطبيق حذر للقوة.»
«الدولة الاسلامية» وتداعياتها المتعدّدة
انفردت مؤسسة هاريتاج بالنظر الى «مجموعة خراسان» كإطار ينبغي «للولايات المتحدة العمل على إلحاق الهزيمة به، لا سيما أنّ خطره على اميركا سيتعاظم»، وحثت الولايات المتحدة على تنويع أساليب تصدّيها بالإضافة إلى العمل العسكري «وبلورة استراتيجية شاملة عريضة لإلحاق الهزيمة بـ«القاعدة»… وتبنّي تحوّلات نموذجية في رؤيتها، منها وقف العمل بمفهوم تهديد «القاعدة» على أنه مسألة تخصّ أجهزة الشرطة بالدرجة الاولى، واعتماد برنامج شامل في المستويات السياسية والعسكرية والايديولوجية لإلحاق الهزيمة بتموضعات «القاعدة» على المستوى العالمي».
طالب معهد كارنيغي دول الاتحاد الاوروبي الارتقاء الى مستوى التحدي الذي تمثله الدولة الاسلامية، وعدم النظر اليها كتهديد إرهابي عادي بل تتميّز «بسيطرتها على مناطق شاسعة من الأراضي وآبار النفط، وكمّ هائل من العتاد العسكري وإمكانيات مالية معتبرة فضلاً عن جهودها المكثفة لاستدراج وتجنيد مقاتلين أجانب في صفوفها…»
اعتبر معهد ويلسون انّ الإدارة الاميركية «تتبنى الخيار العسكري ضدّ الدولة الاسلامية من دون مواكبة استراتيجية سياسية أبعد من الاستناد الى رغبات ذاتية.» كما أعرب عن العقبات التي تعترض بلورة استراتيجية فعّالة نظراً «لعدم تحكّم الولايات المتحدة بالأوضاع السياسية في العراق او سورية… فضلاً عن تباين مصالح القوى المشاركة في الائتلاف الاقليمي، وكذلك تباين المفاهيم حول درجة الخطورة من التهديد ومصدره، الى جانب اختلاف في الأهداف المرجوة».
حثّ معهد بروكينغز الإدارة الأميركية على تكثيف الجهود «لإنشاء جيش سوري جديد» كبديل لكافة تشكيلات المعارضة السورية المسلحة «وفق عقيدة عسكرية اميركية تتبنى اسقاط النظام وتسلّم مقاليد الحكم في البلاد.» وفي الدراسة الصادرة عن المعهد، نبّه صنّاع القرار الى عدم النظر او الالتفات الى «نشر قوات برية اميركية في سورية… بل ينبغي حث كافة عناصر الفصائل المسلحة الحالية والجيش الحر على التسريح والانخراط التام بتشكيلات الجيش الجديد،» الذي سيجري تدريبه خارج الأراضي السورية «بما فيها السعودية» تدريباً مكثفاً «يستغرق 12 شهراً تقريباً».
كما طالب المعهد ان تتولى دول الخليج العربي «تحمّل الجزء الأكبر من الكلفة، او بشكل كامل» التي «يُتوقع ان تصل إلى نحو 10 مليارات دولار».
أميركا وحلفاؤها العرب
تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «النزعة الأميركية لانتقاد أصدقائها… من الدول العربية» وتعميم اتهام كل من يخفق في تسخير الجهود «لمحاربة الإرهاب والتطرف بأنه يدعم حركات التطرف الإسلامي.» وطالب صنّاع القرار التحلّي «بالواقعية وتحديد طبيعة الشراكة الاستراتيجية» مع كافة الاطراف. كما حثّ الجانب الأميركي على «عدم المضيّ وراء توقعاته بقيام الحلفاء العرب بتغيير نظم حكمهم كي تصبح نسخة عن النظام الاميركي، او التخلي عن قيمهم وأولوياتهم ومصالحهم الاستراتيجية،» اذ ان «الحكومات العربية الحليفة تواجه قيوداً كبيرة حيال ما بوسعها تنفيذه كحليف من عدمه.»
في السياق عينه، وجه معهد كاتو نقداً لاذعاً إلى السعودية نظراً إلى الضرر الناتج عن التحالف الأميركي معها، ووصفها بأنها «عضو مثير للشكوك… تافه وغير جدير بالثقة في الائتلاف المناهض للدولة الاسلامية»، مسلّطاً الضوء على «سياساتها «البربرية في قطع الرؤوس المماثة لداعش»… اذ اقدمت على جز عنق نحو 46 شخصاً في العام الجاري وحده، نصفهم على الأقل اتهم بارتكاب جرائم غير عنفية.»
واضاف المعهد انّ «السعودية تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن صعود داعش بالدرجة الاولى… وقسم كبير من المعونات المالية السعودية ذهبت لصالح الفصائل المتشددة في سورية والتي شكلت نواة قوات داعش». وطالب القادة الغربيين بـ«إجراء إعادة تقييم ملحة لفرضياتهم المسبقة حول دوافع الرياض بالانضمام للائتلاف».
عين العرب – كوباني
اعتبر معهد واشنطن انّ تردّد تركيا بالتدخل ضدّ «داعش» وضعها أمام خيارين: «إما نشر أسلحة ثقيلة للدفاع عن كوباني، او تقبّل سيطرة الدولة الاسلامية على ذلك الجيب من المناطق المحاذية للحدود معها». واضاف «انّ الخيار الثاني يفرض تحديات جديدة على تركيا، منها توفير الذريعة لحزب العمال الكردي تحريض الاكراد في تركيا ضدّ أنقرة، التي يحمّلونها مسؤولية سقوط المدينة… مما يهدّد استقرار البلاد خاصة في الجزء الجنوبي الشرقي».
ايران
بحث مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مسألة «الأهداف الاستراتيجية لقوات إيران الصاروخية… التي تعاني حالياً من تواضع المديات الفتاكة للأسلحة، مما يوفر حوافز لإيران بتحميلها رؤوساً نووية ورؤوساً حربية تقليدية دقيقة.» واضاف «ان مجموعة 5+1 تتحمّل مسؤولية فرض قيود على إيران لتحميل أسحلتها رؤوساً نووية… وينبغي على الولايات المتحدة والدول المجاورة لإيران البدء بتحضير سبل ردعية مناسبة وقدرات دفاعية تعالج قدرات إيران على زيادة دقة الإصابة ولمدى اطول…»
تواضع حصاد الغارات الجوية
هناك إجماع شبه تام بين القادة العسكريين والسياسيين الأميركيين بأنّ الغارات الجوية ضدّ مواقع الدولة الاسلامية أسفرت عن نتائج متواضعة لا تذكر، بعد مضيّ أكثر من 60 يوماً على حرب الائتلاف الأميركي الجوية ضدّ داعش الذي يعزز مواقعه ويحقق إنجازات على الارض، في سورية والعراق، وأصبح على بعد نحو 10 كلم من محيط مطار بغداد الدولي، كما أكدت شبكة «سي بي اس» الاميركية للتلفزة، واحتلّ بعض احياء مدينة عين العرب السورية».
دخول «داعش» مدينة عين العرب ينذر «بمجزرة رهيبة قادمة،» كما يحذر الزعماء الاكراد، ويرون ان «داعش سيُقدم على الفتك بنحو 5,000 مدني خلال 24 36 ساعة من دخوله المدينة، والتي ستتفوّق بشاعتها على المجزرة السابقة للأقلية الايزيدية في العراق».
شبكة سي ان ان للتلفزة وصفت تواضع إنجازات «الغارات الجوية للائتلاف، والتي «دمّرت دبابتين لداعش، وجرافة وعربة عسكرية اخرى». هزالة الانتصارات اضحت مصدر تندّر عند معظم وسائل الإعلام، اذ قالت يومية «انفستر بيزنس ديلي،» لشؤون الاستثمار والاموال: «ترسل اميركا مقاتلات متطورة باهظة الثمن لإطلاق اسلحة موجهة بالليزر لاصطياد جرافات ثابتة. أمر مثير للشفقة».
حرب مفتوحة لمدة 30 عاماً
أضحت استراتيجية الرئيس أوباما، لتقويض واحتواء «داعش»، اثراً بعد عين، كما وصفتها صحيفة «الاندبندنت» البريطانية، ونالت قدراً واسعاً من الانتقاد من كافة الأطياف السياسية، مؤيدين ومعارضين، كان آخرهم وزير الدفاع الأسبق ليون بانيتا. في كتابه الصادر حديثاً، «معارك جديرة،» شنّ بانيتا سلسة انتقادات لسياسة أوباما في العراق وسورية، معتبراً أنها هي التي «أدّت الى بروز الدولة الاسلامية».
تنبّأ بانيتا بحرب طويلة تشنّها الولايات المتحدة ضدّ الارهاب تمتد لثلاثة عقود، خلافاً للسنوات الثلاث التي وعد بها الرئيس أوباما. وقال في تصريح لصحيفة «يو اس ايه تودايه» في 7 تشرين الاول الجاري: «اعتقد أننا امام حرب مدّتها 30 عاماً… والتي ستمتدّ بالضرورة لتشمل مناطق أبعد من تلك المسيطر عليها من داعش، وتتضمّن تهديدات بارزة في نيجيريا والصومال واليمن وليبيا ومناطق أخرى». بعبارة موجزة يعدنا «الناطق بلسان معسكر الحرب» بحرب مفتوحة الآفاق الزمنية والمكانية سياسة اميركية خارجية عمادها الرئيس حروب مفتوحة «تدرّ أرباحاً طائلة على شركات الأسلحة نظراً غلى ارتفاع ملحوظ في النزاعات العسكرية عبر العالم».
«صناعات القذائف والصواريخ وطائرات الدرونز وأسلحة أخرى تستخدمها الولايات المتحدة لاستهداف مقاتلي داعش في سورية وفي العراق،» هي المستفيد الأكبر من الحرب المفتوحة، كما نقلت شبكة «بلومبيرغ» الإخبارية عن شركة لوكهيد مارتن، 7 تشرين الاول الجاري. واشارت الشبكة أيضاً الى استخدام مقاتلي «داعش» اسلحة وذخيرة اميركية الصنع، مما يسيل لعاب تلك الشركات التي تزوّد كافة الاطراف المنخرطة في «صراع مفتوح الأجل… يغيب فيه تحديد ملموس للطرف العدو وتبرير لا ينضب للحرب.»
في معرض تفسير قصور الغارات الجوية قالت صحيفة «واشنطن بوست،» وما تمثله من قوى ومصالح، والتي أسفرت عن نتائج «شبيهة بالحملة الجوية ضد طالبان عام 2002،» اوضحت ان الفارق الاساس بين التجربتين يكمن في طبيعة سلاح الجو «اذ ليس بوسع أطقم المقاتلات الاميركية الاعتماد على استطلاع القوات الخاصة لتحديد الأهداف، في ظلّ استبعاد الرئيس أوباما نشر مثل تلك القوات براً على الرغم من مطالبة القادة العسكريين بذلك.»
أميركا قلقة ايضاً من سرعة اندفاع «داعش» نحو بغداد وتمركزه على تخومها بمسافات قصيرة تمكنه من استهداف المطار الدولي بقذائف المدفعية، مما دفع وزارة الخارجية مؤخراً لطمأنة الشعب الاميركي بخطل الانباء التي تحدثت عن تعرض «المنطقة الخضراء» الى قصف بقذائف الهاون من قبل «داعش». بيد ان التنظيم توسع واستقرّ في مناطق اخرى من العراق، منذ الاعلان عن بدء الغارات الجوية، شملت مدينة هيت على ضفاف نهر الفرات، ومحاصرته لمناطق مجاورة في الرمادي عاصمة محافظة الأنبار.
الغارات الجوية «للائتلاف» كانت نتائجها «عقيمة تماماً،» على الرغم من الحملة الإعلامية المكثفة لترويجها. واقرت وزارة الدفاع الاميركية ضمنياً بفشل الغارات الجوية في العراق من تحقيق أغراضها بإعلانها عن إدخال طائرات الأباتشي المروحية لساحة القتال كعنصر إضافي يعزّز المرونة في شنّ العمليات العسكرية، مما حدا ببعض الساسة والمعلقين إلى القول إنّ استدخال الاباتشي يؤشر على تعاظم نية الإدارة نشر قوات برية بصيغة أخرى.
إعادة تصويب الاستراتيجية
في العرف الأميركي من النادر ان يقوم رئيس الدولة بزيارة وزارة الدفاع اذ يلتقي بالقادة العسكريين والاطقم الداعمة لهم في مكتبه بالبيت الابيض. بيد انّ الرئيس أوباما اعلن مسبقاً منتصف الاسبوع الجاري عن نيته التوجه إلى البنتاغون والتحدث مباشرة مع قادة القوات والقادة الميدانيين الأمر الذي يدلّ إلى توفر النية لديه لإدخال بعض التعديلات على استراتيجيته المعلنة ضدّ «الدولة الاسلامية»، لا سيما أنّ الزيارة تمّت في ظلّ تنامي مطالب قطاعات مختلفة بالنظر في إدخال قوات برية تعوّض قصور إنجازات الحملة الجوية.
أوباما، ومع حلول موسم الانتخابات النصفية والتحالفات الحادة، يحسب كلّ خطوة يمكنه الإقدام عليها ويضعها في ميزان تفاعلاتها وتداعياتها مع ارتفاع او انخفاض نسبة شعبيته، وبالتالي مرشحي حزبه الديمقراطي. في هذا الاطار، رفض الرئيس أوباما في شهر ايار الماضي طلب رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي، لطائرات الدرونز او المقاتلات الاميركية شن غارات على مواقع «داعش» بعد ان نال تأييد قائد القيادة المركزية، لويد اوستن. أهمل الرئيس أوباما الطلب لعدم اقتناعه بالمردود السياسي.
تنامى الضغط الداخلي من القادة العسكريين والساسة واعضاء الكونغرس «للنظر بخيار نشر قوات برية»، فأوعز أوباما بإرسال إشارات تدلّ إلى نيته اتخاذ إجراءات وتدابير مغايرة لسياساته المعلنة. اما وزارة الخارجية، بطبيعتها وتفضيلها التحرك الديبلوماسي، فقد رفضت الخيار العسكري المنشود، وصرح وزير الخارجية جون كيري في منتصف الاسبوع ان «الحيلولة دون سقوط مدينة كوباني السورية في أيدي الدولة الاسلامية لا تعدّ هدفاً استراتيجياً للولايات المتحدة،» في تباين واضح مع سلفه هيلاري كلينتون التي كانت تحبّذ استخدام القوة لدى استعصاء الحلول السياسية.
وحث كيري جميع الأطراف الاميركية المعنية «باتخاذ خطوة تراجعية بغية استيعاب الهدف الاستراتيجي… لمراكز التحكم والسيطرة والبنى التحتية للدولة الاسلامية، وحرمانها القدرة على شنّ هجمات ليس في كوباني فحسب، بل في عموم الأراضي السورية وامتداداً الى العراق.»
ولفت كيري النظر الى تعاطفه مع فكرة «إنشاء منطقة عازلة بين سورية وتركيا… انها فكرة جديرة للأخذ بها في عين الاعتبار…» بالمقابل، يسعى حلفاء اميركا من الدول الاوروبية إلى استدراج الرئيس أوباما لنيل موافقته على المنطقة العازلة، كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.
وزير الخارجية البريطاني، فيليب هاموند، ايضاً أيدها بحذر قائلاً: «ينبغي بحثها مع حلفائنا وشركائنا» والاستقرار على مفهوم موحّد لما تعنيه المنطقة العازلة «بيد انني لا أستثني ذلك في المرحلة الحالية.»
يرتكز الجدل داخل الأوساط الاميركية على التدابير التي بوسع الولايات المتحدة اتخاذها لإنقاذ مدينة عين العرب كوباني، وحيثيات الاستراتيجية التي يمكن ان يقدم عليها الرئيس أوباما لوقف اندفاع وتمدّد «داعش». ليس بوسع أميركا الآن او في المدى المنظور استخدام قواتها البرية في حرب أخرى بعد النتائج الكارثية لسياساتها في افغانستان والعراق، التي لا يزال يتردّد صداها في أذهان الشعب الاميركي الرافض لمزيد من الانخراط العسكري الفاعل في مناطق اخرى.
وعليه، الخيار المتوفر للولايات المتحدة يستند الى حشد وتدريب قوات محلية للتصدي لـ«داعش»، الأمر الذي سيستغرق فترة زمنية طويلة نسبياً وربما هذا بالضبط ما يمكننا استخلاصه من تصريح ليون بانيتا بالحرب المفتوحة «ولمدة 30 سنة.»
عقبات عدة تعترض نضوج قوات الجيش العراقي، الذي راهنت عليه أميركا طويلاً، لتسلّم زمام الأمور والتصدي لـ«داعش» بغية استعادة سيطرة الدولة على مدينة الموصل. جاء ذلك على لسان منسّق الائتلاف الدولي، الجنرال جون آلان، لصحيفة «نيويورك تايمز» مطلع الاسبوع الجاري موضحة انّ ذلك «يدلّ على التحديات الهائلة التي تواجهها القيادة العسكرية العراقية وشركائها الدوليين كذلك.»
تطمح الولايات المتحدة الى «إنشاء جيش سوري جديد» بديل لكل التشكيلات المسلحة الحالية، بما فيها «الجيش الحر»، قوامه 15,000 عنصر ينبغي التدقيق في خلفيـة وولاء كلّ منهم على حدة، والذي سيوكل بمهمة «القوات البريـة» البديلة عن القوات الأميركية، ويتطعّم بالعقيدة القتالية الاميركية، كما ورد على لسان القادة العسكريين في البنتاغون. تدريب وتسليح العناصر سيستغرق نحو 12 شهراً، في المعدل، يتمّ إعدادهـا لمرحلة لاحقة.
اما في المرحلة الراهنة فإنّ الطرف المرشح للإسهام بقوات برية، كما ترغب البنتاغون، فهو تركيا التي يدخل في حساباتها الاعتبارات الإقليمية والتوازنات الدقيقة، والتي إلى حدّ اللحظة لم تتجاوز إجراءاتها التصريحات الكلامية. وكما أشرنا سابقاً، فإنّ الأهداف الاميركية والتركية غير متطابقة بالكامل في ما يتعلق بسورية بعد مضيّ قرابة أربعة أعوام على الصراع المسلح. هدف تركيا الرئيس اسقاط الرئيس الاسد، اما الولايات المتحدة فقد اثبتت الوقائع السياسية والميدانية تراجعها عن هذا الهدف وإعلاء «تقويض الدولة الاسلامية» في المرتبة الأولى. كما انّ الولايات المتحدة لا تمانع قيام كيان كردي في المناطق السورية، مما يثير ذعر انقرة التي ترفض رفضاً مطلقاً اي تعبيرات او تجليات تؤكد على الهوية الكردية.
الرئيس التركي أردوغان أعلن مراراً رغبته بإنشاء «منطقة عازلة» داخل الاراضي السورية وفرض حظر الطيران في أجوائها كشرط مسبق لدخول قوات برية تركية أرض المعركة. كما يبدي ارتياحاً بيّنا لسقوط مدينة عين العرب الحدودية باغلبيتها الكردية في ايدي «داعش» من دون ان يحرك ساكناً.
الجانب الأميركي يعتبر اشتراط أردوغان تبريراً لعدم دخول تركيا النشط، اذ انّ الغارات الجوية فوق مدينة كوباني أدّت الى حظر حركة الطيران السورية هناك. وعلّق مسؤول رفيع المستوى في البيت الأبيض لصحيفة «نيويورك تايمز» على تردّد تركيا بأنها «تخلق أعذاراً لعدم المبادرة وتفادي كارثة إنسانية أخرى.» واضاف موبخاً أنقرة: «هذا التصرف لا يعكس آلية عمل حليف للناتو بينما تفتح ابواب الجحيم على بعد مرمى حجر من حدوده.»
اقتصر دور تركيا الفعلي، في المرحلة الراهنة، على الانضمام إلى جهود الائتلاف حرمان «داعش» من عائداته المالية، اذ تعبر شاحنات نقل النفط الاراضي التركية وتصدر عبر موانئها ايضاً. وقد فرضت حجراً على استخدام «داعش» الاراضي التركية، كما اوردت وسائل الاعلام المختلفة، وفرضت قيوداً اخرى للحدّ من قدرة «داعش» شراء ذخيرة وقطع غيار للمعدات الثقيلة التي استولى عليها.
لجأ اكراد تركيا الى التظاهر والاحتجاج في المدن الرئيسة تنديداً بإغلاق تركيا المنافذ الحدودية مع مدينة عين العرب كوباني المهدّدة بالسقوط، ومنعت الإمدادات البشرية والمتطوّعين من الهبة لنجدة أقرانهم عبر الحدود. استخدمت الحكومة التركية قوات الشرطة والجيش للتصدي وقمع الاحتجاجات مما أدّى إلى سقوط ما لا يقلّ عن 19 قتيلاً وجرح 145 في المظاهرات التي عمّت الاراضي التركية، وفرضت حظر التجوّل على مدن ماردين وسييرت وباتمان وفان.
تجلت تداعيات أزمة كوباني في انخفاض قيمة الليرة التركية سبقتها تخفيض مكانة الاقتصاد التركي من قبل الشركات المالية الاميركية، الأمر الذي أثار قلق المستثمرين الأجانب وكذلك هاجس تدخل تركيا في سورية. توفر السيولة المالية العالمية أمر حيوي للاقتصاد التركي، نظراً إلى نسبة العجز العالية في ميزان المدفوعات والذي تضطر الحكومة التركية للاقتراض من الأسواق العالمية مرة تلو أخرى لتغطية نفقاتها. نائب رئيس الوزراء التركي، علي بابكان، أقرّ في 8 تشرين الأول ارتفاع معدل التضخم في الاقتصاد التركي الى نسبة 9.4 ، بما يقرب من ضعف التوقعات السابقة بنسبة تضخم 5.3 للعام الجاري.
احد المخارج للحكومة التركية يكمن في عدم قيامها بالتدخل وتأزيم الاوضاع الاقليمية، وهو ما قد يلجأ اليه الرئيس أردوغان وحكومته للتكيّف مع مطالب المؤسسات الاقتصادية الكبرى في البلاد. ان امتنعت تركيا عن المشاركة الفعّالة في التصدي لـ«داعش» عسكرياً، فما يتبقى هو خيار الغارات الجوية واستمرارها للدول المشاركة في الائتلاف، وربما بعض العمليات الموكلة للقوات الخاصة القيام بها.
خيارات الرئيس أوباما
يتضمّن الاستعراض السابق بعض العوامل الضاغطة والتي تدفع بالرئيس أوباما إلى إعادة النظر في استراتيجيته المعلنة وإدخال تعديلات مطلوبة، لا سيما لإدراكه تنامي معارضة الشعب الأميركي لسياساته المعلنة عززها حادث جزّ عنق امرأة اميركية في ولاية اوكلاهوما مؤخراً. الأمر الذي يستدعي بلورة سياسة أوضح نحو «داعش» تسهم في تراجع التهديد الإرهابي للداخل الأميركي وللحلفاء أيضاً.
لا تبدي المؤسسة الحاكمة حماساً لانخراط قوات برية اميركية، كما اسلفنا، مما يستدعي من الرئيس أوباما تقديم بعض التنازلات لإرضاء تركيا تتضمّن تطبيق محدود لمنطقة عازلة، مقرونة ببعض الإجراءات لمنطقة محدودة لحظر الطيران. ويبدو ان التفاهم الذي توصل اليه الجنرال الاميركي المنسّق للتحالف مع الجانب التركي حول تدريب وتسليح ما يُسمّى بـ«المعارضة السورية المعتدلة» يشكل حلا مُرضيا وسطيا يؤجّل التباين حول ترتيب الاولويات في المسرح السوري.
تردّد العامل الاميركي في الائتلاف، برفد قوات برية مهمتها تطبيق الاهداف المعلنة، يضاعف الاعتماد على قوات الجيش التركي، مع الأخذ بعين الاعتبار تباين اهداف الطرفين المباشرة، وعدم نضوج تشكيلات قوات المعارضة ودخولها كعامل مساعد. الأمر الذي يقود الى الاستنتاج بأنّ الازمة ستطول، وربما لن تسير على هوى الرغبات الاميركية.